Al-Quds Al-Arabi

ثمة شهية للحياة رغم الرغبة في الموت

«مضى كل شيء على ما يرام» لفرانسوا أوزون:

- كان ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

في مشهد في بداية فيلم «مضى كل شيء على ما يرام» للمخرج الفرنســي فرانســوا أوزون، المتنافس على الســعفة الذهبية في مهرجان كان الســينمائ­ي لدورتــه الرابعــة والســبعين )مــن 6 إلــى 17 يوليو/ تمــوز الجــاري( يطلــب أندريــه، البالغ مــن العمر85 عامــا، الــذي أصابتــه جلطــة دماغيــة، أثــرت بقدر كبيــر في قدرتــه على الحركــة، من ابنتــه إيمانويل، التــي جاءت لتعوده في المستشــفى أن يأكل شــيئا، فلا طعــم لطعام المشــفى، فتقدم له ابنته شــطيرتها للإفطــار، فيتناول جــزءا منها ويعيــد باقيها. وربما يلخــص لنا هذا المشــهد نظــرة الفيلــم لقضية الموت الرحيــم والمســاعد­ة على المــوت، التي يــدور حولها الفيلم. ذلك الأب الطاعن في السن لم يرد الموت زهدا بالحيــاة، أو رفضا لها، بل لأنــه كان في الماضي قد اســتمتع بالحياة بكل مذاقها ومتعهــا، والآن لم يعد يحصل من متعها إلا على طعام المشفى، الذي لا طعم ولا مــذاق له. لا يطلب أندريــه الموت لأنه لم يعد راغبا في الحياة، بل لأن جســده المتهالك لم يعد يمكنه من الحصول على المزيد من ملذاتها.

الفيلــم مقتبــس مــن مذكــرات الكاتبة الفرنســية إيمانويــل بيرنهايم عن وفاة والدهــا، إنه فيلم صيغ نصــه بأناقــة وبترفــع عــن الإغــراق فــي العاطفية والبكائية، وهو فيلم يتناول فيه أوزون قضية الموت الرحيــم، ليــس بوصفها قضية إشــكالية أو معضلة أخلاقيــة، بــل كخيــار للبعض للمــوت بكرامــة بعد الوهن الشديد للجســد، وعدم قدرته على الاستمتاع بالحيــاة. هو فيلم يناقش أيضا كيفيــة تعامل الابنة إيمانويل )صوفي مارســو( في أداء متقن، مع رغبة والدها )المخضرم أندريه دوســولييه( في أداء مميز للغاية في أن تكون هي المسؤولة عن تنفيذ رغبته في الموت.

ثمــة قدر كبير من الهدوء والســكينة والحكمة في تعامــل الفيلم مع رغبــة الأب في إنهــاء حياته، وفي تفهــم ابنتيه لتلــك الرغبة وفي تقبــل ابنته إيمانويل لتلك المهمة التي وضعها والدها على عاتقها. مرارا ما تقول إيمانويل إنها لا تستطيع أن ترفض لأبيها طلبا لأنها تحبه، تحبه رغم معرفتنا عبر الفيلم أن علاقتها بــه في طفولتها وصباها لم تكن علاقة ســهلة. تقبل إيمانويل المهمة بتقبل الابنــة المحبة، التي تريد تنفيذ الرغبة الأخيرة لأبيهــا. لا نرى انفجارات عاطفية ولا عويلا ولا نواحا، لكن تلك الدموع القليلة العزيزة من ابنة أصبح جســد والدها هزيلا مريضــا، وآن له أن يطلب الراحة.

«مضى كل شــيء على ما يرام» ليس مهتما بشكل خاص بإذكاء الجدل والنقاش حول قضية المساعدة على المــوت، أو الموت الرحيم ولا يناقشــها بوصفها قضيــة جدليــة خلافيــة شــائكة. لا يناقــش الفيلــم الجانب الأخلاقي في المساعدة على الانتحار، وحتى فــي الوقت الذي يعرب فيه أصدقــاء أندريه وعائلته عن تحفظات شــخصية على رغبته في طلب مساعدة ابنتــه ليمــوت، فهو يعرضهــا في معــرض الأحداث دون التركيز عليها. يبقينا الفيلم في اللحظة الراهنة، ولا يعطينــا الكثير مــن التفاصيل عــن خلفية أندريه وابنتيــه وزوجتــه الســابقة. لكــن بــن حــن وآخر تتكشــف لنا لمحة عن حيــاة هذا الأب، وعــن علاقته بابنتيه. إنها أســرة لها أســرارها، نعلم في لمحات أن أندريــه رجل ثــري، ومقتن للتحف الفنيــة، ونعلم أن زوجته الســابقة فنانة تشــكيلية، أقعدها المرض عن ممارســة فنها، ونعلم نبــذة عن أحد أســرار أندريه، وهي ميوله الجنسية التي دعته لترك زوجته.

يبدي الفيلم الكثير من الرصانة والبعد في نقاشه لقضية المــوت الرحيم، وفي نقاشــه للمــوت برمته. ويتبــدى ذلك من اختياره لهذا العنــوان الذي يوحي بإنجــاز مهمــة ما، أو بمرور أمر ما بســام. ويشــير العنوان إلى اتصال هاتفي بين المشفى في سويسرا، حيث ســيتناول أندريه الجرعة التي ستنهي حياته، وابنتــه في فرنســا. وفــي نهاية المطــاف مضى كل شيء على ما يرام وفق رغبة أندريه.

وعلــى الرغم مــن أن الفيلم في ظاهــره عن الرغبة فــي الموت، وإنهاء الحياة، إلا أنــه في واقع الأمر عن الحياة والرغبة في الاستزادة منها، وعن الاستمتاع بمذاقها. بعد تحديد موعد مع المشــفى في سويســرا لإنهــاء حياته، يرجئ أندريه ذلك التاريخ للاســتماع إلــى عزف حفيــده في حفل موســيقى، هــو يود أن يتمتع بصحبة الحفيد وأن يســتمتع بالموســيق­ى. ثم يحدد يوما لدعوة أســرته إلى مطعمه المفضل، حيث يســتمتع بمذاق أطباقــه المفضلة، ويحتســي النبيذ المعتــق، وحيث يمكنه أن يــرى ذلك النادل الوســيم الذي يعجب به للمرة الأخيرة. يتناول أندريه الطعام والشــراب بشــهية المقبــل علــى الحيــاة الراغب في الاســتزاد­ة من ملذاتها ومباهجها، فهو ذواقة لخير مــا في الحياة مــن فن وطعام وشــراب. هو لا يرغب فــي إنهاء حياتــه زهدا فيها، لكن لأن جســده لم يعد يمكنه بالاســتمت­اع بهــا كما يحلو له. ويشــير الفيلم إلى أن الموت بكرامة إنســانية أمر يتطلب ثراء ومالا. الجميع يموتون في نهاية الأمر، لكن من لديه المال هو من يســتطيع أن يُعالج في مستشفى جيد فيه رعاية طبيــة ذات كفــاءة، أو هو الــذي يســتطيع أن يختار إنهاء حياته في مستشــفى في سويسرا، التي تبيح قوانينها المســاعدة على المــوت. يندهش أندريه حين يعلم أن إتمام عملية إنهاء حياته في سويسرا تكلفته عشــرة آلاف يورو، ويتســاءل: «كيف يمكن للفقراء تدبــر ذلــك؟» فتجيبــه ابنته «انهــم ينتظــرون حتى يأتيهــم الموت». مرض أندريه ليس بالمرض العضال، ولا يســبب لــه آلاما مبرحــة، ويحظــى برعاية طبية فائقة وبحب ابنتيه، لكنــه رغم كل ذلك يفضل إنهاء حياتــه. هو شــخص اعتــاد على الحيــاة ومباهجها ومتعها، ولا في اســتطاعته نفســيا التعامل مع عدم القدرة على النيل من ملذات الحياة.

 ??  ?? طاقم الفيلم في المهرجان
طاقم الفيلم في المهرجان
 ??  ?? مشهد من الفيلم
مشهد من الفيلم
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom