Al-Quds Al-Arabi

ذاكرة الحج: حين تخلو مكة من رجالها في مهرجان «القيس»

- يقصد الناس للطواف احتسابا وذنوبي مجموعة في الطواف يا قيس يا قيـس يا دقن التيــــس الناس حجـــــوا وأنت قاعد ليش الناس حجــــــــ­ــــوا وأنت هنا ليش ليش قوم روح بيتـــــــ­ك قوم اخبز العــــــي­ش أبو الصمادة والعقـــــ­ال من يوم شفته عقلي طار وإن جـــــاء يهر

■ كان مما اعترف به الشــاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة تعرضه للنســاء أثناء تأديتهن لركن الحــج، خاصة في الطواف وتشبيبه وتغزلهن بهن:

وقد حفلت دواوين الشــعر القديم بكم كبير مــن أمثلة هذا الشــعر، الذي احتفى بالمرأة وهي حاجّــة رامية طائفة، وبجرأة الشعراء العشــاق عليها، وعدم مراعاتهم لحرمة المكان وعظمة الركن. والحق أن مكة والحجاز عمومــا عرف في القديم بالغناء، وكان من أشــهر المغنين المكيين ابن مسجح والغريض وابن سريج وابن محرز وكثير من الحبور والشعر والمرح عاشه الحجاز، خاصة أثناء حكم بني أمية، وفي ظل حكم يزيد بن معاوية كما ذكر ذلك المســعودي. حتى إن الشاعر الأموي جرير قال مرة وقد سمع صوتا من ابن ســريج: )لله دركم يا أهل مكة ماذا أعطيتم والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم، فيسمع هذا صباح مســاء، لكان أعظم الناس حظا ونصيبا(. وبدورهــا حلمت المرأة المكيــة بمدينة بلا رجال، وحقق لها ركــن الحج ذلك، وهكذا أبدعت بمفردهــا مهرجــان القيس الذي اختفى في الستينيات فقط.

حلــم المرأة بمدينة بلا رجــل حلم قديم يقول الطرطوشــي عن هذا الحلم: )مدينة كبيرة واســعة الرقعة في جزيرة في بحر المغرب، أهلها نساء لا حكم للرجال عليهن يركبن الخيول ويباشرن الحرب بأنفسهن، ولهن بأس شديد عند اللقاء، ولهن ممالك يختلف كل مملــوك بالليل إلى ســيدته، ويكون معها طول ليلته، ويقوم بالســحر ويخرج مســتترا عند انبلاج الفجر، فإذا وضعت إحداهن ذكرا قتلته في الحال، وإن وضعت أنثى تركتها، وقال: مدينة النساء لا يقين لا شك فيها(.

هذا الإصرار من الطرطوشي على توقيع الخيال، يعكس في الواقع رغبة المرأة على التوفر على فضاء لا يوجد فيه رجل، تخلو فيه إلى صويحباتها وإلى نســاء الحارة، وتمارس حياتها بلا تقتير ولا تضييق ولا إحــراج، ولا مراقبة، حتــى إن القزويني تحدث عن جزيرة للنســاء في بحر الصين )فيها نســاء لا رجل معهن أصــا، وإنهن يلقحن مــن الريح ويلدن النســاء مثلهن وقيل إنهن يلقحن من ثمر شــجرة عندهن يأكلن منها فيلقحن ويلدن النساء(.

وفي هذه الحكاية مــن القزويني يقف القارئ علــى رغبة قوية عنــد الأنثى في وأد الذكر رمزيا، مثلمــا وأدها حقيقة هو، ورغبة كذلك في نفيه وإبعاده من ساحتها، وهي لا تحتاجه لتلقيحها فتلقحها الرياح أو ثمر الشجر، تلد الأنثى مثلها وإن ولدت الذكر قتلته.

يأتي مهرجــان القيس الذي عرفته مكة المكرمة في شــهر الحج، حيــث تبقى مكة المدينــة الوحيــدة في العالــم التي تخلو

من الرجال أيام الحج يقــول الغذامي عن مهرجــان القيــس: )وتأتــي الحكاية عن مهرجان نسائي خالص النسوية، تمارسه وتمثله وتبدعه النساء في مكة المكرمة أيام الحج، لأن مكة تخلو من الرجال خلوا تاما في الأيام الأربعة، التي يخرج فيها الجميع إلى المشاعر المقدســة في عرفات ومزدلقة ومنــى، بدءاً من يــوم التروية وهو اليوم الثامن من شــهر ذي الحجة، إلى آخر أيام التشــريق، وهو اليوم الثالث عشــر من الشهر نفســه ومن عادة المكيين أن يرحلوا إلى المشــاعر هناك لخدمة الحجيج وتفقد مصالحهــم التي يعتمــد عليهــا اقتصاد ومعاش الأســرة المكية، وهــذا يجعل مكة خالية من الرجــال لمدة بضع ليال وبضعة أيام ويبقى النســاء وحدهن في المدينة(. ويقــول أبــو بكر أحمــد باقــادر صاحب أطروحــة جامعية في الموضــوع )القيس مهرجان نسائي غنائي تنكري في مكة(.

هكذا يأتي مهرجان يضرب عدة عصافير بحجر واحد، فهو من جهة لخدمة الحجيج، وما في ذلك من الأجر والمثوبة، وقد قدموا شــعثا غبرا من كل فج عميق، فيهم العاجز والضعيــف والمقتر والموســر والشــيخ والعجــوز، ولا ريب في أنهــم يحتاجون إلى مــن يرعى أمورهم، ومــن جهة أخرى يخدم اقتصاد الأسرة المكية، فهو عمل مجز يساهم في تحســن اقتصاديات الأسر في مكــة. ومن جهة أخرى يعد هــذا المهرجان اســتمراري­ة لذلك الإبداع والمــرح والفن الذي عرف به الحجاز فــي الجاهلية وفي الإسلام، خاصة في العصر الأموي، حيث نبغــت مجموعة مــن المغنــن والمغنيات، وحفلت كتــب الشــعر والأدب بأخبارهم وأشــعارهم ولياليهم. ومــن جهة أخرى يحقق المهرجان للمــرأة رغبتها في إبعاد الذكر ولــو لمــدة، والتحرر مــن مراقبته ومضايقتــه وإحراجه، في ليــال أنثوية خالصة، تخلو للشــعر والغناء والرقص من حــارة إلى حارة من بعد العشــاء إلى انبــاج الإصباح. تتجاوز المــرأة في مكة الأمر من تخيلات الطرطوشي والقزويني، إلى توقيع الخيــال ورده حقيقة ببصمتها الشــخصية، حيــث تخرج النســاء بعد العشاء، يطفن في شــوارع مكة من حارة إلــى حــارة، ترتفــع أصواتهن مخشــنة - تقليــدا للصــوت الذكــوري - بالغناء والرقــص والتصفيق والمــرح، وقد حلي الوجه بالشــوارب واللحى، تلبس لباس الرجــل وتمثل مختلف أدواره، كشــريف مكــة ورئيس الشــرطة وشــيخ الحارة، ونســاء بلباس العســاكر وأزياء العلماء ورجال المدينة وشــيوخ القبائل، ومعهن أطفال بلباس القرود، وتحمل النســوة ما يعرف بمجســم الغزالة بطول متر ونصف المتر، وبعــرض ثمانين ســنتيمترا، وفي داخله امرأة، وتســتلهم الحكاية من قصة قيس بــن الملــوح وليلى العامريــة، لكن التهكم والســخرية من المجتمــع الرجالي ومن رقابته ومضايقتــه التاريخية جلية في الأهزوجة التي يرددنها:

هكذا يرغــب الرجل في الحج، ومغادرة مكة ربحا لثواب أداء الركن، وربحا للمال، وربحا لأجر خدمة الحجيج وترك النساء على حريتهن بلا رجل وحتى لا يقع فريسة للتهكم والضرب، أو الاختباء في البيت:

وتقال هذه الأهزوجة للعســاس، الذي يفترض إنه بقي وحده، فيُتهكم منه بتولي شغل المرأة لأن لا رجل في المدينة، فحضور المرأة يقتضي غياب الرجل والعكس هكذا من خلال هذه الأهزوجة لا يســتطيع رجل أن يخرج إلى الشــارع فيغدو مصدر تهكم

يبلغ حد الضرب:

التهكم من شــريف مكة ظاهــر في هذا البيت عبر التشــهير بعلامتــه )الصمادة والعقــال( وطيــران العقــل إمعانــا في السخرية.

وماذا تقول النسوة لشيخ الحارة وقد تنكرت واحدة في زيه:

إنــه الامتنــاع عن الــكلام مــع الذكر والامتناع عن كل مشاحنة، وتعال على كل نقاش ومذاكرة مع جنس الرجال، فهو زمن للأنثى وفضاء لها فقط تمارس فيه حريتها وتفصح عــن رغبتهــا ومكبوتها وتحتفي بحلمها القديم القديم.

يقــول وليــد شــلبي: )حــال البيوت والشوارع قبل خمسين عاما مضت، إذ كان الصمت يســكن أرجــاء كل مدينة من مدن الحجاز، وما أن يرخي الليل أستاره حتى تستعد الحجازيات للقيام بمهمة الحراسة، وتأمــن الحي، وكــنّ يخرجن فــي أزياء رجالية مختلفة، ويتفــن في إظهار أجمل الأصوات وأحسن الإيقاعات، ودق الطبول في إيقاع معين، بعد أن يقسمن أنفسهن إلى مجموعتين. وأضاف أن تســمية المهرجان بهذا الاسم يعود إلى اختيار إحدى النساء اسم رجل قيس الشخص السليم المتعافي عن خدمة الحجيج(.

لقد تحــول الذكر إلى مصــدر تهكم فهو قابــع فــي مجســم الغزالة، يحمــل على الأكتاف حيث تمثل امــرأة دوره، وهو إن لــم يحج أو يذهــب إلى المشــاعر مختبئ فــي داره، لا يجرؤ على الخــروج حتى لا يتعــرض للتهكم والضــرب، وتزف ليلى

إلى قيس وهو بلباســه الذكوري )الثوب والغترة( وهكذا تمارس المرأة عبر اقتحام أمكنة ذكورية - محرمــة عليها في وجود الرجــل - والصــوت والأهزوجــ­ة ما لم تمارسه بالقلم والكتابة، وتفضي وتفصح وتعلن عن رغبات مكبوتة وأحلام مجهضة في التوفر على نــص أنثوي لا تحاكي فيه الرجــل، ولا تقــاس به، يقــول الغذامي: )الغائــب هو النص المكتــوب النص الذي حاولت المرأة أن تكتبه فلم تستطع كتابته، ولذا ســعت إلى أن تفصح عنه بواســطة الحكاية، ومارست الحكي على مدى قرون، ثم جاءت المحاولة فــي مثل هذا المهرجان، لكي تجسد المرأة حكايتها من خلال تحريك جسدها وصوتها ليكون الجسد والصوت أداة لغويــة تمثل القلم والورق، فتســطر قصتها وتدون حكايتهــا وهذا مدلول هذا المهرجان(.

حــن ينتهي الحج ويعــود الرجال إلى مكــة، تكون النســاء المكيات قــد احتفلن في ليلتهــن الأخيرة ورقصــن وتطارحن الأشعار والنكات، ورقصن رقصات الفرح ومارسن الشقاوة وهتفن لآخر مرة:

هكذا تضرب المــرأة المكيــة للمهرجان موعدا في العام المقبل، وفي موســم الحج التالي، لكــن ظروف الحيــاة تغيرت فقد اختفى المهرجان في الستينيات، لاستحالة خلو مكة مــن الرجال فــي الوقت الحالي بســبب توفر المواصــات وإمكانية عودة الرجال في المساء.

يعكــس هــذا المهرجــان جانبــا فنيا مــن جوانــب مكــة المكرمة، وهــذه المرة عبر نســائها، وهو اســتمرار لذلك الجو التاريخي الــذي احتفت بــه كتب الأدب والشــعر منذ العصر الأموي خاصة، كما يعكس رغبة دفينة عند المرأة في ممارسة نديتهــا وجدارتها، واحتفائهــ­ا بأنوثتها ولو عبــر الحكــي والتمثيــل والصوت والحركــة والرمز، خاصة فــي التنكر في أزياء رجالية، مع الاحتفاظ بطابع التهكم والسخرية، ولو أن المرأة دخلت إلى عالم الكتابــة ومارســت الإفضــاء بالقلم تلك الأداة الذكوريــة التــي ظلــت حكرا على الرجل آمادا عديدة، وولد النص النسوي - شعرا ورواية ومقالا- لكنه يظل يحتاج إلى مزيــد من الصقل والتميــز والخبرة، فما زالت اللغة ذكوريــة، وما زال التراث ذكوريا كله.

 ??  ?? الحرم المكي
الحرم المكي
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom