Al-Quds Al-Arabi

ورشة إصلاح أردنية... أعباء الماضي وهموم المستقبل

- *

يبــدو أن موضوع دراســة ولي العهد الأردنــي الأمير الحســن بن عبــد الله الثاني، لم يكن خياراً شــخصياً خالصاً، فموضوع مثل التاريخ الدولي في جامعة مثل جورج تاون لا يمكن أن يســتهوي الشباب بشكل عام، ولا بــد أن نصيحة ما دفعته لاختيار هذا المجــال في هذا التوقيت، ولاسيما أن الملك عبد الله نفسه تلقى تعليماً في مجال العلاقات الدولية في الجامعة نفسها، فلماذا يتلقى الأمير تعليماً في مجال التاريخ، ألم يكن أجدى أن يتعامل مع الوقائع الجيوسياسـ­ـية الراهنــة، أو يتلقى تعليماً فــي الإدارة والقيــادة، بدلاً من أن يتعامل مع موضوعات في التاريخ السياسي مثل صراعات المدن الإغريقيــ­ة، ومبادئ مترنيخ التي روضــت طموحات نابليون وهزمتهــا في النهايــة، وطموحات قيصر بروســيا فريدريش الثالث في مواجهة واقعية بسمارك في الوحدة الألمانية؟

يدرك الملك عبد الله الثاني، أن الأردن سيصل عاجلاً أم آجلاً إلى محطة تاريخية تتطلب إعادة الصياغة الكاملة، وكان الملك تحدث في لقاءات متعددة قبل أن تتخذ شكلاً متبلوراً في الورقة النقاشــية الثانية ســنة 2013، عندما ناقش موضــوع الملكية الدستورية، ويلاحظ أن الملك اعتبر الأردن ملكية دستورية منذ تأســيس الدولة، وهو يعني عدم ممانعته للحكومة البرلمانية، التي تبلــورت تصوراته حولها في خطابات وأوراق نقاشــية تاليــة، وكانت حكومة الدكتور عبد الله النســور 2012 ـ 2016 بروفة تحضيرية من خلال مشاورات شــكلية أجراها الرئيس النســور مع مجلس النواب لتشــكيل الوزارة، ثــم انصرفت الحكومة بعــد ذلك لتنضم إلى بقية الحكومــات، لتعمل حثيثاً علــى التهوين من أهميــة الإصلاح السياســي، ووضعه تالياً للإصلاح الاقتصادي بكل تعقيداته الدولية والمحلية.

يفتقــد الأردن لتوصيــف موضوعي ومتجــرد وقريب من الدقة لخريطته الاجتماعية، التي تحدد وزن القوى السياسية الفاعلــة، تحت وطأة التطرف الســقيم، والمغــالا­ة الزائدة في طرح التوازنات المناطقية والديموغرا­فية، وما يقابله من حالة خجل وتعفف عن إثارة الموضوعات نفســها، ولذلك لم تتغيب المحاصصة عن اللجنة التي شــكلت تحت مسمى لجنة تحديث المنظومة السياســية، لا جهوياً، ولا مناطقياً، ولا أيديولوجياً، وهذه الحالة من الحضور والدعوة للحوار بين أكثر من تسعين عضــواً يمثلون معظم التيارات السياســية مــن أقصى اليمين إلى أقصى اليســار، إما إنهــا تتضمن خلق حالــة من الزحام تحول والتوصل إلى طروحات طموحــة، نظراً للضجيج الذي ســيعتري أعمال اللجنة، والاحتكاك والمماحكــ­ة المتوقعين في التفاصيل، أو أنه يســعى إلى أن يقدم ورقة لا يمكن معارضتها على أساس عدم تمثيلها، ولا إلحاق اتهامات التحيز بنتائجها، وفي النهاية يتوفر الإطــار الزمني، ومعه رئيس وزراء يترأس لجنة الإصلاح ويتطلع لاســتعادة مكانته في الشــارع، بعد أن كان رئيســاً للحكومة التــي رحلت في الموجــة العاتية المبكرة للربيع العربي، وربما يشكل عنصراً انتحارياً لإفشال الإصلاح، ومن ثم الانزواء بوصفه بطــل النخبة المغلقة، الذي أنقذها من مواجهة محتومة مع الشــارع الذي كان سابقاً سبباً في إسقاط حكومتين واحدة لجده سمير الرفاعي، ووالده زيد الرفاعي.

يبدو أن جرعة الإصلاح كبيرة إذ أنها تفترض قدرة الروافع السياســية الحالية من أحزاب ونقابــات ومجتمعات محلية، تستطيع أن تســتفيد من قانون انتخاب معاصر، مع أن جانباً كبيراً من المشــكلة يتمثل فــي جانب المعروض سياســياً، أي المرشحين أنفســهم والفكرة الســائدة عن الممارسة السياسية فــي الأردن، فأكثر من قانــون انتخابي لم يكــن كافيا لإنتاج

مجلس نيابــي نوعي، والمشــكلة التي تواجــه الأردن جذرياً تتمثل في التشــجيع على الممارسة السياســية، وهذه ترتبط بقوانــن متعلقة بالحريــات والتعبير والإعــام، ولكن الدفع بقانوني الانتخاب والأحزاب، من شــأنه أن يطوع جزءاً كبيراً من المشهد السياسي الراهن ويدمجه إصلاحياً. يوجد مدربون للســباحة يعتمدون على إلقاء المتدربين في المياه دفعة واحدةً بلا مقدمات، وكثيراً مــا تنجح هذه الطريقة، ولكن، وفي بعض الأحيان تحدث ردة فعل سلبية، والمتوقع أن الإصلاح السياسي في الأردن بتعرضه أولاً لقوانين ذات طابع إجرائي، ســيؤدي إلى انتكاســة يصعب التكهن بمداهــا، فالحكومة البرلمانية في حال تشكلت بناء على هذه القوانين، ستأتي ومعها وعود كبيرة للشــارع، وستفشــل غالباً في تحقيقها مع الأوضاع الإقليمية والاقتصادي­ة القائمة، وربما يحدث نكــوص عن التجربة، ألم يحدث ذلك في مصر في تجربة الإخوان المســلمين؟ أما زال ذلك يتفاعل في تونس والمغرب إلى حد ما؟

بدأت المقال بالحديث عن ولي العهد، الأمير الشــاب المولود ســنة 1994، وكان مشــهد حضوره مع إشــارة الملــك لذلك: «وســيكون ابني الحســن إلى جانبي، للاســتمرا­ر في نهج التحديــث والتطوير»، يوحي بأن هــذه الإصلاحات تأتي في إطار تدشــن مرحلــة جديدة في علاقة العرش والشــعب في الأردن، ومــن هذه الزاويــة يجب رؤية الإصــاح في مقاربة مختلفة، إذ لا تبدو معالجة أخطــاء الماضي الأولوية الطاغية، فمدارس سياســية كثيــرة تذهب إلــى التصالــح الكامل مع الماضي وطي صفحته، كما فعلت إســبانيا فــي مرحلة صعبة من تاريخها، ويجــب أن لا يكون الإصلاح لتمكين الإســامي أو الشــيوعي أو القومي من الطيف السياســي من الحصول على تمثيله المناســب، ولكــن في أن يرتبــط أي منهم بقواعد حقيقية تخلق ناخباً حقيقياً ومســؤولاً وواعياً. المهم، بجانب الإصــاح الإجرائــي، أو تحديث المنظومة كما تصفه تســمية اللجنــة الملكية هو الوصــول بالإصلاح إلى فئة الشــباب من مجايلي ولي العهد، وبينما كان جيلي المولود في السبعينيات يتجنب الحديث في السياســة داخل الجامعات، تجنباً للفصل من الدراســة، أو الحلــول ضيفاً على قوائــم الأجهزة الأمنية وتوابع ذلك وظيفياً واجتماعيــ­اً، فالأولوية اليوم هي للبحث عن شــباب جامعي يمكــن أن يقف متفاخراً بانتمائه لليســار أو اليمين، من غيــر التحرج من ذلك، ولا التحســب لنتائجه، وذلك الجيل هو الذي يمكن أن تعبر معه مؤسســة العرش إلى الملكية الدســتوري­ة، والأمير يعرف ذلك جيداً، بما يعايشه من بوادر ديمقراطيــ­ة جديدة تجد فضاءها فــي مواقع التواصل الاجتماعي، وتستطيع أن تســتحوذ على حصتها من التأثير، وأمام تحولات التاريخ فإن مؤسســة العــرش تدرك اليوم أن الملكيين أكثر من الملك، والمســتفي­دين من ظاهرة النخب المغلقة، لن يستطيعوا أن يقطعوا شوطاً بعيداً على هذا الطريق، وربما يحاولون أن يضعوا فيه شــتى المعيقات، ويفخخونه بالكثير من المخاوف، فالصراع في أبعاد أخرى ليس بين قوى سياسية راهنة ومقبلة، ولكنه صــراع اجتماعي ـ طبقي - ديموغرافي، صراع بين الماضي والمستقبل، صراع من أجل التأقلم مع الظرف الراهن، والقفز على المصير الديناصوري لمن يرفض التطور أو التحديث. تنصرف دراســة التاريخ بشكل أساسي للاستفادة من دروســه، وتجنب أخطائه، وهي دراســة غايتها المستقبل وليس الماضي. كاتب أردني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom