Al-Quds Al-Arabi

المحو... نصّ متورّط في اللايقين

-

■ الكتابــة أخــت الذاكــرة، هــي قبض على اللحظة قبل جريانها من أجل ترسيخها. أمّا المحو فهو كتابــة من نوع آخر، وربمّا كتابة فــوق الكتابة، فلا الكاتب يتعرّف إلى ما كتب، ولا القارئ وقد ضاع في فجوة التأويل. المحو نصّ متورّط في اللايقين، في الطــرق غير المرئيّــة للمعنى، لكنّه نصّيشبه الملح، ويعرف كيف يــذوب فــي البحر بلا ضجيــج. هو ســعي دائم إلى الصدفةالتي تؤجّل حضورها. الكتابة سكن في المؤقّــت، والمحــو إقامة في اللامكان، فــي العبــور الدائــم... فــي الكتابــة، المعاني أســيرة ألفاظها، وفي المحو تصير حرّة وشــريدة، والســقف يُطوى في الجيب.. الدمعــة نــصّ

شــفيف كحكايــة تؤجل كتابــة نهايتهــا، حكاية تســتعطف الوقت مزيداً من الســطور. نص كتب في أعماق الروح يرفض اختصار نفســه في نقطة مصيرها السقوط حين تشاء الريح.

أمّا القبلة فهــي نصّ مكتمل بذاتــه، يخبّر عن اتحــاد روحين تحلّقان لا يأبــه بالنحو ولا يراعي علامات الوقف، قد يمتدّ إلى فقرة واثنتين وثلاث

وعشــر، وقد يتكرّر مرّة واثنتين وثلاثا وعشرا. هو نصّ يستيقظ بعد غفوة قد تطول أو تقصر...

العينان نصّ ثرثار بلا صــوت، بلا كلمات، بلا صور...

المحو هــو محاولة جمع الأخطــاء ولملمتها قبل حدوثها، أو استباق للصورة قبل التقاطها.

القهوة نــصّ طويل نتمتّع بحريّــة تأويله على خلفيــة الذكريات الســائلة فيه، مــن دون العبث بالتفل النائم كي لا يغدو التأويل مرًّا.

بعد المحو الكثير، هل يعود النصّ كما كان؟ محو الرقابة الذاتية ومحو المنظومــة التي تترك عينها وتغادر.

لماذا نكتب ونحن نعلم أنّنا سنمحو؟

كلّ عمر حكايــة، تمحوها حكاية، يمحوها الموت بلحظة آتية.

جــاء في إحدى الرســائل التي كتبهــا هايدغر إلى حنّة آرنــدت: «إن الهديّة تختبــئ، تعلن عن نفســها في مفصل الكينونة.. رنة من النهاية، وفي الرســائل التي نحاول التقاطها من الحياة الهدايا التي تختبئ في الصدفة، في كل ما يعلن عن نفسه فجأة بلا اســتعدادت، بلا انتظارات، بلا مواعيد، رنّة من النهاية أيضا.

في الكتابة وضــوح يجرح الكبرياء عند انعدام أيّ تأويل آخــر، وفي المحو انســحاب البوح قبل انقضــاض الندم.. العبــرة في التلقّــي، والتلقي خاضع لانفعالات تغيّر من غايــة النص، ويصبح النص نصوصا..

المــوج كلام الأعماق على الســطح، كلام يمحو كلاما يمحو كلاما.

ارتبــاك الأعمــاق صــراع لا ينتهــي، وصفوة الســطوح حجاب يمنع عنــك الرؤية الشــفيفة. الحدس يلتقط الإشــارة من المحو، من الســكوت عنه. في الحدس مفاتيح اللغة وتراكيبها!

لكلّ أمــر ميقات، الحدس يــدرك ذلك، فيجعلك تدفع إلى الوراء ما لم يكتمل نضجه كي لا يفســده الضوء والهــواء، هو أيضا يعلّمــك أنّ الأولويات متغيّرات

دائمة، واقتناص اللحظة في الكتابة أو المحو هي التي تولّد المعاني.

الصمت والمحو غياب مؤقت، أو ربّما انســحاب مؤقّــت، أو ربّما هما قولةٌ فــي الهزيمة، تفصح عن ذاتها باســتحضار العدم، أو ربّما يكونان وجعا، يحفر من جهة الداخل، محجوبا من الخارج! المعاني في المحو أرواح تنــزوي بعيدا، ومن ثمّ تحاول تجديد وجهها، تغيير ملابسها، تسريحتها، وحين تضيق عليها اللغة، تعــود لتنزوي مجددا، لتبحث عن صوغ جديد يشبه روحها.

الكتابة على الرمل صراخ المحو الذي لم تسعفه اللغة، فيغوص بعيدا علّه يرسّخ كينونته في غيمة ما...

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom