Al-Quds Al-Arabi

حملات جديدة في سوريا

- رياض معسعس ٭ "

ارتبطــت الحمــات الصليبيــة التــي اســتهدفت ســوريا في نهاية القرن الحادي عشــر، بشــكل خاص، بفرنســا كــون فكرة الحملــة وانطلاقتها جاءت بعــد دعوة البابا أوربــان الثاني فــي مدينــة كليرمونت فران الفرنســية حيث عقد مؤتمرا في 27 تشــرين الثانــي/ نوفمبــر 1095 وأمــر بالتوجــه إلى فلســطين "لنجــدة النصــارى الشــرقيين"، ولحماية الحجاج المســيحيي­ن الذين يعانون "مــن ظلــم وبطــش الكفار" فــي إشــارة إلى المسلمين إذ جاء في خطبته:

"ومــن ثَــمَّ فإنني لســت أنا، ولكــن الرب هو الــذي يحثكــم باعتباركم وزراء المســيح أن تحضــوا النــاس مــن شــتى الطبقــات" مستشــهدا بنص من إنجيــل لوقا فيه: "ومن لا يحمــل صليبه، ويأتي ورائــي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا".

وقــام بتعيــن أســقف مدينــة لوبــوي الفرنســية قائــدا روحيــا للحملــة، وكلــف بطــرس الناســك، أحــد رهبان مدينــة أميان الفرنســية بجمــع المقاتلين، فقــام بالتجول في فرنســا وجمع آلاف الفلاحــن والفقراء وبعض الفرســان في مجموعــة أطلق عليها "حملة الرعاع" )مجموعات غير منظمة وليس

لهــا صبغة جيش(، وحدد البابا يوم 15 آب/ أغســطس 1996 موعــد الانطلاق مــن مدينة القســطنطي­نية عاصمــة الدولــة البيزنطية. واســتجاب عدة أمراء لهذه الدعــوة وأولهم ريمــون الرابع كونــت تولوز، ثم قــام بجولة فــي عــدة مــدن فرنســية ) تــور، بواتييــه، بــوردو، نيــم، أنجيــر، تولــوز، ليمــوج..(. أســفرت هذه الدعوة عن جمــع عدد كبير من الجنود جُّلهم من فرنسا، والتحق بهم بعض المؤيديــن مــن إيطاليا وإنكلترا وإســبانيا، إســكتلندا والدنمارك. ولهــذا الســبب كان المسلمون في الشرق يطلقون على الصليبيين اسم: "الفرنجة" )أي الفرنسيون(.

مسيحيو الشرق في أمان

وفي واقــع الأمر أن فلســطين التي كانت تحــت حكــم العباســيي­ن، كان المســيحيو­ن يعيشــون فيها بأمان حســب ما نصت عليه العهدة العمرية التي وضعها الخليفة عمر بن الخطاب عندما فتح المدينة:

"هــذا مــا أعطــى عبــد اللــه، عمــر، أميــر المؤمنــن، أهــل إيلياء مــن الأمــان.. أعطاهم أمانــاً لأنفســهم وأموالهــم ولكنائســه­م وصلبانهــم وســقيمها وبريئهــا وســائر ملتها... أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا

ينقــص منها ولا من حيِّزهــا ولا من صليبهم ولا من شــيء من أموالهــم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم"، حتى أنه عندما انتصــر صلاح الدين الأيوبــي على الجيوش الصليبيــة في معركة حطــن، ودخل القدس في العام 1187 تعامل مع المســيحيي­ن بشكل عــام، والأســرى بشــكل خــاص بكثيــر من الرحمــة، ولــم يأت علــى أي من كنائســهم، أو أموالهــم، أو أرواحهم رغــم أنهم كانوا قد أوغلــوا في دماء المســلمين، ويذكر أبن كثير أنهم خاضوا في دماء المســلمين في القدس حتى الركب.

حملة نابليون

ظلــت فلســطين في أمــان تحت ســيطرة السلطنة العثمانية منذ القرن الخامس عشر، ولــم يهددهــا ســوى نابليــون بونابرت في حملته في العام 1798 على مصر.

فقــد كان فــي مخططــه الاســتيلا­ء علــى فلســطين وتوطــن اليهــود فيهــا )قبل وعد بلفــور(، وقــد قــام بقتــل لا يقــل عــن أربعة آلاف مســلم في حيفا في مجــزرة مروعة ثم انتقل إلى عكا واصطدم بواليها أحمد باشــا الجــزار، ولم يســتطع فتح المدينــة المحصنة وعــاد أدراجه إلــى مصر ثم إلى فرنســا بعد

أن أصيــب جيشــه بالطاعــون وأمــر بقتــل مئــات الجرحــى والمرضــى منهــم بالســم قبــل انســحابه وهروبه إلى فرنســا، وهزم جيشــه في مصر على يد الإنكليــز والمماليك والعثمانيي­ن ومقتل الجنرال كليبر الذي حل مكانه على يد السوري سليمان الحلبي. لكن فرنســا عادت إلى ســوريا من باب الانتداب فــي نهاية الحــرب العالميــة الثانيــة، ودخل الجنرال غــورو ضريح صــاح الدين وقال: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

منظمة أنقذوا مسيحيي الشرق"

موقع ميديا بارت الفرنسي، وكذلك مجلة "نيــو لاينــز" الأمريكيــ­ة، كشــفا أن منظمــة "أنقذوا مســيحيي الشــرق" الفرنســية غير الحكوميــة، ومنــذ العــام 2014 ظلــت تقــدم الدعم للميليشــي­ا التي تقاتــل لصالح النظام الســوري، وهي مدانة بقتل وتعذيب مدنيين ســوريين تحت غطــاء مما تدعيه "مســاعدة المسيحيين في سوريا". واعتبرا أنها انتهكت القانون الدولي، والقانون الفرنسي.

التحقيقــا­ن أظهــرا أن وزارة القــوات المســلحة الفرنســية، بعد ســنوات من قطع العلاقــات مــع النظام الســوري عــام 2012، منحت هذه الجمعية وضع "مؤسسة شريكة

في الدفاع الوطني" في فبراير/شباط 2017. ثم تخلت عنها دون ذكر الأسباب.

التحقيقان تحدثا عن رجل أعمال ســوري زعيم ما يسمى ميليشيا "الدفاع الوطني" في منطقــة محردة ) مدينة ســورية ذات غالبية مســيحية(، وهي ميليشيا مســيحية شكلها النظــام الســوري متهمــة بارتــكاب جرائــم حرب في البلاد، وتنشــط في محافظة حماة وريفهــا منذ العام 2013. الشــبكة الســورية لحقوق الإنســان أكدت بدورها أن ميليشــيا "الدفاع الوطني" شاركت في هجمات النظام السوري على حماة وإدلب عام 2019، ونهبت الأدوات المنزلية في تلك المناطق وباعتها في سوق مدينة السقيلبية المسيحية القريبة من محردة.

تحقيــق ميدبا بارت يشــير إلــى الارتباط بين مؤسســي هذه الجمعية شــارل دو ماير وبنجامين بلانشــار، مــع النائب الفرنســي اليمينــي المتطــرف جــاك بومبــار الرئيــس الحالــي لبلديــة أورانج، ويظهــر صورهمــا وهمــا يحمــان بنــادق الكلاشــين­كوف في ســوريا. وكان المؤســس الفعلــي للجمعيــة أوليفيــه ديموك قد صرح فــي 2013 " إذا كنا كاثوليكيين ســنقاتل في ســوريا للدفاع عن المسيحيين السوريين".

التحقيقــا­ت أكــدت بالوثائــق الدامغة أن

منظمــة "أنقــذوا مســيحيي الشــرق" قامت بتحويــل مئــات آلاف اليوروهــا­ت ســنوياً مــن فرنســا إلــى ســوريا عبــر مؤسســات مالية وســيطة موجودة في العــراق ولبنان، متحايلــةً بذلــك علــى العقوبــات الدوليــة المفروضــة على النظام الســوري، إلا أن أكثر الأدلة إدانة هي وجود فواتير مسربة، توثق التبادل المباشــر لمــا يقرب مــن 46000 يورو نقداً من منظمة أنقذوا مســيحيي الشرق إلى أيدي قائد إحدى ميليشــيات الدفاع الوطني سيئة الســمعة التابعة لنظام الأسد، كان من مهــام الجمعيــة أيضا التي قامــت بها، وهي حملــة "عيد الميــاد في ســوريا"، والتي كان هدفها المعلن هو تقديم المساعدات الإنسانية للمســيحيي­ن في الشــرق الأوســط، للتغطية علــى ترويجهــا لأجنــدة سياســية يمينيــة ونشــر معلومات مضللة مثــل "قطع رؤوس المسيحيين في سوريا".

هــذه الفئــة اليمينيــة المتطرفــة لا تمثل الشــعب الفرنســي، ولا الدولة الفرنســية بــكل تأكيد، لكــن يبــدو أن عقليــة خطاب البابــا أوربــان الثانــي مازالت فــي بعض الأذهــان، ويدعمهــا نظــام الأســد الأكثــر تطرفا وطائفية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom