Al-Quds Al-Arabi

الانتخابات الرئاسية الإيرانية: لا أحد ينتظر فما بدّلوا تبديلا

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ الأرجح أنّ مئات الآلاف من الإيرانيين، وربما عشرات الملايــن ضمن الـــ 59 مليونا ممّن يحقّ لهم المشــاركة في الانتخابات الرئاســية التي تجري اليوم؛ يصعب، كثيراً، أن يمســحوا من الذاكرة دور )القاضي!( المرشح الرئاسي إبراهيم رئيســي الــذي كان في عداد، والبعض يســاجل بأنه الأكثر تشــدداً وغلظة، أربعة قضــاة حكموا بالإعدام على آلاف المعارضين في ســنة 1988: أكثر من 5000 حسب منظمة العفو الدولية. ذلك لن يبدّل كثيراً من واقع المعطيات الواضحة، المتوفرة حتى الساعة، والتي تقول إنه سيكون الفائــز في الانتخابات؛ بــل لعلّ الرجل الذي خســر أمام الرئيس الحالي حســن روحاني في ســنة 2017 ســيكمل ولايتين، ويمتلك الحظــوط الأوفر لخلافة علي خامنئي في موقع المرشــد الأعلى، رغم أنه لا يتمتع حتى الساعة بصفة آية الله.

ومعلوم أنّ الوالي الفقيه لا يشغل صفة الآمر الناهي في إيران وحدها، بل في العراق عبر الميليشيات الشيعية، وفي لبنان حيث «حزب الله» وفي ســوريا التي تغتصب أرضها وشعبها الميليشيات الشــيعية ذاتها، وفي اليمن من خلال الحوثيين. وقبل إغلاق هذا القوس حول ولاية الفقيه، تجدر الإشارة إلى أنّ المبدأ مسلّم به لدى جميع رجال السلطة في إيران ، «متشــددين» كانــوا أم «معتدلــن » أم «محافظين» أم «إصلاحيين»؛ لأنه بــادئ ذي بدء يُفــرد للوالي الفقيه الصلاحيات الأوسع في الســلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية: تســمية أعضاء مجلس المرشــدين، ومجلس القضاء الأعلى، ورئاســة القيادة العليا للقوات المســلحة )بما في ذلك تعيين أو عزل رئيــس الأركان، وقائد الحرس الثوري، وأعضــاء مجلس الدفاع الأعلــى، وقادة صنوف الأســلحة( وإعلان الحرب والســام والتعبئــة، وتوقيع مرسوم تسمية رئيس الجمهورية بعد الانتخابات، وإدانة وعزل الرئيس بموجب أســباب تتعلق بالمصلحة الوطنية، وإصدار مختلف أنواع مراسيم العفو العام.

وغنيّ عن القول إنّ رئيســي لا يحظى بصفة المرشــح المفضل لدى خامنئــي، الوالي الفقيه الحالــي، لأنه صقر جارح على أصعدة القضاء وأحكام الإعدام ودفن المعارضين في مقابــر جماعيــة، فأمثاله كثر في مختلف مؤسســات السلطة الإيرانية؛ بل، على نحو جوهري ابتدائي وحاسم، لأنــه بين الأكثر تشــدداً على صعيد تأويــل الفقه الخاصّ بولايــة الفقيه، وبصدد أية محاولــة للتعديل في قوانينه واشــتراطا­ته. هو، إلى جانب الولاء الأعمى لسيده ووليّ أمره خامنئي، والولاء الذي لا يقلّ عماءً لمبدأ الولاية ذاته؛ بين الأشـّـد تزمتاً تجاه الدعوات التــي تلمّح، مجرد تلميح في الواقــع، إلى «جمهورية ثالثة» في إيــران، بعد الأولى )شباط/ فبراير 1979( التي أطاحت بالشاه، والثانية التي تبلورت ـ طبقاً لتشــخيص آية الله الخميني نفسه ـ بعد أشهر من احتلال السفارة الأمريكية في طهران. ولقد مضى زمن، غير بعيد في الواقع، شــهد تنطّح الرئيس الأســبق محمود أحمدي نجاد للوقوف في وجــه دعاة الجمهورية الثالثة، ولكنه اليوم في صفّ المرشــح الرئاسي المرفوض والسياسي الرجيم و... العميل الإسرائيلي!

وأمّــا صفّ «الإصلاحيينّ، الذين تنعمــوا بالتأثيم ذاته تقريبــاً من أنصــار أحمدي نجــاد وبتجنيد مباشــر من «الحرس الثوري» فيكفي أن يستعرض المرء أسماءهم كي يســتذكر أيّ منقلب قُلبوا إليه: محمد خاتمي، مير حســن موسوي، مهدي كروبي، زهراء إشراقي )حفيدة الخميني(؛ على اختلاف تياراتهــم الفكرية والعقائديـ­ـة، وبرامجهم السياسية والاقتصادي­ة. أكثر من هذا، كيف يُنسى أنّ علي أكبر محتشمي )مؤســس «الحرس الثوري» المشرف على تأسيس «حزب الله» في لبنان، والسفير الإيراني الأسبق ـ والأهمّ، حتى إشعار آخر ـ في سوريا أيام حافظ الأسد(؛ هو الذي طالب، ذات يــوم غير بعيد هنا أيضاً، بلجنة عليا للتحقيق في... تزوير الانتخابات الرئاسية!

وكان المرء يتشــهى ســماع أيّ تعليق من حســن نصر اللــه حول الانتخابات الرئاســية الإيرانيــ­ة الراهنة، من دون أن يطمع المــرء ذاته في أية عبارة عــزاء يتوجه بها الأمين العام لـ«حزب الله» إلى أحمدي نجاد، بعد أن رُفض ترشــيحه وقُذف به مجدداً إلى سلّة مهملات ولاية الفقيه؛ هو القابع منذ سنوات، الآن، في سلّة مهملات التاريخ. ففي خريف 2010 زار أحمدي نجاد لبنان، وحظي من نصر الله بأقصى التفخيم: «نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخمينــي المقدّس، ونتلمس فيك أنفــاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونــرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشــرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كلّ الســاحات، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا».

فهل أنهــم، بالفعل، ما بدّلوا تبديــاً؟ الأكيد أنهم بدّلوا على صعيــد تدوير التشــدد والتزمت، وترقيــة القضاة الأشــدّ دموية إلى ســدّة الرئاســة. هذا رجل سوف يأتي إلى المنصب بعد المرور على مناصب شتى قضائية )المدعي العام للثورة الإســامية فــي طهران، مؤسســة المتابعة والتفتيش، رئاسة السلطة القضائية( وسياسية )مجلس الخبــراء( واقتصادية )وَقْف «أســتان قدس رضوي» في مشــهد، إحدى أضخم مؤسســات إيران الاســتثما­رية(؛ وتتكدس في متاعه أثقال ســفك الدماء وقهر الاحتجاجات الشعبية والفساد الأكثر رثاثة. وإذا عجزت حكومة حسن روحاني عن التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، فإنّ شهر آب )أغسطس( المقبل لن يشــهد تتويج رئيسي بالرئاسة فقط، بل سيردّ الشــعب الإيراني إلى ســنوات وسنوات من المســغبة والفقر ومشــاقّ الحياة اليومية؛ أو «اقتصاد المقاومة» كما يحلو للمرشح الأوفر حظاً أن يسمّي عمليات تجويع الفئات الشعبية الإيرانية.

هذا واحد من أولى الفوارق بــن روحاني، الذي وضع الاقتصــاد على راس أجنــدات حكومته، وســعى بالتالي إلى توقيع اتفاق نووي أفســح المجال أمــام رفع العقوبات الاقتصادية الخانقة؛ وبين رئيســي، الذي وإنْ كان ويظلّ منصاعاً تماماً لأحــكام خامنئي حــول متابعة مفاوضات فيينا ورفع العقوبــات الأمريكية او تخفيفهــا على الأقلّ،

فــإنّ عقيدتــه الصقوريــة في الفقــه والسياســة والاقتصاد والعلاقات الدولية سوف تبقيه على أهبة الصدام وليس الوئــام. إنه، ويا للمفارقة، يعيد إحياء الكثير من موروث أحمدي نجاد المرفوض ترشيحه؛ إذْ ينهض خطابــه العامّ على خلائط التبعية المطلقة للولي الفقيــه، والتعبئة الدينيــة والمذهبية، ودغدغة المشــاعر القوميــة، والتحريــض العاطفي ضدّ الغــرب والولايات المتحدة، ومســاندة برامــج «تصدير الثــورة» إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن.

وعلى غرار أحمدي نجاد، اقترن تصعيد رئيسي بسلسة تبدّلات في الخطاب السياسي/ العقائدي، بدأت مطلع 2006 بما يشبه الفتوى التي أصدرها محسن غرافيان، تلميذ آية الله مصباح يزدي؛ تجيز اســتخدام السلاح النووي، على نقيض الآراء السابقة التي كانت تعتبره مخالفة للشريعة الإســامية، لأنه سلاح يفتك بالبشــر جماعياً وبلا تمييز. وحين نقلت وكالة الأنبــاء الإيرانية هذه التصريحات، ثمّ تناقلهــا آيات الله هنا وهناك، بات واضحاً أنها اســتقرت في صلب السياســة الرسمية العليا للدولة، وليست جهود روحانــي للمناورة عليهــا مع الغــرب والولايات المتحدة ســوى مظهر الســطح الذي ينوء تحت أثقــال المصاعب الناجمة عن العقوبات الاقتصادية.

هل يستحق الشعب الإيراني رئيساً أفضل من رئيسي؟ بالتأكيد، ما دام أصلاً يســتحق مَنْ هو أفضل من روحاني، وأفضــل حتى من خاتمي نفســه. غيــر أنّ معضلة إيران، ومحنة شعبها، لا تُختزل في الرئاسة، أو حتى في شخص خامنئــي، بل فــي مبدأ ولايــة الفقيه الذي كبّــل «الثورة الإســامية» منذ البــدء، وعطّل ويعطّل حســن توظيف ثرواتهــا، ويزجهــا في اســتبداد وقهر وركــود وجمود. رئاسيات لا ينتظرها إلا أهلها، والحال هذه، فما بدّلوا فيها ولا يبدّلون!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom