Al-Quds Al-Arabi

العراق: جريمة سبايكر والاستخدام السياسي

- ٭ كاتب عراقي

■ أحكم داعش في يوم 12 حزيران/ يونيو 2014، ســيطرته على أجزاء كبيرة من محافظة صلاح الدين )بعد أن سيطر على مدينة الموصل 2014 ( وفيها ارتكب جريمة ضد الإنسانية ترقى لأن تكون جريمة حرب في صراع ذي صفة غير دولية، بموجب القانون الدولي، فقد قتل بــدم بارد مجموعة كبيرة من الجنود العزل الذين غادروا مقراتهم في قاعدة ســبايكر الجوية شمال تكريت. وقد وردت أول إشارة إلى هذه الجريمة البشعة، وعدد ضحاياها، من خلال نشــر التنظيم صورا لعملية إعدام الجنود في 14 حزيران/ يونيو 2014، وقــال إن عددهم بلغ 1700. وقد نقلت البي بي ســي حينها عن المختص في الشــؤون العراقية لدى منظمة هيومــان رايتس ووج أرين ايفيريز قوله: «نحاول التحقق من الصور، ولكني لســت مقتنعا بأنها حقيقية، فإعلان داعش عن قتل 1700 شــخص يعتبر امتدادا لسياسته الهادفة إلى إشعال حرب طائفية.» لكن رئيس مجلس الوزراء العراقي الأســبق نوري المالكي قال في مؤتمر صحافي بعد ذلك بأيام أن أعــداد الضحايا بلغ 170 ضحية، ولكن ســرعان ما اختفى هذا التصريح ولم يتداوله أحد، والتزم الجميع برواية داعش!

في بدايــة آب/ أغطــس 2014 أعلن سياســي ســني مثير للجــدل، وللريبــة، أن المتهمين الرئيســيي­ن بجريمة ســبايكر ليســت داعش، وإنما هي العشائر الســنية في محافظة صلاح الدين، تحديدا العشائر التي تســكن في محيط مدينة تكريت؛ العــزة، والبوعجيــ­ل، والبيجــات/ البو ناصر. وبــدأ بتكرار روايته عبر صفحته على الفيســبوك، وعبر قناته الشــخصية «الشعب» وبطبيعة الحال تبنى الجميع روايته دون تدقيق في وقائعها، رغم أن جزءا من تفاصيل هذه الرواية تم نفيه رسميا لاحقا؛ ففي لقاء صحافي مع صحيفة الشــرق الأوسط قال هذا السياســي إن عدد الضحايا «لا يقلون عــن 1500 «، وأنه تأكد «أن بوابــة القاعدة فتحت بقرار مــن قيادتها» وان داعش يوم الجريمة «لم تكن وصلت إلى تكريت بعد.»

لكن القادة العســكريي­ن ســينفون فيما بعد أن هناك أوامر بالانســحا­ب من القاعدة، ويؤكدون أن داعش كانت في المدينة يــوم 12 حزيران/ يونيو، ولكــن رواية هذا السياســي كانت «قميــص عثمان» المفقود في ســياق صراع طائفــي دائر لذلك تشبث بها من له مصلحة في تبنيها!

وفقا لمحضر جلسة اســتماع عقدت في مجلس النواب في 3 أيلــول 2014 لبحث حيثيات الجريمة، فقــد أوضح قائد الفرقة 18 في الجيش العراقي أن قطعات الجيش قد تســربت منذ يوم 10 حزيران/ يونيو، وأن الآليات والمعدات والســيطرا­ت تركت تماما من دون أن تطلــق داعش إطلاقة واحدة! كما أوضح قائد عمليات صلاح الدين أنه قرر ليلــة 11 على 12 حزيران/ يونيو أن ينقل مقره إلى داخل قاعدة ســبايكر الجوية لأنها اكثر أمنا، وكشــف المحضر عن عملية تمرد واســعة من بعــض الضباط والجنود جعلتهم يغادرون القاعدة، خلافا للأوامر العســكرية التي وجهت لهم، بعد أن خلعوا الملابس العســكرية ولبســوا الملابس المدنية، وصل الامر إلى اشــتباكهم مــع قوات مكافحة الإرهاب التي كانت مكلفة بحماية بوابة القاعدة.

وأوضحت الجلســة أن لا أحد يعرف حتى تلك اللحظة عدد الضباط والجنود الذين غــادروا القاعدة في يوم 12 حزيران/ يونيو! ولا عدد الضباط والجنود الذين تم أســرهم ثم إعدامهم بطريقة بشــعة في منطقة القصور الرئاسية في تكريت، فوفقا للأرقــام التي ذكرها معــاون رئيس أركان الجيش للشــؤون الإدارية تسرب )11156( ضابطا وجنديا من هذا القاطع بداية مــن يوم 10 حزيــران/ يونيو، تحديدا من الفرقــة 18، وقيادة عمليات صــاح الدين وفرقة النفط. أما بالنســبة لكلية القوة الجوية فقــد تم إخلاء جميع ضباطها وجنودهــا وطلبتها قبل هــذه الاحداث. وقد عقب وزير الدفاع علــى هذه الأرقام حينها بــأن هذا العدد «ليــس جميعهم ضحايا أو شــهداء، عدد قليل والبقية ذهبوا إلى أهاليهم ولم يعودوا إلى وحداتهم.»

في الجلسة نفســها أكد الناطق باســم القائد العام للقوات المســلحة إلى أنه لم يتم حصر أعداد ضحايا سبايكر حتى ذلك الوقت، وأن ثمة معلومات متفرقة ولكن لم يتم التأكد منها بعد.

بتاريــخ 10 آذار/ مــارس 2015 قدمت اللجنــة التحقيقية البرلمانيـ­ـة بخصوص جريمة ســبايكر تقريرهــا الذي توصل إلى خــروج العديد من المنتســبي­ن من القاعــدة خلافا للأوامر الصادرة، «وبعد وصولهم إلى جامعة تكريت تمت محاصرتهم من قبل سيطرات وهمية للإرهابيين وأوهموهم بركوب عجلات على أســاس التوجــه إلى اهاليهــم ولكنهم نقلــوا إلى مجمع القصور الرئاســية ليتعرضــوا إلى مجازر » ولكــن التقرير لم يتطرق إلى عدد هؤلاء الذين تعرضوا إلى الإعدام الميداني، بل أشــار إلى أعداد المفقودين بالمجمل حتــى لحظة إعداد التقرير، وهو 1721 منتســبا، تم تســليم رواتب 1517 منتسبا منهم إلى ذويهم فقط، لوجود إشــكالات في أوضاع 165 منتسبا! وأشار أيضا إلى الفســاد الــذي أدى «إلى وجــود أعــداد هائلة من المنتســبي­ن الفضائيين » أي المنتسبين المسجلين على الورق فقط

من دون ان يكونــوا موجودين من الأصل! وكما هو واضح فإن التقرير تحدث عن المفقودين بالمجمــل ولم يتحدث عن ضحايا جريمة سبايكر بالتحديد.

لكــن الجريمة تبقــى جريمة بمعــزل عن عــدد ضحاياها، ولكن ثمة فارقا كبيرا بين اســتغلال جريمة ما سياسيا بطريقة لاأخلاقية، وبين السعي للبحث عن العدالة لضحاياها بملاحقة مرتكبيهــا ومحاكتهم محاكمــة عادلة. ففي تقريــر بعثة الأمم المتحدة في العراق الدوري الخاص بحقوق الإنســان )تشرين ثاني/ نوفمبر 2016( ينقل التقريــر أن وقائع محاكمة 36 متهما بإخفاء وقتل 177 جنديا في معسكر سبايكر كان مكتب المفوض السامي لحقوق الانســان قد رصدها بنفسه بتاريخ 27 كانون الاول/ ديســمبر 2015: كان لدى 7 فقط من المتهمين محامين ولم يكن من الواضح فيما إذا كان أي من المتهمين كانت لديه الفرصة لرؤيــة محاميه قبــل المرافعات، لم يحضر مــن هؤلاء المحامين ســوى محام واحد، و «تم تعيــن محام آخر» بيــد انه لم يتم تأجيل المرافعة لمنحه الفرصة للتشــاور مع موكليه او لتحضير دفاعه! ولم تقدم أي إفادة تم الإدلاء بها في المحكمة دليلا يثبت علاقة المتهمين بالأعمال التي اتهموا بارتكابها! ثم يقوم التقرير بنقل وقائع جلســة المحاكمة التالية التي جرت في 18 شــباط/ فبراير 2016 والتي اســتمرت لمدة ثلاثة ســاعات تقريبا حكم خلالها 40 متهما )مــن مجموع 47 متهما هــذه المرة( بالإعدام: أشار تســعة متهمين بأنهم وكلوا محامين ولكن لم يكن أي منهم حاضرا أثناء المحاكمة، وعين القاضــي محاميا صادف وجوده في المحكمة لكــي يترافع عن جميع المتهمين الـ 47، وكما في المرة الســابقة لم يستطع المحامي التشــاور مع الموكلين او لتحضير دفاعــه، وخلال الاســتجوا­ب ادعى 19 متهمــا بانهم تعرضوا للتعذيب خلال الاستجواب، وادعى آخرون بأنهم أجبروا على الاعتراف أو توقيع اعترافات مــزورة، وقد رفض القاضي هذه الادعاءات رفضــا قاطعا! وعندما حاول أحــد المتهمين أن يبين للقاضي آثار التعذيب «رفض القاضــي التحقيق في الادعاء!» وعندما طعن المتهم بصحة التوقيــع على اعترافه المزعوم «قام القاضــي بتوبيخه مدعيا بان شــرف المهنة يمنــع المحققين من تزوير هكذا وثيقة»! وحين حــاول المحامي «الطارئ» والوحيد بقراءة مطالعته والتي دعا فيها إلى تبرئة المتهمين على أساس عدم كفايــة الأدلة وادعــاءات التعذيب قام أقــارب الضحايا بأعمال شــغب «وحاولــوا الاعتداء على المتهمــن » مما اضطر القضاة إلى مغادرة قاعة المحكمة، بعد اســتعادة النظام، وفي

غياب المحامي الــذي رفض العودة إلى القاعة، نطــق القضاة بالحكم: الحكــم بالإعــدام علــى 40 متهما وتمت تبرئة 7 لعــدم كفاية الادلة. وفي 31 تموز أيدت محكمة التمييــز 36 حكما بالإعدام من أصل 40 وتم تخفيف حكم واحد إلى الســجن المؤبد واسقطت ثلاثة احكام وأيدت أحكام البراء الســبعة. بتاريخ 14 آب وقع رئيس الجمهورية على المرســوم النهائي على تنفيــذ أحكام الإعدام ال 36 في جريمة ســبايكر، في 21 آب قامت السلطات العراقية بإعدام المحكومين في سجن الناصرية!

وكالعادة لــم يلتفت احد إلى الرقم الوارد في المحاكمة، وهو «177» وليس )1700(! وإلى ســرعة المحاكمــة، وأنه «لم تقدم أي إفــادة تم الإدلاء بها في المحكمة دليــا يثبت علاقة المتهمين بالأعمال التي اتهمــوا بارتكابها»! ولم يلتفــت احد إلى وقائع التعذيب! أو إلــى الطعن في صحة التوقيع علــى الاعترافات! فالمناخ العام لا يســمح بهكذا «تفصيلات هامشــية»! الطريف هنا أن الرجل الذي خلق كل هذه السردية حول جريمة سبايكر نفسه قد أعلن أكثر من مرة أن بعض «المعدومين» أبرياء ولكن لا أحد ممن صدق روايته الأولى، التفت الى تصريحه هذا!

الاستخدام السياسي الآخر هنا هو أن إدانة جريمة سبايكر، وتخليــد ذكراها في الوجدان الجمعي، وهي تســتحق الإدانة والتخليد والاســتذك­ار، ترافقت مع محــاولات منهجية لإخفاء جرائم موثقة أخرى لا تقل بشــاعة، عبــر إنكارها، أو محاولة التغطية عليها بطريقة منهجية، لأســباب طائفية، وســلطات الدولة كافة شــريك أصيل في ذلك! والمفارقــ­ة أن الأمم المتحدة نفسها «شاركت» ضمنيا في هذا التستر؛ عبر قرار مجلس الأمن المرقم 2379 الصادر في 21 أيلول/ سبتمبر 2021 الذي أنشأ فريق تحقيق خاص لمتابعة الجرائم التي قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنســاني­ة التــي ارتكبها تنظيم داعش، ولم تلتف إلى الجرائم نفســها التي ارتكبت في ســياق الحرب نفســها، والتي وثقت بعضها بعثة الأمم المتحدة في العراق في تقاريرها! إن الاستخدام السياسي اللاأخلاقي لمآسي المواطنين لا يمكن له إلا أن يُضيع حقوقهم، ويجعل الجاني الحقيقي يفلت من العقاب، ولا يمكن إنصاف ضحايا بإنتاج آخرين في ســياق انقسام مجتمعي وصراع طائفي!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom