Al-Quds Al-Arabi

في ضيافة نجاة

يوميات عودة إلى فلسطين :»2«

- ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف ٭ كاتبة فرنسية

هنــا الحلقة الثانية والأخيرة مــن يوميات الكاتبة الكاتبــة والصحافية الفرنســية آن برونســويك إلى تســعى إلى فضح الوجه العنصري والاســتئص­الي للكيــان الصهيوني، بما يســتتبعه ذلــك من تفاصيل لها تعلق بأشــكال المعاناة والحصــار والتمييز، التي يعانــي منها الفلســطين­ي. وتمثل لها بجــدار الفصل العنصري وتصاريح الدخول إلى الأراضي المحتلة.

في حضرة مخيم جنين

التحق بنا بعض الأطفال ونحن نتحدث. انســلت طفلة فــي السادســة مــن عمرها بين ســاقي جمــال، وأصرت على التقاط صــورة لها قرب باقة من الورد البلاســتي­كي موضوعــة فوق طاولــة. شــعر طويل مجــدول وقميص مزخرف بخيوط فضية وابتسامة براقة. أرتني الصغيرة على شاشــة هاتفها المحمول صورة أبيها بلباس مقاتلي كتائــب شــهداء الأقصــى. قال جمــال: لم يســبق لها أن رأتــه؛ إذ اعتقــل قبــل ولادتها. جــاء أطفال آخــرون، ثم لــم يلبــث أن لحق بهم أشــقاء جمــال الكبــار وزوجاتهم والشــقيقا­ت. قال جمال: حذارِ من التقاط صور للنســاء، لكــن فــي مقــدورك تصويــر الرجــال والأطفال. لــم يكن الكبــار الآخرون بالصرامة ذاتها، بل إن شــقيقه لم يلبث أن تخلص من عكازيه واتخذ مجلســه فــوق الأريكة، وقد لف يده حول كتــف زوجته. قالت إحدى شــقيقاته: كلنا مسلمون، لكننا لا نصرف كل وقتنا في الصلاة والدراسة مثل جمال.

تطوع طفل في العاشــرة كي يقودنــي إلى منزل نجاة. من النادر أن يكون للأزقة أسماء في المخيم، كما أن البيوت لا تعرف إلا بأســماء من يســكنونها. ويتمثل دور الأطفال في إيصال الزوار. تركني الجــار الصغير قبالة باب بيت، ولــم يلبث أن اختفى. ومن حســن الحظ أنني تعرفت على المنزل، لم تكــن نجاة تنتظرني لكنها اســتقبلتن­ي باللطف والملاحــة ذاتهمــا قبل ســنتين، حين وصلت دون ســابق إنذار مســاء 31 ديســمبر/كانون الأول. ســتحصل نجاة علــى بطاقة هوية في غضون أيام، كانت تعيش وتقيم في المخيم منذ أحد عشــر عاما، دون أوراق مع ذلك الإحساس بالرعــب مــن أن يجــري اعتقالهــا وترحيلها إلــى الأردن، وحرمانها من زوجها وأطفالها.

ولــدت نجــاة فــي الجزائــر عــام 1970 لأم مــن منطقة القبايل وأب فلســطيني لاجئ. كان الأب ينحدر من أسرة من البدو المزارعين، تقيم في قرية تبعد تســعة وعشــرين كيلومترا عن مدينة حيفا. ولأنه أســتاذ للغة العربية، فقد ســافر إلــى الجزائر فــي الفترة التــي اختار فيهــا النظام سياســة التعريــب، واقترن فــي منطقة القبايل بأســتاذة للغــة الفرنســية، انجب منهــا ابنتين وابنا. عاشــت نجاة في الجزائر إلى أن بلغت من العمر أربعا وعشــرين ســنة، وتابعــت فيهــا كل مراحل دراســتها باللغتين الفرنســية والعربيــة. ودرســت البيولوجيا في الجامعــة. وفي عام 1994 وشــأن كل فلســطينيي الشــتات رغــب والدها في العــودة إلى البلاد، كي يــزوج ابنتيه من أبناء أخوته. وقد بدا كل شــيء ممكنــا بعــد اتفاقيات أوســلو. تمت خطبة البنتين إلى ابنــي عمهما المقيمين في مخيم جنين. ولم يبق إلا بنــاء المنــزل. وكان على نجــاة أن تنتظر أربع ســنوات إلــى أن تنتهــي أشــغال البناء. وفــي انتظار ذلــك أقامت

فــي الأردن، حيــث عملــت دليلة ســياحية. ولَــم تلبث أن عبرت صحبة شــقيقتها نهــر الأردن، وقد نظم حفل عرس للشــقيقتي­ن توفيرا للنفقات استدعي له ألف مدعو. أقامت الشقيقتان في شقة واحدة وهي التي نوجد فيها الآن، في انتظار انتهاء بناء الطابق العلوي.

الهوية الفلسطينية

وفــي عــام 1999 تقدمــت نجــاة بطلب الحصــول على بطاقــة هويــة، غيــر أن انــدلاع الانتفاضة عــام 2000 دفع بإسرائيل إلى وقف كل عمليات التسوية القانونية، ولكي تحصل على بطاقة الهوية الفلســطين­ية ينبغي للســلطات الإسرائيلي­ة أن تقوم بتسجيلك. وقد بدا الوضع بالانفراج منذ عام 2007 وبضغط من الأمم المتحدة التي تُلِّح بشــكل دوري على إسرائيل، كي تسهل الحياة اليومية في الضفة الغربيــة. حصل أخي بدوره على رقم تســجيل لكن يلزمه الحضور شخصيا كي يستلم بطاقة هويته. ولأنه موجود في عمان، فإن إسرائيل ترفض دخوله دون أوراق ثبوتية. لا تســتغرب نجــاة إطلاقا من هــذا العبــث البيروقراط­ي وتعتبرها نصيبا يوميا.

هل ثمة من أخبار جيدة أخرى؟ الأبناء الثلاثة في حال جيدة، ويتابعون دراســتهم بشكل جيد، لكنني اضطررت إلــى وضــع الأصغر فــي حضانة خاصــة، ثمــة كثير من العنف فــي المدرســة العمومية، وقد ســمعت أن طفلا في الثالثة عشــرة من عمره طعن طفلا آخر أثناء عراك. وليس هــذا بغريب في ظــل الحياة التي نعيشــها داخــل المخيم. يركــض الأطفال بعــد الخروج من المدرســة ويأخذون في رشــق الجنود الإســرائي­ليين بالحجارة. لا يشعر الصغار بخطورة ما يفعلونه، وقد قتل الكثير منهم. ولهذا الســبب قمت بإدخال نسيم إلى مدرسة خاصة بقصد حمايته.

تخاطبني نجاة بألفة وتعدّني صديقة لها. لم اجرؤ قبل ســنتين على إجراء حوار معها بســبب افتقادها لوضعية قانونية. ثرثرنا بشكل عشوائي لمدة ساعة. أما اليوم فقد تحدثنا على ســجيتنا، أو لنقل بالأحرى أن نجاة منحتني كل وقتهــا، ورغــم أن المنــزل الصغيــر كان يصطخب من حولنا. شــغب الأطفال في الصالون والزوج بســام الذي عــاد لتوه من رحلة إلى الأردن، وأمه التي عادت من ســفر إلى إسرائيل، وتغريد الكناري داخل القفص، وبائع الثلج الذي يطلق موســيقى حادة. اصطحبتنــي نجاة إلى غرفة مجــاورة كان الصخــب فيها أقل. أما الخبر الأســوأ الذي هز الأســرة فيكمن في مرض بســام، الذي سوف يضطر إلى زرع كليــة. وقد اقترح إخوته أن يتبــرع أحدهم بكلية، لكــن تبقى ثمة مراحــل ينبغي قطعها. ينبغــي بدءا إجراء اختبــارات بيولوجية بقصد التأكد مــن الملائمة، ثم إجراء العملية في الأردن، أو مصر، أو أي بلد آخر. لكن بأي ثمن؟ كان بســام عاطلا عــن العمل. وكان قبل ذلــك عامل بناء، ولأنــه لم يكن يملك تصريحا بالدخول إلى إســرائيل، فقد كان يستيقظ في الرابعة والنصف صباحا ويقطع مسافة طويلة عبر الجبــال، كي يبدأ العمل في أوراش البناء قرب حيفا في الســاعة السادســة والنصــف. كان يعمل طوال النهار ولا يعود إلى البيت إلا في التاســعة مساء. وكان أن تدهورت صحته بهذا الصنيع.

لم يعــد في مقدور بســام الدخــول إلى إســرائيل منذ عــام 2006 ولو بطريقة ســرية. وقد ســعى إلــى أن يكون سائق ســيارة أجرة باستخدام ســيارته الرونو العتيقة. كان يوصل ســاكنة المخيم إلى وســط المدينــة، الذي يبعد بثلاثة كلم. ولم تكد تمر ثلاثة أشــهر حتى منعته الســلطة الفلســطين­ية من العمل، بحجة أن ســيارته ليست مسجلة كسيارة أجرة وغير مناسبة لنقل المسافرين. ولبث بسام في المنزل يشــكو ويندب حظه. وفي هذه الفترة اكتشــف اصابته بالفشــل الكلوي، ولأن والده توفــي بالداء ذاته، فقد أصبح نهبا للوســاوس والأفكار السوداء. كان يردد باستمرار بأنه ســيموت. وكنت أبذل قصارى جهدي في مواساته، والرفع من معنوياته وتشجيعه على أن يتداوى بالأعشــاب. لكنني لم أكن اتوقف عــن البكاء حين اختلي بنفسي، كنت في تلك اللحظة حاملا وقد أخبرني الطبيب بعد ثلاثة أشهر أن الجنين لن يعيش. وقبل أن أحيط علما بمرض بســام كنت راغبة في إنجاب طفــل آخر. بيد أنني اعتقــد الآن أنــه كان مــن الأفضل لــو فقدت هــذا الجنين، وليغفــر لي الله. كان عليّ أن أجــري عملية ولادة قيصرية في المستشــفى، وأن أبعث بســام إلى الأردن كي يتداوى بالأعشــاب. وقد لبث هناك ثلاثة أشــهر. ولأن إســرائيل ترفــض دخولــه بهذه الأعشــاب، فقــد اضطــر للبقاء في الأردن كي يتابع حصص العلاج إلى النهاية.

وحيــث إننــا كنا جالســتين فــوق الأريكة بمعــزل عن الأســرة فقد شــعرت نجاة بأنها أكثر حرية في أن تفضي إلــيّ بدخيلة نفســها. كان زواجها من بســام فــي البداية بترتيــب مــن أســرتها. كان التفاهــم موجــودا، وكان يلذ لها العيــش معه. ثم لم يلبث أن تخلــق الحب خلال الأربع ســنوات التــي اســتغرقها انتظارها له. وقــد مرت إحدى عشــرة ســنة من الزواج بســرعة البــرق. لم يتابع بســام للأسف دراســته، وقد هجر مقاعد الدرس في السنة التي ســبقت البكالوريا. كانت الانتفاضة الأولــى وقد انخرط فيهــا بكل قــواه. والكل في الأســرة يدين بالــولاء لحركة فتح، وما زلنا كذلك، رغم بعض الأخطاء والعيوب. ســافر بعدهــا إلى إســرائيل كي يكســب المال، وقــد حقق دخلا وفيــرا بحيث لم يفكــر إطلاقا فــي العودة إلى الدراســة. تزوجــت نجاة فــي ســن الثامنة والعشرين وهي سن متأخرة في فلســطين. وقــد أنجبــت أبناءها الثلاثــة، دون أن تتوقــف عــن العمل؛ وهو مــا يعتبرا أمرا نادر الحــدوث. وهي تقــوم بتدريس البيولوجيا منذ عشــر ســنوات فــي إعداديــة القريــة المجاورة. وقد خــاض الأســاتذة في كل فلســطين إضرابــا مــن أجــل الرفع مــن مســتوى أجورهم، وشــاركت نجــاة بدورهــا. لــم يعــد راتــب 1800 شــيكل إســرائيلي أي 360 يــورو كافيــا. وقد قــررت الحكومة اقتطاع 200 شــيكل من أجل التقاعــد. لكــن التوقيت غير

مناســب بســبب ارتفاع أســعار المــواد الغذائية، بشــكل خــاص. كمــا أننا لم نعــد نتلقى إلا نصف مــا كنا نحصل عليه في الســابق من مخازن الأونروا من الســكر والزيت والدقيق. وبتأثير ذلك ازدادت حدة التوتر بين إدارة الأمم المتحــدة والســكان. كانت الأونــروا، في مــا مضى توفر فرص شــغل للعاطلــن عن العمل في المخيــم بمعدل ثلاثة أشــهر للواحــد وبالتناوب. لكــن حادثة خطيــرة تعرض خلالهــا مديرهــا للمضايقــة، أدت إلى إلغــاء وحذف كل التوظيفات. وقد أصبح أشــقاء بسام بدورهم عاطلين عن العمل.

وفي هــذه اللحظة ليس ثمة من يعول الأســرة إلا نجاة وحماتها. سريا امرأة في الستين من عمرها، أنجبت ثلاثة عشــر ابنا وتشــتغل عاملة في مزرعة كبيــرة قرب حيفا. وهنــاك تقيم صحبة خمس نســاء في منــزل صغير، ولا تعود إلى المخيم إلا مرة كل ثلاثة أشــهر. لم يرغب أحد في أن يخبرهــا بالهاتف بمرض بســام. وقــد علمت بذلك في التو. وقد شــاء القدر أن تكون الحقول بالقرب من قريتها ومســقط رأســها في ســهول حيفا. وفي الليــل يمكن من أعالي جنين رؤية أضواء القرية.

وحســب نجاة، فإن المخيم لم يشهد مثيلا لهذا البؤس. فمنذ أن توقــف الرجال عن الذهاب إلى إســرائيل للعمل، وتوقفــت التوظيفات في المزارع، أصبح الناس يعيشــون مثل متســولين. وقد جعلهم هذا الوضع ســيئين. سألتها إن كان حدث قتــال بين فتح وحماس في المخيم، وإن كان هناك قتلى فكان جوابها أن ذلك لم يحدث إلا في غزة. هل ثمة أشخاص آخرون مثل جمال يسلكون طريق التطرف؟ لا. كلنــا مســلمون وأنــا بــدوري اؤمــن بالجنــة وأن ثمة حيــاة بعد المــوت. لكن لا بد من العمل. وليس الإســام أن تحصــر حياتك في الصلاة والتعبــد، وإنما في فعل الخير في أســرتك وفي من حولك، وأن تعمــل من أجل أن تكون الحياة أفضل.

أرخى الليل سدوله وكانت ســيارات الأجرة الجماعية المتجهة إلى رام اللــه قد غادرت. ألحت نجاة وزوجها عليّ كي أقضي الليلة معهما. وقد وافق بسام على أن يوصلني إلى المحطة الطرقية بســيارته الرونو العتيقة. ارتدت نجاة معطفا طويلا وغطت رأسها بالمنديل، قبل أن ترافقني إلى الخــارج. اكتشــفت للتو نجــاة أخرى تجهد فــي أن تكون غيــر مرئيــة حين خروجهــا إلى الشــارع. وقــد عثر بســام لحســن الحظ في المحطة الطرقية على ســائق كان يســتعد للذهاب إلــى رام اللــه. قطعت في غمرة ســكون الليل شــمال الضفة الغربية وطوله ستون كلم وتتخلله ثلاث من نقاط التفتيش، يحرســها عســكريون تجمدوا من فرط البرد. كان فــي مقــدوري أن أثرثــر مــع الســائق الفلســطين­ي اللبــق، الذي كان متعلمــا وحاصــا علــى دبلوم فــي الهندســة المدنيــة لكننــي آثرت الانــزواء في ركن الســيارة والتفكير فــي أصدقائــي في مخيــم جنين وما ينتظرهم.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom