Al-Quds Al-Arabi

ما بعد «سيف القدس»... شعب عظيم وقيادات بائسة

- *

ليس ســرا أن الشــعب الفلســطين­ي متقــدم على قيادتــه، وما مــن مرة ترك ليواجه الأزمات مــن دون أوامر من أحد، بل بمبادرات وإبداعات محلية، إلا وخرج منها بنتائج عظيمة، لأنه يحسن اســتخدام الوســائل المتاحة للنضال. يستخدم مراكز قوته ضد مراكز ضعف عدوه، وتكون النتائج خسائر في صفوف العدو لا يستطيع تحملها، فيضطر للمراوغة والتحايل، وتقديم بعض التنازلات، ثم الالتفاف على المطالب الشعبية عن طريق قيادات رخوة تســاوم على المطالب من أجل مصالحها. وهذا ما حدث في الانتفاضــ­ة الأولى يوم التفت عليها القيادة، واختصــرت مطالبها الأساســية في إنهــاء الاحتلال، ووقف الاســتيطا­ن، وصولا إلى الدولة المســتقلة وعاصمتها القدس الشريف، وقبلت إقامة سلطة هزيلة تخدم أمن الاحتلال، تحت شــعارات وهمية حول الدولة المستقلة. ولننظر أين نحن الآن من تلك الوعود قبل ثلاثين سنة.

لقد انطلقت المواجهات الأخيرة في القدس والشــيخ جراح أولا، وبدون إذن من أحد. ثم انتصرت المقاومة في غزة للقدس، وبعدها تحرك الشعب الفلسطيني كله في أماكن وجوده كافة، في ملحمة نضالية لم ير شعبنا مثيلا لها منذ عام 1948. لم يأخذ أبناء فلســطين التاريخية إذنا من أحد، ولا أبناء الضفة الذين انضموا للمواجهات بعدما شاهدوا ما يحدث في اللد والناصرة وأم الفحم وكفر كنا وحيفا، وغيرها من المدن الفلســطين­ية، ثم اتسعت رقعة المواجهة مع الصهاينة وأنصارهم لتشمل الكون بأسره، ولتصبح القدس وغزة والشيخ جراح «كلمات السر»، التي يلتف حولها الشرفاء والمناضلون وكارهو الظلم وأنصار العدالة في كل مكان. لكن ماذا حدث بعد توقف العدوان، وبعد

أن مُرِغ أنف إسرائيل في التراب؟

الغائــب الأكبر في كل تلك المواجهات ســلطة رام الله، التي قفزت إلــى الواجهة عند الحديث عن الإعمــار وأموال الإعمار والعــودة إلى المفاوضــا­ت وتفعيــل الرباعية. وبــدا رئيس الســلطة محمود عباس، يتصرف وكأنه المنتصر الأكبر، وهو الذي لــم يتحدث ولو بكلمة عن المقاومة والشــهداء والبيوت المهدمــة والـ67 طفــا الذين قتلــوا، ونُشــرت صورهم على الصفحات الأولى فــي جريدتي «هآرتس» و»نيويورك تايمز .» تلقى بفرح عظيم مكالمــة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وزيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي ســماه «كلينتون». كانت فرصة ذهبية للرئيس ليرتقي إلى مستوى الحدث العظيم الذي لا يحمل إلا عنوانا واحدا هو «المقاومة» والمواجهة. كان بإمكانه أن يطلب من الشعب الفلسطيني أن يخرج في مسيرات سلمية بمئات الألوف إلى الشــوارع، نســاء ورجــالا وطلابا وعمالا ورجال أمن وشــرطة، ليلتحقوا بالمشهد العظيم الذي يسطره الشــعب الفلســطين­ي في كل مكان، إلا أن الفشــل جاء مكملا لرحلة خيبات أوســلو، التي بُلي بها الشــعب الفلسطيني وما زال. والأغــرب من ذلــك أن بعض أبواق القيــادة راح يتغنى ببطــولات القيــادة، لدرجــة أن أحدهــم ادعــى أن الرئيس كان «كأنه يقاتــل وحده في الميــدان». وقد أثــار هذا الموقف ومسلســل التراجعات والهزائم العديدة التي لحقت بالقضية الفلســطين­ية، حفيظة عدد مهم جدا مــن المثقفين والأكاديمي­ين والكتاب والفنانين والصحافيين، فأصدروا بيانا يطالبون فيه بتغييرات جذرية وإعادة بناء منظمة التحرير الفلســطين­ية، بمن فيها القيادات العليا، وبدل أن تتم دراســة البيان، وتقبل النقد، والعمل مع كل أطياف الشــعب الفلسطيني لتغيير نهج أوســلو، انطلقت الأصوات تتهم الموقعين علــى البيان بالتآمر والارتباط مــع قوى خارجيــة، والعمل على تفتيت الشــعب الفلســطين­ي، الملتف حول قيادته العظيمة التي هي فوق النقد وفوق القانون وفوق المســاءلة وأهم مــن الوطن. وقد ظهرت نتيجة هذا الالتفــاف، عندما ألغي اجتماع القاهرة لـ18 فصيلا )كانت 14 قبل عملية ســيف القدس( لأن المطلوب التوافق على الاتفاقيات الموقعة ومنها أوســلو طبعــا، أي بدل الصعود إلى الأعلى للالتقاء بالمقاومة كان المطلوب من المقاومة أن تهبط إلى مستوى أوســلو وطاولة المفاوضات والرباعية، إذ أن القيادة أعدت فريق التفاوض بنــاء على مبادرة من الرئيس الأمريكي جو بايدن «لتحسين العلاقات مع إســرائيل، وتقوية السلطة الفلســطين­ية »، كما جاء على لســان القناة العبرية 12 ونقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الأربعاء 16 يونيو الحالي.

ولكــي يعرف هــؤلاء مدى التفاف الشــعب الفلســطين­ي حولهم، ما عليهم إلا مراجعة اســتطلاعا­ت الرأي، التي نشرها المركز الفلســطين­ي للبحوث السياسية والمســحية، للفترة 9 12- يونيو الحالي، أي بعد عملية «ســيف القدس». فقد جاء في الاستطلاع أن %77 من الشــعب الفلسطيني يعتبرون أن حماس انتصــرت في المواجهات الأخيرة، وأن % 72 يعتقدون أن إطلاق الصواريخ جاء للدفاع عن القدس والشــيخ جراح. وعن أداء عشرة أطراف فلسطينية وإقليمية خلال المواجهات، تصدر سكان القدس وشبابها القائمة بنسبة %89 يليهم أداء فلسطينيي الداخل بنسبة % 86 وحركة حماس بنسبة % ،76 أما أداء حركة فتح فانخفض إلى % 13 والســلطة الفلسطينية 11%، أما أداء الرئيس عباس فكان %8. وهذه رسالة بليغة. كمــا أن %53 قالوا إن حمــاس أكثر جدارة لقيادة الشــعب الفلســطين­ي، بينما اعتقد %14 فقط بأن حركة فتح برئاســة عباس هي الأجدر للقيادة. وعن تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية قال %65 من المستطلعة آراؤهم، إنهم ضد التأجيل وإن ثلثي الشعب الفلسطيني يعتقدون أن الرئيس عباس أجل الانتخابات خشــية من نتائجها، وأن %66 من سكان الضفة يريدون إجراء الانتخابات وترتفع النسبة إلى %80 في قطاع غزة.

لقد كتبــت أكثر من مرة عــن جهل حماس بقواعــد اللعبة السياســية، وقــد تعززت لديّ هــذه الفكرة أكثــر بعد عملية «ســيف القدس» والأداء الهزيل لحماس. وأود أن أذكّر حماس أن الشعب الفلســطين­ي قبل وبعد عملية «ســيف القدس» ما زال يخضع للاحتــال والحصار ونظام الأبرتهايد. الشــعب الفلســطين­ي في غزة دفع ثمنــا باهظا للعــدوان المجرم على غــزة، وعلى كل أرجاء فلســطين، وكان علــى قيادات حماس بدل اســتعراض الصواريخ في شوارع غزة، أن تقيم المعارض والمنصات للضحايا، خاصة من الأطفال. على حماس وفصائل المقاومة أن تتمســك بخطــاب الضحية والمظلــوم والمحاصر والمقهــور خاصة للعالم، بدل خطــاب الانتصار حتى لو حدث الانتصــار فعلا. عليها أن تبــرز ليل نهار مــدى الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الكيان الصهيوني ضــد المدنيين والعائلات والبنايات والبنى التحتية. يجب أن تبقى إســرائيل محاصرة إعلاميا في العالم بســبب ما ارتكبته من جرائم. وأود أن أسأل حركة حماس بعض الأسئلة:

- هل كان من الضروري أن يتم اســتعراض الصواريخ في شوارع غزة؟

- هــل كان مــن الضروري الإعــان عن الأنفــاق وطولها ومحدوديــة الخراب الــذي لحق بها؟ من هــذا العبقري الذي أعلــن أن لديهم 500 كلم من الأنفاق بــدل الصراخ لعدم وجود ملاجــئ لحماية المدنيــن، خاصة الأطفال؟ فقد نبه الســنوار إلــى أن «الضرر الموجود في شــبكة الأنفاق لم يصل إلى %،5

وســيعالج خلال أيام معدودة»، مؤكــدا أن «ورش التصنيع، ومخازن الأسلحة، وغرف إدارة العمليات، تعمل بكفاءة تزيد على %95». هل هذه التصريحات ضرورية؟

- هل كان من الضروري أن تقــوم حماس بتوزيع بطاقات الشــكر لإيران، حتى لو أن إيران نقلت كل ترســانتها لغزة؟ المتحدث باســم الحرس الثوري الإيرانــي كان أكثر عقلانية عندما قال، إننــا نقلنا لهم الخبرة منذ زمن وقاموا هم بتصنيع جميع تلك الأسلحة محليا، بل ذهب الأمر بأسامة حمدان ليثني على الرئيس بشــار الأســد، وأنا واثق أن ذلــك ليس مطلوبا منه، بل تطوع لذلك، علما أن تصريحا كهذا ســيغضب ملاييين السوريين. وهل كان من الضروري أن يقوم ممثل حركة حماس في اليمن، معاذ أبو شــمالة، بتكــريم محمد علي الحوثي، أحد القادة الحوثيين؟ كم دفع الشعب الفلسطيني ثمنا من سياسة المحاور وليتذكروا ما حدث لشعبنا الفلسطيني في الكويت عام .1990

- لكــن حماس لاذت بالصمت، حيــث كان يجب أن تتكلم، الكل ينتظر منها أن تصدر بيانا قويا ضد منصور عباس رئيس القائمة الموحدة ذي الخلفية الإســامية، الــذي أعلن تأييده لحكومــة بينيت - لبيــد المجرمة، التي أعلنت عــن برنامجها لتوســيع الاســتيطا­ن وضم المنطقة جيم من الضفة الغربية، والتأكد من عدم قيام دولة فلســطينية. لمــاذا لم تعلن حماس قيام منصور عباس بطعن شــعبه من الخلف؟ كل ما ســمعناه أن أحد الحمســاوي­ين قال إن هذا رأيه الشخصي؟ وهو تفسير أقبح من الصمت.

- وهــل مــن الضــروري أن تتصــرف حماس بنــوع من الاســتعلا­ئية والفوقية حتى مــع رفاق الســاح؟ حيث قال الســنوار «إن منظمة التحرير الفلســطين­ية مــن غير حماس والجهــاد وقوتهما العســكرية، لا تمثل ســوى صالون ثقافي وسياسي».

- والأدهى وأمرّ تصريح الســنوار الغريــب، الذي يصب لصالح ســردية العدو عندما أعلن أن هناك أسلحة مخزنة بين المدنيين، يتم نقلها تدريجيا إلى مناطق بعيدة عن المدنيين، ولم يبق إلا جزء بسيط منها. وقد وضعت وزارة الحرب الصهيونية هذا التصريح على موقعها وترجمته ووزعته على العالم.

متــى تتعلم حماس السياســة وترتقي بأدائها السياســي ليواكب أداءها الميداني العظيم، الذي حظي بتأييد واســع من فئات الشعب الفلسطيني والعربي كافة؟

كان على قيادات حماس بدل استعراض الصواريخ في شوارع غزة أن تقيم المعارض والمنصات للضحايا، خاصة من الأطفال

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom