Al-Quds Al-Arabi

احتراق الحضارات بين ناري الداخل والخارج

ثائر دوري

- ٭ كاتب سوري

■ احتل الفرنجة طرابلس الشــام فــي 12 تموز/يوليو عام 1109 بعد حصار طويل دام عشــر ســنوات. وكعادتهم سبوا النســاء وقتلوا الرجال وأحرقوا مكتبتها. ويصف المؤرخ ابن الفرات ما حــدث «ثم غدروا بأهل طرابلــس فقتلوا منهم خلقاً كثيراً لإحدى عشــر ليلة خلت من ذي الحجــة، ونهبوا ما فيها وذبحوا الأطفال والنســاء والرجال ذبح الشاء، وحرقوا عدة مواضع حتى قال لهم بعض المسلمين: ألستم عازمين على المقام بهذا البلد؟ قالوا نعم. قال فعلام تخربونه فأمسكوا حينئذ عن الهدم والحريق».

طال الحريــق مكتبة طرابلس «دار العلم» التي أنشــأها آل عمار، وتحديداً طالب بن عمار، الذي استولى على طرابلس عام 1070. ويصف المؤرخ ابن الفرات هذه المكتبة «وكان لطرابلس دار علم لا نظيــر لها في العالم، تحتوي علــى ثلاثة آلاف ألف كتاب «يعني 3 ملايين» في العقائد وتفســير القرآن الشــريف والحديــث والأدب. وكان عــدد المصاحف فيها خمســن ألفا والتفاسير عشرين ألفا..». وعند سقوط المدينة بيد الصليبيين كما يروي ابن الفــرات «دخل أحد كهنتهــم دار العلم فتعجب من كثرة كتبهــا. وكان أول خزانة رآها خزانة المصاحف، فأخذ الواحد منها فعرف أنه القرآن وهكذا استقرى بقية الكتب، فإذا كلها مصاحف، فأعلن الأمر لرفقته فأضرموا النار فيها وحولوا المكتبة رماداً».

ينتقد المستشرق الأب لامنس اليسوعي الأرقام الواردة في رواية ابن الفرات، ثم يستشــهد الأب بتتمــة كلام ابن الفرات حول أن جميع مــا ضمته المكتبة، كتباً دينية، مع أن ابن الفرات يتكلم عن محتويات خزانة المصاحف. يقول لامنس «فترى من هذه الرواية مع ما فيها من الأرقام المفرطة، أن معظم محتويات مكتبــة طرابلس كانت كتبــاً دينية» لذلك يُهــون الأب لامنس اليسوعي من شأن هذا الحريق ويقلل من قيمة دار العلم. فيقول

«يوهم اســمها «دار العلم» بأنها كانــت كلية جامعة تدرس فيها ضروب العلوم كما في عهدنا ـ كلا ثم كلا ـ فإن المراد بالعلم في اصطلاح مؤرخي العرب إنما هــو درس القرآن، وما يلحق به من التفســير والحديث واللغة. أما العلــوم المدنية كالطب والهيئة والرياضيات، إلخ فكانت تعرف بعلوم الأوائل وكانت لها مدارس خاصة يحضرها الدارسون.. ولا شاهد لدينا يثبت تعليم المســلمين بعلوم الأوائل في طرابلس». هذا الركن الأول من دفاع الأب لامنس عن إحــراق مكتبة طرابلس، وكأنه يقول إن كل مــا فيها كتب تتعلق بالعلوم الدينيــة، وبالتالي لا ضير من إحراقها. وربما لو طال به العمر لبرّر لدعاة اليمين المتطرف أفعالهــم الحالية بإحراق القرآن الكريم، بالطريقة نفســها! ثم ينتقل للتشكيك بعدد الكتب الموجودة في المكتبة، فيشكك برقم المؤرخ ابن الفرات الذي يذكر رقم ثلاثة آلاف ألف كتاب، وكذلك بما ذكره المستشــرق هرتريك ديرنبورغ والمستشــر­ق الألماني بروتس. وبعدها يذكــر أن الحرائق أمر عادي في تلك الأزمنة، فقد احترق الجامع الأموي ســنة 1069 «وما تكرر فيه بعد ذلك غير مرة من لهيب النيران، فلا شك أنها التهمت الكتائب المودعة فــي هذا الجامع» ويطلــب التماس العــذر للصليبيين إن صح هذا الحريق بهــذه الدعوى «ولو ثبت حــرق الصليبيين لهذه المكتبة لوجــدوا لهم عذراً في حرائق كثر غيرها في تلك الأزمنة المضطربة بالغة الحروب».

يمكن تلخيص دفاع الأب لامنس عن واقعة إحراق الصليبيين لمكتبة طرابلس أولاً، بالتقليل من شــأن المكتبة عبر التشــكيك بأرقام أعداد الكتب التي ذكرهــا المؤرخون، وكأن حرق الكتب خارج دائــرة الفعل الهمجي المدان، لو كان عــدد الكتب قليلاً. ثانياً يتبع لامنس مذهب التشكيك بأهمية الكتب الموجودة في المكتبة، حيث يفترض أنها كلها كتــب دينية أو متعلقة بالدين. وكأن ذلك أمر مسموح به أخلاقياً. وأخيراً يدافع بطريقة غريبة بالقول إن ذلك الزمان كان زمان حرائق..

على الجانب الآخر من البحر المتوســط، في الأندلس، وفي فجر النهضــة الأوروبية عــام 1499، وصل مطــران طليطلة خمنيس إلى غرناطة، التي احتلها الإسبان حديثاً، فأمر بجمع كل الكتــب العربيــة من البيوت والمســاجد مــن جميع أنحاء غرناطة، ثم حُملت إلي ميدان باب الرملة أعظم ساحات المدينة، وهناك أُحرقت عشــرات الألوف من الكتب النفيســة في شتي ميادين العلوم. وما بين إحــراق مكتبة طرابلس بأيدي فرنجة الشرق، وإحراق كتب غرناطة بأيد فرنجة الغرب، كانت جريمة إغراق كتب بغداد في نهر دجلة علــى يد المغول، حتى اصطبغ ماء النهر بلون الحبر الأزرق من كثرة ما ألقي فيه من كتب، على ما يذكر المؤرخون، سواء كان ذلك حقيقة أم مجازاً. رمى بعض الكتاب والمفكرين والسينمائي­ين العرب، وقائع إغراق وإحراق ملايين الكتب والمخطوطــ­ات على أيدي المغول والفرنجة، وهي نفائس في شــتى أنواع العلــوم، مما يعد خســارة ما بعدها خسارة ليس للعرب وللمسلمين وحســب، إنما لكل البشرية. تركوا كل وقائع الإحراق والإغراق على يد العدوان الخارجي، وأمســكوا بواقعة إحراق كتب ابن رشد، «في عام 1194 أصدر الأمير أبو يوســف يعقوب المنصور، وكان وقتئذ في إشــبيلية أمراً بإحراق جميع كتب ابن رشد، واستثناء عدد قليل منها في التاريخ الطبيعي» ولو اتبعنا منهج الأب لامنس في الدفاع عن فعل حرق الكتب، لقلنا إن ما احترق هي كتب في الفلســفة، أما الكتب العلمية فلم تمس. لكننا نقول إن إحراق الكتب، ســواء كانت دينيــة أو فلســفية أو علمية أمر خطير. ســواء تم بأيد خارجية، أو داخلية، وهوعلامة على انهيار الحضارة، أو نذير بانهيار الحضارة القائمة.

ما ندعو إليه هــو التوازن في نظرتنا للأمــور، والنظر إلى أسباب انهيار الحضارة العربية ـ الإسلامية القائمة في العصور الوسطى كنتاج لخلل في آليات التطور الداخلية، وأيضاً نتيجة العدوان الخارجي. أما تســليط الضوء على سبب دون الآخر، فهو انحياز مسبق أو عملية مقصود منها تبرئة الطرف الداخلي مرة والخارجي مرات. إن رد الانهيار إلى أسباب داخلية بحتة مثل خلل في بنية العقل العربي، كما يفضل بعضهم، دون النظر إلى العــدوان الخارجي أمر باطل وهو الوجه الآخر لمن يدعون أن سبب الانهيار يعود إلى العدوان الخارجي فقط. وأشير هنا إلى أننا نناقش مســألة حضارية ـ سياســية تخص أوضاعنا الراهنة. فالنقاشــا­ت حول أوضاعنا الحالية البائسة ما زالت منقسمة بين من يفسرها بالعدوان الخارجي، ومن يردها كلية إلى الديكتاتور­ية والفســاد الداخلــي، دون النظر إلى جدلية الأمر وتضافر الفساد والديكتاتو­رية مع العدوان الخارجي.

الحضــارات لا تحتــرق بنــار واحدة بــل بنــاري الداخل والخارج.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom