Al-Quds Al-Arabi

أين ملامحنا في زمن الوباء

الفنان العراقي بيات مرعي في معرضه الرقمي «وجوه ضائعة»:

- ٭ كاتب عراقي

■ يمتلــك الفنان مجســاته الذاتية التي يتفرد بها عــن الآخرين، فــي رؤية الحياة بطبيعة قوانينها الأزليــة، التي تآلف معها الإنســان، فكيف إذا ما عصفت بها متغيرات عنيفة، مثلمــا فعلت جائحــة كورونا، فمن المنطقي أنها ســتاخذها إلى مسارات بعيدة عــن إيقاعها الطبيعــي، الذي اعتــاد عليه في حياتــه اليومية، حيــث تنتظم علاقاته مع الآخرين بناء علــى تواصله الاجتماعي معهم، فتنمو المشاعر الإنسانية بكل تنوعها واختلافها حســب ظروفها، وفــي مثل هذه اللحظات الانعطافية عــادة ما تظهر قدرات الفنان بمــا يمتلكه من مخيلــة في التعاطي مع الحدث، والخروج بــه عبر نتاجه الفني عمَّــا يبدو عليه فــي صورتــه الظاهرة في التفاصيل اليومية للواقع الإنساني، ساعيا بذلك في المحصلة النهائية إلى إيقاظ الأسئلة في ذهن المتلقي.

حلول فنية جديدة

الفنان بيات مرعــي كان له موقفه الفني من جائحة كورونا، التي عصفت بالبشــرية منــذ مطلع الأشــهر الأولى من عــام 2020، وهذا ما جســده في معرضــه الأخير، الذي أقامه في مدينة الموصل نهاية شهر حزيران/ يونيو 2021، الــذي ضم ثلاثين لوحة رقمية عرضها أمــام الجمهــور في صالــة ملتقى الكتاب، وأي زائــر للمعرض، لا بد له من أن يخرج بنتيجة مفادهــا، أن الفنان كان دائم التفكير بحلول فنية، يــرى من خلالها وقع هذه الكارثــة على الحياة والإنســان معا، حيث تمثّل في جميع لوحاته، التي اتســمت بجرأة شديدة، موضوع الجائحة وما خلفته من تحول في ســياق العلاقــات التي اعتاد عليها البشــر في ما بينهم، حتى أن تأثيرها بدا في جميع اللوحات المعروضة، قد تعدى خطورة الحالة الصحية التي أصبحت عليها حياة الإنسان، إلى ما هو أشد خطورة منها،

وذلك بتأكيد نفيه للخصوصية الفردية التي يتمتع بها كل شــخص، في علاماته الظاهرة على وجهه، فلجأ إلى محــو الملامح الذاتية لكل الشــخوص، التي تكدست في مساحات ضيقة، بعيدا عن الضوء والهواء والشمس، والأســواق والشــوارع وكل الفعاليــا­ت الاجتماعية.

كل الوجــوه تحولت إلى ثيمة رئيســية مع أنها غائبــة بتفاصيلهــ­ا الخاصة، لكنها حاضرة بقــوة المحو الذي أصابها بســبب الكمامــة التــي تحولت إلى حاجز ســميك، لنفي الانفعالات والأحاســي­س المتبادلة في ما بينهــا، فتحولت العلاقات المباشــرة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلى ممارسة قائمة علــى التخفي والتســتر والنــأي، بدل أن تتعالق وتتواصل وتتفاعــل، ولأجل تأكيد هذا المحو، عمد إلى تجريــد فضاء اللوحات من أي شــيء يحيط بالإنســان في حياته العادية، من بعد أن انعزل عنها مرغما.

صدمة التلقي

تعامــل مرعي مع موضــوع الجائحة في معرضــه الرقمي، باعتبارهــ­ا تحولا طاغيا فرض ســلطته علــى الحضور الإنســاني وغيَّبه، وهذا ما أشــار إليه عنوان المعرض )وجوه ضائعة( وهنا تبــدو تجربة الفنان في علاقته مــع الواقع المحيط، أبعد ما تكون عن المحاكاة والاستنســ­اخ، لأنها تنطلق من فهم عميق لعملية الإبداع الفني، وهذا يتأتى من محاولته إيجاد مسارات متمردة على ما هو قائم من أســاليب، ونزوعه نحو ضفاف لم يتوصل اليها آخرون، في رؤية الأشــياء الظاهــرة، بالكشــف عما تخفيــه دلالاتها القائمــة في الذاكرة الجمعيــة من مدلولات قابلة للتأويل والقراءات المتجددة.

خصوصيــة بيــات تكمــن فــي تعــدد اشــتغالات­ه الإبداعية، التي تتــوزع ما بين كتابة النصوص المسرحية والرواية والقصة القصيــرة، إضافة إلى الرســم والتصميم، وهذا التنــوع الأجناســي فــي تعامله مع الموضوعات والأفــكار، جعلــه يمتلك قدرا عاليا من الحرية بكل ما يتصل بالأســالي­ب، التي يتعامل بهــا مع أي تجربة جديدة يقدم عليها، إضافة إلى مــا تغتني به التجربة من روافد فنيــة وثقافية لها صلــة بهذا التنوع الحاضر فــي خصوصيــة ثقافتــه، ولهذا سيكون أمرا طبيعيا أن تجتذب لوحاته عين المتلقي منذ الوهلــة الأولى، لأنها تحدث فيه صدمة على مســتوى الرؤيــة البصرية، لِما تحفل به من غرابة في الأشــكال المستوحاة من الواقــع، لكنــه يحيلها إلــى منطقة من التجريد يتغرب فيهــا الواقع، وهذا ما يميز نتاجه بشكل عام، سواء في فنون السرد أو الرسم، وقد تجســدت هذه الفكرة واضحة في لوحات هذا المعرض.

يســتعيد مرعي في لوحاته تركيبة الفن الحديث بقدرته الاستفزازي­ة لذائقة المتلقي، وتحفيزها علــى أن تقرأ العمــل الفني عبر التأمل العميــق لحدة الخطوط وانكســار الأشــكال بعيدا عــن طبيعتهــا الواقعية، وانزياحها إلى بؤرة من الكثافة الإشــارية، بقصــد أن يتحلــى المتلقــي بقــدرة علــى الاســتغوا­ر في أبعاد التجربــة الفنية، ولا يبقى أسير التلقي اللحظوي الانفعالي.

مواجهة مع الذات

جائحــة كورونــا فــي لوحــات بيات اســتحالت إلى مواجهة قاســية مع الذات، لأجل أن تصحــو على ذاتها، وتــدرك قيمة التواصل الإنساني المباشــر، بعد أن اتضح مــدى التاثيــر العميــق الــذي احدثته في طريقة العيش التي اعتاد عليها الإنســان، وعلينــا أن نتذكــر مــا أوصت بــه منظمة الصحــة العالمية في بدايــة الجائحة عندما طالبت «بالتباعــد الاجتماعي» لكنها أدركت خطورة مــا دعت إليــه، وأعــادت صياغة العبارة «بالتباعد الجسدي» إلا أن الحقيقة التي رصدها مرعي فــي لوحاته هي فداحة التباعــد الاجتماعي الذي تراكــم في الزمن الواقعي، وامتد زحفه وتأثيره إلى كل زاوية ونشاط من الحياة الإنسانية، حيث انزوت الوجوه عن الوجــوه، وانعزلت عن بعضها بحواجز ومعرقلات، حالهــا حال الحواجز الكونكريتي­ة، التي تفصل المدن عن بعضها، وتقطع التواصل بين البشــر، رغم الصلات الاجتماعية التي تجمعهم.

علــى الرغــم مــن أن الوجــوه اختفت ملامحها، إلا أنها تبدو مشــحونة بالأســى واللوعة، وهــذا ما يمكن ملاحظته من خلال حدة الخطوط وقسوة حركتها، وكأنها تشير إلى مخزون الذكريــات، التي باتت تعتاش عليها من بعد أن فقــدت تواصلها مع الزمن الحاضر، الذي يحيلنا إلــى هذه القناعة ما بدت عليه الألوان الأساســية مــن طغيان في فــرز خصوصياتهــ­ا، الأحمــر والأزرق والأصفر، وما ينتج عنها من ألوان أخرى.

ولتأكيد فرضية ما أصاب الإنسان من فزع إزاء حالــة التباعد الاجتماعي التي فرضتها عليه الجائحة، عمد بيات إلى اعتماد نظرية بافلوف «الانعكاس الشــرطي» عندما جعل شــخوصه متلاصقــة إلى بعضهــا بعضا، وكأنها تطمــح إلى أن تكــون كيانا واحدا، نظرا لمــا تحمله فــي داخلها من تــوق إلى التواصل الحميمي من بعد أن حرمت منه في الحقيقة.

الفن طريقة

نحن أمام تجربة فنية تبتعد في وسائطها عن مغريات الممكنــات التقليدية، وقد حاول فيها مرعي أن يخضع الفــن الرقمي بجمود أدواتــه التقنية لمخيلة الفنــان، وهنا يكمن ســر أي تجربة تتخطى المتــداول من آليات الإنتاج، لأن «الفن ليس شــيئا، إنه طريقة» حسب ما يؤكد على ذلك الكاتب والفيلسوف الأمريكي إلبرت هوبارد ‪1951( )1856‬ إنه طريقة في إيجاد علاقات جديدة مع الأشياء، تدفــع المتلقي إلى أن يكتشــف مــا يمكن أن تختزنه دلالاتهــا من إيحــاءات بعيدا عن التوظيف اليومي المتداول.

بيات في هذا المعــرض كان منفتحا على مــا يحيطه، رغم مــا فرضتــه الجائحة من عزلة، ابتدأ من تناول موضوع ما زال يفرض هيمنتهــا على الحياة، وانتهاء باســتخدام «الرســم الرقمــي التوليدي» الــذي يعتمد على لغة الكمبيوتــ­ر )الخوارزميا­ت( حيث يســتخدم الفنان برامج فنية رقمية خاصة، تجعله يتمتع بقدر من الاستقلالي­ة في توليد أفكاره، وتشكيل لوحته استجابة لما تفرضه مخيلته. وســبق له أن فتح آفــاق تجربته الإبداعية على الرســم الرقمي، في معرض مشــترك أقامه قبــل عامين بالاشــترا­ك مع الرســام موفق الطائي، وفي معرضه الأخير حــاول أن يدفــع بمخيلته إلــى أن تمارس ســطوتها على الوســيط الرقمي، بالشكل الذي يفتح آفاقا مســتقبلية فــي تعامله مع التطور التكنولوجي، لصالح الحد من هيمنة سلطة الوسيط الرقمي إزاء ذخيرة الفنان.

وحول الدوافع التي كانت وراء إقامة هذا المعرض، أجابنا قائــا إن «جائحة كورونا عملت علــى إحــداث ضرر صحــي أوصل الإنســان إلى القبر، إلاَّ أنها قبــل هذا وذاك حاولت مســح عناوين الوجوه، فالكمامة ما هي إلا ماسك لمحو كل المسميات التي تطلقها الوجوه، فمــا كانت تلك الوجوه إلاَّ أن تظهر في شــكل مســخ، من الصعب قراءتها، ومن هنا جاءت لوحاتي لتعبر عــن تلك الزحمة والربكة التــي أحدثتها الجائحة اللعينة في كل شيء».

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom