Al-Quds Al-Arabi

بورتريه للأخضر بن يوسف: الشيوعي الأخير يهبط من الجنّة

-

شَتّى الَمسَالكِ، يا ابن يوسفَ.. والَمنَافِي.. مُذْ تَغَيّبَتِ الَمنازلُ.. عنكَ.. هَلْ بغدادُ كانتْ منزلاً؟ لِتكونَ يومًا بيتَكَ الأبديَّ؟ أمْ هي نقْرةُ السلمانِ؟ أمْ بيروتُ؟ أمْ فِرْدَوسُ بِلْعبّاسِ )هَلْ ما زالَ فردوسًا لنا؟( أمْ خانُ أيّــوبٍ؟ وكانَ الخانُ كالتابوت فيه ســكينةٌ وبقيّةٌ.. والفجرُ حُمرةُ كَمْأةٍ.. مَا زِلْتُ أسمعُ فيه.. في التابوتِ وَجْسَ أنينِهمْ.. منذ اهتديتُ إليهِ وحدي، في دمشقَ، كأمِّ أنجُمِها الشوابكِ.. غَيْرَ أَنَّا لاَ نَسيرُ ولا يسيرُ.. الشامُ من وحْشٍ إلى صنمٍ.. ومن صنمٍ إلى وحْشٍ.. أكانَ العامُ أعْجَفَ أم سمينا.. لَيْسَ تَأْوينَا.. ولا النعمان مِنْ نُدَمَائهِ.. كانَ اصْطَفاكَ.. ولا جِبلّةُ.. في الزمانِ الأوّلِ.. الأصنامُ تأفَلُ في العراقِ.. وفي الشآم.. الناسُ ينحدرونَ كالأوْعالِ.. كالوديانِ.. كالأنهار.. كنت أغوصُ مثل الحوتِ.. فيهمْ.. ثمّ أطفُو في اغتلامِ البحرِ.. لي من قعرهِ.. حجرُ الزوايا.. زهرةُ اللبنِ اليتيمةُ في يَدِي.. خذْها.. ودَعْ لي ثلْجَها.. أو دِفْئَها.. بَتَلاتِهَا البيْضاءَ.. هلْ هذا شتاءٌ آخرٌ؟ أجْراسُها.. للأرضِ.. هل هذا ربيعٌ آخرٌ فينا.. يكاد يدقّ أخضرَ مورقًا في القيروانِ؟ هنا.. لنَا خزفيّةٌ.. لنبيذِنا.. طَسْتٌ.. لقلبينَا.. ونحنُ معاً نحلّقُ في الطريق.. طريقِنا اللبنيِّ.. هلْ للموتِ طعمٌ؟ ربّما طَعْمُ الرمادِ.. وهُمْ؟ جنائزُهمْ.. لَهمْ... أكفانُهمْ..

٭٭٭ لي مِنْ جنوبِ أبي الخصيبِ، خيوطُ دَوّامَاتِنا.. نُلقي بها.. وندورُ حول سلاسلٍ من رملِها أو جصِّها.. أخطوطُ حَازٍ أم عِيافةُ زاجرٍ؟ أنا راحلٌ والفجرُ أبيضُ مستطيلٌ.. أم نسيجُ العنكبوتِ؟ الخيْطُ خَطٌّ والشيوعيُّ الأخيرُ «النيتشويُّ».. كَمَنْ يُجاري الريحَ.. في دوّامةٍ.. والشــعرُ مثلُ الرســمِ يوميًّا.. وليس صناعةَ اللوحاتِ.. ليسَ صناعةَ الأبياتِ.. بلْ أن تتركَ الأشياءَ تَحْيَا.. وهْيَ تنزلُ غضّةً.. لحماً وعظماً.. في طَريِّ عَجينةِ الكلماتِ.. أعني طينَها علِكًا.. خِلاسِيّا.. هَجينًا.. أن تدورَ بِهَا.. لَهَا.. في جَوْهرِ الأشياءِ.. نكشفُ نقصَها.. أي موتَها..

٭٭٭ وصَعدتُ في ميناءِ بيروتٍ إلى متْنِ السفينةِ.. كان شيءٌ من دُوارِ البحرِ بي.. )سكّانُ نوتيّ بدجلةَ، مصعدٍ(

٭٭٭ عَدَنٌ؟ وماذا بعْدهَا؟ أهَرارُ رَمْبُو؟ وامتدادُ جبالِها.. وسُهولِها؟ وِدْيانُها.. ورياحُها؟ عَدَنٌ؟ ورَمْبُو.. فوقَ بغْلٍ.. أو حِصَانٍ؟ زَوْجةٌ حَبشيّةٌ.. بِبهاءِ سيّدةٍ.. وخفّة أيّلٍ.. وخُنوعِ عبدٍ؟ أنتَ لو خُيِّرْتَ.. تفعلُ مثلهُ وتبيعُ أيّةَ خُردةٍ.. مثلَ الفرنسيِّ المقامرِ.. يا ابنَ يوسفَ.. كنت تفعلُ مثلَهُ وتبيعُهمْ صَدِئَ البنادقِ في هَرارٍ أو خِفافًا من كَاوتْشُو.. أوْ نعالاً من جلودٍ أو مَحَارَاتِ الحَسَاءِ.. نَحِيتَةً عَدَنٌ؟ وماذا بعْدهَا؟ لوْ خُطّ لِي قبرٌ بها منْ طينِهــا المطبوخِ في شــمسِ الظهيرةِ.. حيــث كانَ الرأسُ يغلي.. الريحُ تســندُ ظهرَهــا لحجارةٍ أو نخلةٍ.. والرملُ قشــرةُ بيضةٍ مَسْــلوقةٍ.. والجلدُ ينْضَجُ.. أو يلينُ.. القاتُ كالخَشْخاَشِ.. في عَدنٍ.. أنا المنفيُّ بيْنَهمُ..عزائي.. الأرضُ ذكرَى.. الأرضُ قُرْبى.. لوْ نَحتُّ هناك بيتًا من حِجَارِ جبالِها في مُنْخَلٍ للذارِياتِ.. ولوْ.. جِبالٌ مثلُ مكّةَ أم حِجَارُ نَيازِكٍ ذي.. أم كلابُ حراسةٍ أنتَ الهلاليُّ العراقيُّ الشــيوعيُّ الأخيرُ.. أكنتَ منتظرًا هبوطَ نَدَى السماءِ؟ وكان يهبِطُ مرّةً في القرْنِ.. في القرْنين.. لا شَيْءٌ.. ولا فَيْءٌ.. هُناكَ.. ولا ذُرَارَةُ عُشْبةٍ.. أوراقُ وِيتْمانْ.. ربّمَا.. وظلالُ أشباحِ اليمانيّاتِ.. في أرْضٍ خَسُوفٍ ربّمَا.. لكنّ بابي مُغْلقٌ مِنْ دُونِهنَّ.. ولي ظِلالٌ غَضَّةٌ..أخْرَى.. ظِلالُ الآتياتِ من النساءِ الآخْرياتِ.. يجئْنَ.. أعْرِفُ أنّهنَّ يَجئْنَ.. في «البُورِنَــاجِ».. عمّالُ المناجمِ.. فحمِها الحَجريِّ..كانُوا مثلنا ثملــنَ.. في الكابَريهِ أخضرَ.. في طريــق التبغِ.. في باريسَ.. في جِيفِي.. وَآرلَ في الســوِيسِ.. نْيابولي.. في جنوةٍ.. في قبْرصٍ.. في بيــتِ كَافَافيسَ فــي الاسْــكندريّةِ.. كنتُ في الأنفــاقِ.. في الأنقاضِ..

أقرأ ضوءَ قوس.. أو عموداً.. قُبّةً.. وبلاطةً.. رســمًا جداريّاً.. وأعــزِفُ.. والمدينةُ عنْــدَ دجْلةَ.. تحتَ ليلِ الأمريــكا­نِ تَغوصُ.. يَكفِــي أن نُحِبَّ.. لِنَمْلِكَ الانســانَ والحيوانَ والأعشــابَ.. أكتبُ نجمةً.. حينًا.. وحينًا زهرةً.. خيلاً.. ملائكةً.. أبالســًة.. نِســاءً.. كنتُ أعرِفُ أنّه لا شيءَ بَعْدَ الَموْتِ.. غيرَ الَموْتِ.. أنَّ الكونَ أجملُ ما يكونُ.. الأرضُ لو هيَ زُلزلتْ زِلزالَهَا.. لَوْ أخرجَتْ أثقالَهَا.. فالجنّةُ الخضراءُ أبهى ما تكونُ لنا هنا.. ولِذَا هَبَطْتُ كمَا أنَا..

٭٭٭ أنَا لستُ بالحلاّجِ.. مِيقاتِي اخْتِيارِي.. وَلْيَكُنْ.. هذا رمَــادي.. بَيْتِيَ الأبديُّ.. وحْدي.. والرمَادٌ أَصَمُّ.. أَبْكَمُ.. كالإلهِ.. فذَرّهِ.. لا شيءَ يَشْهَدُ لِي أنا.. لا شيءَ منهُ عَلَيَّ.. لا سمْعِي ولا بصَرِي.. ولا جِلْدي. تَهجَّ اســمِي.. بِأحْرُفــهِ الرمــاد.. إذنْ.. تهجَّ اســمي بِأحْرُفِهِ النّيُونِ..

وذَا نبيذٌ بُورْجُوازيٌّ.. نَبيذُ البيْتِ.. ذي أسماكُ حَفْشٍ.. فَارْفَعِ الكأسَ الرّوِيّةَ.. حيثُ موسيقَى العراقِ.. بِنَا.. شَجِيُّ نشيجِهَا.. في لنْدنٍ.. أبداً.. أحقّا نحن نَرْحلُ؟ يَا وَهَيْبي؟ إنّنَا نَحْيَا..

 ??  ?? منصف الوهايبي
منصف الوهايبي

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom