Al-Quds Al-Arabi

أحمد جبريل: رثاء الخيانة ومديح الاستزلام

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ «لا تجوز على الميت سوى الرحمة»؟ لامرئ أن يستقرّ على هذه التوصية، الأخلاقية الصرفة مع ذلك لأنها لا ترقى إلى مســتوى القاعدة بالنظر إلى أن الميت قد يســتحق اللعــن أكثر بكثير من أيّ اســترحام؛ كما هي حــال غالبية من أبناء ســوريا كلمــا ذُكر حافظ الأسد. ليســت هذه حال الغالبية الساحقة من القيادات الفلســطين­ية، ســواء في مختلف مناصب ســلطتَيْ رام الله وغزّة، أو على مســتوى قيادات الفصائل والمنظمات، بصدد رحيل أحمد جبريل الأمين العام لـّ»لجبهة الشعبية لتحرير فلســطين ـ القيــادة العامة». الأمر هنــا، غالباً بالطبــع، لا صلة لــه بالخُلُق والأخلاق بقــدر ما يعكس )بصدد هذا الميت تحديداً!( سلسلة مفارقات تخصّ طبائع العلاقة بين المعزّين وفصائلهم ومنظماتهم ومؤسساتهم، من جهة أولى؛ ونظام «الحركة التصحيحية» كما دشّــنه الأسد الأب وتابعه وريثه الأسد الابن، من جهة ثانية.

الأطرف ليس محمود عباس، لأنه كبيرهم الذي لم يعد يعلّم ســحراً أو مناورة أو تكتيكاً؛ وليس حسين الشيخ، عضو اللجنــة المركزية لحركة «فتح» والــذي لا يُفضّ له فوه في التفلســف لصالح ســلطة رام اللــه )من تجميل التنسيق مع الاحتلال إلى إبرام صفقات اللقاحات منتهية الصلاحية(؛ ولا حســام بدران، عضو المكتب السياســي لحركة «حماس» ورئيس مكتب العلاقات الوطنية، الذي قال إن وفاة «القائد أبو جهاد جاءت بعد مســيرة حافلة بالبــذل والعطاء لوطنه ولشــعبه ولقضيتــه على مدار سنين طويلة»؛ ولا «الجبهة الشــعبية لتحرير فلسطين» التي رأت أن رحيل جبريل «خســارة لشــعبنا ولحركته الوطنية ولعموم المناضلين والمقاومين في منطقتنا ولمحور المقاومة الذي حرص الراحل على تأصيله وتعميمه كخيار نقيض لمحور التبعية والاستســا­م والتطبيع في المنطقة، ومن أجل مراكمة وتوحيد طاقات شــعوب أمتنا وقواها»؛ ولا المكتب السياســي لـ«الجبهة الشــعبية الديمقراطي­ة لتحرير فلســطين» الذي نعى «شــخصية قيادية وطنية فلســطينية، ســخرت كل طاقاتهــا في خدمــة القضية الوطنية» و«قدّم نموذجــاً للقائد الوطني الذي يجمع بين القول والفعــل وبقي في عهده حتــى اللحظات الأخيرة من حياته»؛ ولا ســليم البرديني، الأمين العام لـ«الجبهة العربية الفلســطين­ية» الذي اعتبر أنّ جبريل «رحل عنا بجســده فإنه ســيبقى في قلوبنا وعقولنا وذاكرتنا ذلك المناضل الذي لم تنــل منه كل العذابات والآلام، والفدائي الذي لا يهاب في الحق لومة لائم، المتمسك بالثوابت التي آمن بها شعبنا وقضى من أجلها الأكرمين الأفضلين شهداء أبرار على درب الحرية والاستقلال...»

الأطرف، فــي تقدير هذه الســطور، يمكــن أن تكون تعزية صالح رأفت، الأمين العــام لـ«الاتحاد الديمقراطي الفلســطين­ي» التي أرســلها «باسمه شــخصياً، وباسم المكتــب السياســي واللجنــة المركزية، وباســم جميع الرفيقات والرفاق في أقاليــم الحزب وهيئاته ومنظماته القطاعية فــي الوطن وبلدان المهجر والشــتات؛ إذْ يظنّ القارئ أنّ «فدا» هذه هي أمّ المنظمات والفصائل والأحزاب والجماعــا­ت الفلســطين­ية. ليــس أقلّ طرافة مــا أعلنه مصطفــى البرغوثي، الأمــن العام لـ «المبــادرة الوطنية الفلسطينية» باسمه شخصياً غنيّ عن القول، ولكن أيضاً بالنيابة عن قيادة المبادرة وأعضائها، حول رحيل «القائد الوطني البارز، الذي كرّس حياتــه وكلّ طاقاته للنضال الوطني من أجل حرية فلســطين وشعب فلسطين» ولهذا «ســتبقى ذكرى القائد الوطني أبو جهاد خالدة في نضال وانجازات شعبنا الفلسطيني .»

وأن تغــضّ هذه القيادات الطرف عــن جرائم جبريل وجبهته بحقّ أبناء الشــعب السوري خلال عقود، ولكن بعد الانتفاضة الشعبية في آذار )مارس( 2011 بصفة أشدّ بشاعة وإجراماً؛ أمر يختلف في الجوهر، وفي اعتبارات عديدة، عن التعامي المتعمد إزاء أفاعيل لا تقلّ قبحاً بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني أنفسهم. هل تذكّر أيّ من هؤلاء مخيــم اليرموك في دمشــق ومخيم الرمــل الجنوبي في اللاذقية، وأدوار جبريل وجبهته في الدماء الفلســطين­ية التي أُريقــت هناك؟ هل تذكّروا، في تواريخ أبعد تســبق الانتفاضة الشعبية السورية، مشــاركة جبريل وجبهته في حرب المخيمات الأولــى والثانية في لبنان، تل الزعتر وجسر الباشا وشــاتيلا وبرج البراجنة، والقتال ضمن صفوف «أمل» وميليشــيا­ت نبيه بري ضدّ أبناء الشعب الفلســطين­ي، بالنيابة عن أجندة الأسد الأب في القبض التــامّ على الورقــة اللبنانية والوجود الفلســطين­ي في لبنان، واســتخدام­ها في التفاوض الســرّي مع الولايات المتحــدة ودولة الاحتلال الإســرائي­لي؟ هل تناســوا، إذْ كيف يمكن لهم نســيان، حقيقة اشــتغال الاستخبارا­ت الســورية، عبر ضابط غير متفرغ في فرع فلسطين يُدعى أحمد جبريل، على تأســيس «جبهة تحرير فلسطين» في سنة 1965، وتنصيب الأخير زعيماً لها، كي تكون حصان طروادة في قلب «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي كان جورج حبش يخطط لتأسيسها؟

إلى هذا، وسواه كثير، ثمة تلك الواقعة المشهودة التي جرت في شــهر أيــار )مايو( 1966، ورُويــت في أكثر من مصدر، حين حاولت المخابرات العسكرية السورية اغتيال ياســر عرفات أثناء وجوده في اجتمــاع مع رجل النظام داخل المقاومة الفلســطين­ية، أحمد جبريل دون ســواه، داخل أحد البيوت الســرية في دمشــق. يومذاك فشلت المحاولة ليس لأنّ طالــع عرفات اقتضى نجاته من ميتات عديدة، بل ببســاطة لأنه تعمّد التغيّب عن الاجتماع بعد أن «خان» أحــد المكلفين بترتيبات الاغتيال، وأبلغ عرفات بالتفاصيل. قبل هذه الواقعة، في كانون الأول )ديسمبر( 1964، كانت مفــرزة تابعة للمخابرات العســكرية ذاتها قد اعتقلت عرفــات بتهمة «التحضيــر لأعمال تخريبية» وذلك بعد تفتيش صندوق ســيارته والعثــور فيها على أصابع ديناميت. وقد أطلق ســراحه بعد 18 ســاعة، لكن الحادثة بدت غريبــة، لأن عرفات كان ينقــل الديناميت بعلم وتسهيل القيادة السورية، وسبق له أن حصل على الموافقة بنقل أسلحة مختلفة إلى معسكرات تدريب «فتح» في ســوريا؛ وكان اللواء أحمد سويداني، رئيس الأركان آنذاك، هو الــذي أعلم عرفات شــخصياً، بعد مفاوضات

بين الرجلين بدأت منذ ربيع ذلك العام.

وفــي التفاصيــل، كان أمر الاعتقال قد صدر عن العقيد محمد أوركي، رئيس شــعبة فلســطين التابعة للمخابرات العســكرية؛ غيــر أن الآمر الحقيقي كان الرجل القوي فــي الجيش، صاحب النفوذ الواسع في مختلف أجهزة الاســتخبا­رات، وقائد القوى الجوية، اللواء... حافظ الأســد! كان اللواء ســويداني يمثّــل طموح حزب البعــث الحاكم إلى احتــكار القضية الفلســطين­ية سياســياً وعقائديــاً، ولهذا أقنــع القيادة بالسماح لـ«فتح» بحرّية الحركة والتدريب على الأراضي السورية؛ وكان الأسد يمثّل طموحات شخصية للسيطرة على مقاليد الأمور والتمهيد لاســتلام السلطة، ولهذا فقد ذكّر عرفــات بأنه صاحب القرار الأقــوى، وأنه المرجعية العليا التي يتوجب على «فتح» أن تعود إليها. جبريل كان رجل الاستخبارا­ت العسكرية، وكان بالتالي مأموراً لدى الأسد، وهكذا بقي على مدى العقود التي مكث خلالها في سوريا، وعبر المهامّ العديدة العسكرية والأمنية التي كلّفه بها سيده.

يبقــى أنه، فــي الحصيلة، ليــس نســيج وحده في الاستزلام لـ«الحركة التصحيحية» حتى قبل أن يقوم بها الأسد الأب عبر انقلاب تشــرين الثاني )نوفمبر( 1970، وحتى بعد رحيله وتوريث خليفته في حزيران )يونيو( 2000؛ وغالبية الذين أطنبوا في رثاء جبريل، في صفوف القيادات الفلســطين­ية، كانوا في الآن ذاته يمارسون ما يشبه التذكير بأنهم على شــاكلته في كثير أو قليل، الآن أو في ماض بعيد أو قريب. ارتباطاتهم بالنظام السوري، على مستوى أجهزة الأمن والجيش والسلطة والفساد، لا تعلو على أيّ واجب تجاه أبناء شعبهم الفلسطيني تحت الاحتلال أو في الشــتات، فحســب؛ بل يحدث مراراً أنها تستوجب رثاء الخيانة ومديح الاستزلام.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom