Al-Quds Al-Arabi

حل الأزمة اللبنانية... بين ما ظهر وما خفي

- نزار بدران*٭

تُظهِر الأزمة اللبنانية مدى عبثية قيام الدولة القطرية العربية، التي أسسها المستعمر الفرنسي أو البريطاني بعد انسحابه من بلادنا.

كمــا يعرف الــكل، فإن هذا المســتعمر لم يكــن يهمه بنــاء كيانات تحتــوي على عناصر القــوة والديمومة، بل كيانات بائســة ضعيفة، يســهل الســيطرة عليهــا وتوجيههــا، فحــدود لبنــان أو ســوريا أو العــراق ودول الخليج وباقي الدول العربية لا تملك من الشــرعية إلا الاتفاقيــ­ات الدولية التي أوجدتها بعد انتهــاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، وليس شرعية التاريخ المشترك لمن يسكنها.

هــؤلاء اعتُبِــرُوا بدورهم بنــاء علــى انتماءاتهم الطائفيــة، وليس على منطق الدولــة القومية القوية، بما تحتويه من إمكانيات تســمح بتحقيق أمن وسعادة وازدهار هؤلاء السكان.

الإرادة الفرنسية الاستعماري­ة

لبنــان الحديث الآتي من الإرادة الفرنســية الاســتعما­رية، لم يتوان يوما عــن اعتبار نفســه نموذجا للعــرب، بما مثله من حريــة وتعايش وازدهار تجاري، حتى أن البعض أطلق عليه إسم سويسرا الشرق.

لم تصمد هذه الصفات طويلاً أمام الواقع المادي، فالتوزيع الطائفي

والمحاصصــ­ة بالمناصب ومراكــز التأثير، أو اعتبار الآخــر خطرا على لبنــان مثل الوجــود الفلســطين­ي ثم الســوري للاجئــن، أو التحالف مــع دول أجنبيــة من أجل الحمايــة أو الدعم، كل حســب طائفته دون الالتفات لمصلحة الوطن المشترك، لم يؤد كل ذلك إلا إلى زيادة التشرذم وتفضيل المصالح الضيقة، وهو ما يفسر ما آلت إليه الأمور.

الحراك الشعبي

الحراك الشــعبي نهاية 2019 لم يكن ســبب ذلك بــل نتيجة له، ثار الناس لأنهم شــعروا ببدء انهيار الدولــة، وإمكاناتها لضمان الحياة العاديــة لهم من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وربطوا ذلك مع طبيعة بلدهم المبني على الطائفية.

شــعار هذا الحراك هو إنهاء هذه الطائفية داخل البيئة السياسية، واعتماد المواطنة المتساوية بديلها.

نجد الأوضاع نفسها أو أوضاعا قريبة في دول عربية أخرى مثل العراق وسوريا، وأخرى لم تصل بعد إلى الحالة اللبنانية لكنها تتجه نحوها.

الأزمة هــي بطبيعة الدولة القطرية وليس فقط بســوء سياســات قادتهــا. لو أخذنــا نمــوذج دول الربيع العربي الناجحــة، خصوصاً تونس وبدرجة أقل الســودان، فإن إسقاط النظام السابق الفاسد لم

يؤد إلى تغييرات تحفظ البلاد مــن الانهيار الاقتصادي، بل قد يكون فــي بعض الأحيــان العكس، هذا ليــس مرده عقم الثــورة، وإنما عقم الدولة القطرية.

فلــو وُضِعَت تونس في إطارهــا المغاربي والذي ســيفتح لها باب أكثر من مئة مليون منتج ومســتهلك، وإمكانيات المنطقة الهائلة على مســتوى الثروات الطبيعية والزراعة، فإنها تســتطيع حل مشاكلها بهذا الإطار الجديد ولمصلحة كافة دوله.

التكامــل الاقتصادي بين الدول المتجاورة هو أســاس الخروج من الأزمة، وليس فقط الإصلاحات السياسية على أهميتها.

يمكننا تعميم ذلك أيضا على وضع الجزائر أو الســودان، التكامل الاقتصادي لتلك الأخيرة مع مصر هو شــيء حيوي لها، وما نراه من صعوبات جمة أمام الحكومة الســوداني­ة الآتية من ربيع الشعب رغم الدعم الدولي إلا دليل على ذلك.

التكامــل الاقتصــاد­ي بالنســبة لنا يعنــي حرية الحركــة والعمل والاســتثم­ار بين الدول المعنية دون قيود، بناء بنية تحتية مشــتركة من وســائل النقل، فتــح الجامعات أمام الجميع، واشــياء كثيرة. ما نراه اليوم من قيود تكبل الناس لا تفســر إلا بأســباب أمنية، أي أمن الأنظمــة وبقائها. كل مواطن يشــعر بهذه الحاجــة للتكامل وتقريبا بشكل عفوي فهي تبدو بديهية.

البحــث عن التكامــل الإقليمي هو معيار نجاح التغيير السياســي.

هــذا ما حدث مــع دول شــرق أوروبا بعــد خروجها من الاســتبدا­د وتكاملهــا مع الإتحــاد الأوروبي، أو مــع دول أمريــكا اللاتينية بعد ســقوط الديكتاتور­يات العسكرية )سوق مشــتركة(، طبعاً هذا كان أساس تواجد الاتحاد الأوروبي وسبب نجاحه.

نشأة الحضارة

معايير نجاح أي أمة بالمســاهم­ة في الحضارة العالمية هي امتلاكها لعناصر نشــأة الحضارة داخلهــا، والتي درســها المؤرخــون وعلماء الاجتمــاع وليس السياســيي­ن. حســب هؤلاء نحن بحاجــة لإقامة حضارة مســتدامة قوية، إلى ثلاثة عناصر على الأقل، وهي عدد الســكان الكافي ليشــكلوا العامل الإنتاجي ويحيوا الاســتهلا­ك الداخلي، الأرض الواســعة المتناســق­ة حيــث يعيش هؤلاء الناس، وكذلك فترة زمن ســلم طويلة. لحد الآن للأسف فإن الدول العربية رغم إمكانياتها تفتقر إلى هذه العناصر بسبب التجزئة والحروب التي لا تنتهي.

فــي لبنــان كما فــي الــدول العربية، علينــا أن نعلــم أننا نمتلــك كل عناصر الحضــارة والتطــور، ولكن هناك مــن يريد وبــكل الطرق بقاءها خــارج الوعي الجماعي، وتركنا هائمين في عالم الطوائف والدول الصغيرة الضفدعية والتي تظن أنها بحجم الثور.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom