Al-Quds Al-Arabi

السحرة قريبا على عرش العالم

-

■ في العصــر القديم ســاد الاعتقاد، بأن الســحر ممارســة شيطانية، وبحلول العصور الوسطى، ســواء في العالم العربي المتقــدم حينئذٍ، أو فــي العالم الغربــي المتخلف آنــذاك، قررت الشــعوب القضــاء على أنصار إبليس، لما ينشــرونه من فســاد وممارســات وثنية تتنافى والمنظومة الأخلاقيــ­ة.. أفعال تحول البشر إلى حيوانات شــهوانية، ولا عجب حينما اتحدت شعوب العالم بطريقة شبه متزامنة للقضاء على السحرة والمشعوذين.

وأفضى تفشي الإيمان في العالم الغربي إلى اندلاع حملة شعواء لإبادة السحرة، فظهرت حركة «مطاردة الساحرات» التي كان فيها الحكام والأفراد يطاردون من يشتبهون في قيامهم بأعمال السحر والشعوذة، ثم يقومون بحرقهم أحياء. وهكذا، تم القضاء تقريبا على ممارسي السحر. وكم تم اتهام أبرياء بممارسة السحر، وكان الموت حرقًا نصيبهم، فحزن الغرب على ظلم الأبرياء، وتوقفوا عن تلك المطاردة الشعواء، بعد التأكُّد من القضاء على رؤوس الفساد، لكن هيهات، فقد توارى بعض السحرة عن الأعين، وأخذوا مزاولة نشــاطهم المحرَّم على نحو خفي، بعيدا عــن الأنظار، في جماعات صغيرة غير ملحوظة، لا يدركها إلا أقرب المقربين.

وفي العالم العربي، كان الوضع مماثلاً، وكان انتشار الدين هو الرادع الذي قضى تباعا على أتباع إبليس؛ للاعتقاد الســائد بأن كل من يتبعه ملعون. ولعل قصة النبي موســى والســحرة بداية الدعوة لنبذ الســحر؛ لأن كيد الشيطان وأتباعه ضعيف أمام قوة معجزات الخالق. وأكدت معجزات النبي عيسى ذلك، وبعدها كان الدين الإســامي وما ذُكر فيه من لعنة الشيطان وأتباعه إلى يوم الدين. ومــن ثم، توارى فلول الســحرة وأتباعهم عن الأنظار، لما طالهم من اضطهاد، سواء أكان صريحا أم خفيا؛ لأنهم ينادون إلى نبذ الاعتقاد في معجزات الخالق، واستبدالها بكيد الشيطان.

ولعلــم المجتمــع ورجــال الدين أن ممارســة أعمال الســحر والســحرة لم يتم القضاء عليهم نهائيا، وجدوا وجوب التحذير من خطر الانــزلاق مرة أخرى في ذلك الفــخ الوثني. وكانت خير وســيلة للوصول لجميع أطياف الشــعوب هي استخدام وسائل الإعــام آنذاك، والمتمثلة فــي الأدب والفن. ففــي العالم الغربي، نجد أن المســرح والدرامــا والقصص حذرت بشــكل صريح من خطر السحر وممارســات­ه، مثل مسرحية «دكتور فاوستس»

للكاتــب الإنكليزي كريســتوفر مارلــو، التي تعالج مشــكلة اتخاذ السحر وســيلة لحل المشــكلات والوصول لأعلى المراتب في الحياة الدنيا، مقابل التسليم الكلي للشيطان والإيمان به وبمعجزاته، لكن النهاية المحتومة لكل من يفعل ذلك هي الهلاك في أبشــع صورة. ولــم تكن فكرة تلك المســرحية وليــدة القرن السادس عشــر في إنكلترا، بل تعود أصولها لأسطورة فاوستس في الدول الأســكندن­افية القديمة في العصور الســالفة لانتشار الأديان السماوية.

أما في العالم العربي، فكان الشــعر والحكايات من أهم وسائل الإعلام التي تخاطب العامة، والتي من خلالها كان الترويج لفكرة نبذ السحر والســحرة، فنجد مثلًا الأشــعار تحتوي على أسطر شعرية تحقر من شأن فعل السحر وأنه لا خير فيه. أما الحكايات، ومن أشهرها «كليلة ودمنة» فركزت بعضها على ممارسات السحر والسحرة، وأكد السياق الدرامي فيها أن أعمال السحر لا تفضي إلا للفتن والمؤامرات التي سوف تنكشف حتما ويعاقب كل من قام بها. وعلى هذا الأســاس، صار هناك اتجاه عالمي يُدمغ كل من يمارس تلك الأفعال الشــيطاني­ة، أو يلجأ لمن يمارســها؛ ليس فقط بالكُفر بل الجنون. وبعد وصول الإنســان لدرجات عظيمة من التقدم في جميع المجالات، صار العلم صانعا للمعجــزات، وله قدرة لا مثيل لها في تحقيــق الأماني والأعمال التي كانت تعد ضربا من ضروب الســحر في العصور الســحيقة، فصار العلم للإنسان هو السحر المكــن. لكن، في ما يبــدو أن لكل قمة قاعــا، وأن عصور الازدهار كما تخبرنا دارة التاريخ تردفهــا أخرى من التخلف والانحطاط. ففي إطار البحث فــي كل ما هو غريب، والتصالح مع جميع القوى وأطياف البشــر، يتفشــى حاليا تيار محموم يســعى إلى نشــر ممارسات الســحر مرة أخرى، والترويج للسحرة على أنهم بشر ذوو قدرات خارقة. فمنذ تســعينيات القــرن الماضي بدأ الترويج للسحر وممارساته بصورة غير مباشرة، من خلال وسيلة الإعلام الشــعبي الفاعلة وهي الدراما، سواء السينمائية أو التلفزيوني­ة، التي جعلت الشــباب يقبلون على ذلك النوع من الأعمال، وكثيرا مــا يتعاطفون مع أبطــال العمل الدرامي تحت شــعار أنهم مجرد بشــر ذوي قدرات خارقة هناك الشرير منهم، وهناك الطيب الذي يســتخدم قدراته في مســاعدة الآخرين. والاختلاف لا يصح أن يكون السبيل للتنمر والكره، كما يتم ترديد ذلك.

وفي خطوة غير مسبوقة منذ مســتهل الألفية الثالثة، بدأ نشر تعاويذ سحرية على شبكة الإنترنت في مواقع متاحة للجميع. وتم تقسيم التعاويذ لســحر أبيض ضعيف، هدفه تأدية مهام سامية، وآخر أســود قوي المفعول، لكن من يقوم به يجب أن يقترف أعمالا تتنافى وتعاليــم الأديان. وللأســف، وجد الشــباب في الأخير ضالتهم المنشــودة التي تجعلهم يقومون بممارســات تشابه ما يحدث فــي الأفلام. أما الخطر الداهم حاليــا، فهو الترويج لقدرة السحر الأسود بطقوسه التي تتضمن القرابين، واقتراف الفاحشة على إصلاح ما أصاب البشــر من فساد. ولشــديد الأسف، أن تلك الفكرة تنطلق من دراما تلفزيونية عالمية جعلت النظرة الســلبية لممارسي السحر الأســود تتحول لإيجابية؛ لأن الطقوس الغريبة يمكن أيضا اســتخدامه­ا في فعل الخير، وليس اقتراف الشــرور فقط. وعلى هذا، صارت ممارسة السحر الأسود، خاصة في العالم الغربي ليست محل انتقاد سافر كما كان الوضع في ما سبق.

وفي ما يبدو أن تسلسل تحويل نظرة الإنسان للسحر الأسود في العالم العربي في ســبيلها للتبدل إلى أخرى إيجابية. فالعديد مــن الأعمال الدرامية، خاصــة تلك التي تُذاع في شــهر رمضان، ويلتف حولها الملايين من ســكان العالم العربي قاطبة، إما تناقش موضوع الســحر، أو تحتوي على مشــاهد لممارســة السحر، أو اســتحضار الجان أو مس الجان للبشــر. والهدف من تكرار تلك المشــاهد هو اعتياد وجودها، الذي يفضي إلى عدم اســتهجانه­ا، بل، قد يتحول إلى تعاطف يفضي إلى نشــر شعور بالتعاطف مع السحرة. تفشــي تلك الظاهرة على نطاق عالمي بشكل ملح، يدعو إلى الوقوف عندها والتفكير في الهدف الحقيقي لانتشــاره­ا على نحــو متزامن، فهل هي مجرد مصادفة بحتــة؟ أم أن هناك اتجاها سائدا لاســتحضار القوى الظلامية لتحقيق مآرب بحثية جديدة. لســوف يجيب التاريــخ على هذه الأســئلة. لكن إلــى أن تأتي الإجابة، من المتوقع ســقوط ضحايا لا حصر لهــم ولا عدد كعبيد لتلك الممارسات.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom