Al-Quds Al-Arabi

في تغير النموذج الانتخابي والسياسي المغربي

-

■ مع اقتراب الاســتحقا­قات التشريعية بالمغرب، يبدأ طرح الســؤال التقليدي: مــن يحصل على الرتبة الأولــى؟ وتبــدأ موجة التكهنــات، ويتم فــي العادة تصنيف الأحزاب المتنافســ­ة القــادرة على تصدر هذه الاســتحقا­قات، لكن ليس هذا هو الســؤال الأهم، فالانتخابا­ت ليست إلا وسيلة من وســائل العملية الديمقراطي­ة، وما يؤطرهــا من قوانين، وما يكتنفهــا من إجراءات وفضــاء، والإرادة التي تحكمها، هو ما يهم، وهو ما يحــدد في النهاية النتيجة، ليس في بعدها الانتخابي، أي من يفوز، ولكن أيضا في بعدها السياسي، أي هل تكون هذه الانتخابات رافعة للديمقراطي­ة ومســاهمة في تحقيق التراكم في هذا المسار، أم تمثل خطوة تراجعية فيه.

في العهد الســابق، لم يكن المسار الديمقراطي مسألة جوهرية في رؤية الحاكمين، بل كان الأهم هو أطروحة التوازن السياســي، أي خلق حــزب الأغلبية، الذي يكون قادرا بوسائل انتخابية على مقاومة المعارضة، ومنعها من تصدر العملية الانتخابية.

ولذلك، كان الجوهر في الإرادة السياسية، هو البحث عن حزب الأغلبية، وإسناده بأحزاب الولاء، ثم بناء شــبكة الأعيان التي تقدم الخزان البشري لهذه الأحزاب، ثم الرهان على العالم القروي )الأرياف( من خلال نظام انتخابي يركز على نمط الاقتراع الفردي، مع جعل المدينة )مكان ممارســة السياسة وصناعتها( هامشا على البوادي، إذا استحضرنا عدد دوائر العالم القروي بالقياس إلى عدد دوائر المدينة.

لم يكن النظام الانتخابي يراعي التوازن الســكاني، فالمدن كانت في الأدنى لا تقل على 45 في المائة من الســاكنة بالمغرب ووصلت بعد ذلــك إلا أكثر من 55 بالمائة، ومع ذلك، فنســبة تمثيليتها من الدوائر العامة في الوطن لا تمثل أكثر من 20 في المائة، أي أن ديناميات السياسة التي تتم في المحاور الحضرية )المدن المغربية حاضنة النخب( لم تكن تصنع الخارطة الانتخابية، ولم تكن تصنع نخب المؤسســة التشريعية، وإنما تصنعها البادية )الريف(.

ومع كل هذه الصرامة في ضبط وتأمين وصناعة الخارطة الانتخابية، كانت ورقة التزوير وحرف إرادة الناخبين جزءا من اللعبة، تستخدمها الإدارة الترابية في الكلي والجزئي، أي في مجموع دوائر الوطن، وأيضا فــي بعض الدوائر المخصوصة، التي يــراد فيها تنزيل نخب وتصعيد أخرى. في عهد الملك محمد الســادس، تغيرت الأمور قليلا، وترافق عاملان مهمان ساهما في إحداث تعديل جوهري في المنهجية، فالمغرب قبيل وفاة الملك الحســن الثاني رحمه الله، كان يعيش سكتة قلبية بتعبيره، لم تنفع معها جهود الإصلاح الاقتصادي، وترســخت القناعة لدى الملــك الراحل أن الجواب ينبغي أن يكون سياســيا، بالرهان على تجربة التناوب، أي تصعيد المعارضة لتقوم بدورها في إنقاذ الوطن. أما العامل الثاني، فيرتبط بتكثيف موارد الشــرعية، فالملك الجديد، يريد أن يغير عناصر الشــرعية، ويراهن على الإجماع بدل التوافق، ولا يريد أن يحمل معه إرث والده في الصراع مع قوى سياسية.

لم يكن الجواب ســوى الرهان على عملية ديمقراطيــ­ة، تنتهي فيها بالمطلق حرف الإرادة الشــعبية، ويتم فيها الرهان على قوانــن انتخابية تعتمد نمط اللائحة، بدل الاقتراع الفردي، أي أن المنهجية توجهت إلــى الرهان على الأحزاب، وليس الأعيان، وإحداث التوازن في السياسة داخل المدن، بدل الرهان على البادية لمحاصرة المدن.

تغيــر المنهجية، لم يكن يعني بالضرورة أن المجال المحفــوظ )العالم القروي( كما رسم معادلته ريمي لوفو في أطروحته التفسيرية الشهيرة قد انتهى، بل أصبح له دور وظيفي لا جوهري، بينما الثقل ألقي على التوازن في السياسة داخل المدن.

صراع نخب السياسة كان في مصلحة هذه المنهجية، فقد تغيرت البيئة السياسية تمامــا، فلم يعد الصراع بــن نخب الولاء ونخب المعارضة، بــل دخل مكون آخر، هو الإسلاميون، وصار بالإمكان الرهان على تقسيم المعارضة، بخلق تقاطب على خلفية إيديولوجية، محافظين في مقابل تقدميين، وذلك بفك الارتباط بين حزب الاســتقلا­ل والاتحاد الاشتراكي، اللذين كانا يمثلان العمود الفقري للمعارضة.

بدأ تجريب هذه المنهجيــة في انتخابات 2002، وبلغت أوجها في انتخابات 2007، وعبرت الديناميات السياســية عن توتر النسق، ووصول المنهجية إلى أزمة، بعد أن أظهرت النتائج أن الإسلاميين قد أخذوا موقعا يتجاوز الموقع الذي كان يفترض شغله في عناصر المنهجية الجديدة. كانت الآلية الاستثنائي­ة التي تم اللجوء إليها، بدل ورقة حرف إرادة الناخبين بالتدخل في صندوق الاقتراع، هو التحكم في التحالفات، سواء في تشكيل المجالس الجماعية والإقليمية والجوية أو حتى في تشكيل الحكومة نفسها.

المنهجية الجديدة أعلنت عن نهايتها مــع نتائج انتخابات 2016، بتحقيق العدالة والتنمية لاختراق مهم للعالم القروي، وفوز شــبه كاسح للمدينة الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. مع الانتخابات الوشيكة 2021، تم إحداث تغيير جديد في المنهجية. نظام انتخابي ينهي المنافســة بشكل كامل في المدينة )القاســم الانتخابي على أساس عدد المســجلين بدل عدد المصوتين( بتسوية الأحزاب المتنافســ­ة في المقاعد، أي إنهاء دور المدينة في صناعة الخارطة الانتخابية، وعودة المجال المحفوظ، من خلال توسيع نظام الاقتراع الفردي في الدوائر الأقل من 50 ألف نســمة، والرهــان على الأعيان، وجعل مركز الثقل في العملية الانتخابية في المناطق التي يحســمها الترحال السياسي، أي لا تنضبط لولاءات سياسية محددة. في المحصلة، تدور حلبة الانتخابات القادمة في العالم القروي، وفي الأقاليم الجنوبية وفي بعــض المناطق التي تعرف زراعة القنب الهندي )منطقة الريف في الشمال الشرقي للمملكة(.

في هذه المناطق، لا تتمتع الأحزاب المدينية )الإســاميي­ن والقوى التقدمية( بنفوذ انتخابي، أما في المدن، فلن تكون النتيجة حاســمة، فســيحصل الأحزاب على نتائج متســاوية أو متقاربــة. المنهجية الجديدة وقــع تعديل مهم، إبعــاد المدينة عن مركز ثقــل صناعة الخارطة الانتخابيـ­ـة، وعودة المجال المحفوظ، والرهــان على الأعيان، والاســتمر­ار في اعتماد ورقة الاحتياط، أي التحكم في التحالفات، ســواء في بعدها الإقليمي أو الجهوي أو في بعدها الوطني )الحكومة(. ضمن هذا النسق من التفسير، ينبغي طرح ســؤال من يحصل على الرتبة الأولى، وضمنه فقط، يمكن طرح السؤال الجوهري، المرتبط بعلاقــة كل ذلك بتطوير التجربة الديمقراطي­ة في المغرب. تقديري أن تعديل المنهجية بهذا الشــكل الجذري، قد يعني أن خط الاستمراري­ة قد انتهى، وأن الإرادة اتجهت لصناعة خيار آخر، ينهي لحظة الإسلاميين.

ومع ذلك، فالتقدير عنــدي، أن كل ذلك لا يعني بالقطع نهاية لحظة الإســاميي­ن، بل ورقة الإسلاميين لا تزال مطروحة، فســير العملية الانتخابية بكل تفاصيلها حتى نهايتها، هو الذي ســيحكم الأمر كله، لكن في الجوهر، وحتى لو حقق الإســاميو­ن تصدرهم الانتخابي، فإن المنهجية الجديدة المعدلة، ســتخلق إطارا سياسيا جديدا، يجعلهــم في وضع أضعف تحالفيا، ويجعل تشــكيلهم لأي حكومة محكوما بشــرط سياسي أسوأ بكثير من الشرط الذي تشكلت فيه حكومة العثماني.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom