Al-Quds Al-Arabi

الإمارات تخنق إيطاليا والقادم أسوأ!

- ٭ كاتب صحافي جزائري

■ في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية يوم 30 من الشهر الماضي، أقرَّ الأمين العام للأمم المتحدة أن المنظمة الدولية تفتقر لأدوات تنفيذ سياساتها. وحــذّر أنتونيو غوتيرش مــن أن الخلل في العلاقات الدولية أســفر عن ظهور «قوى متوســطة» وفق تعبيره، لكنها مؤثرة وتتصرف مــن دون خوف من أيّة مساءلة. وأوضح أن تأثير هذه «القوى المتوسطة » يتجلى أكثر في أزمات إقليمية أصبحت دولية بفعل هذه القوى، مثل سوريا واليمن وليبيا.

تجســيد هذا الكلام بوضــوح أكبر يقود بســرعة إلــى تركيــا والإمارات كنموذجين. الرئيس التركي رجب طيــب أردوغان فهمَ مبكرا الذهنية الأوروبية فتعامل معها بما يليق بها، فأتعب القادة الأوروبيين ونال منهم الكثير مما شــاء. لن ينسى العالم بســهولة صورة اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين ذات يوم في بروكســل في صف، وفي الصف المقابل من الطاولة نظيرهم التركي، لمناقشة قضايا اللاجئين. الإمارات استلهمت الدور التركي في وقت لاحق، وها هي اليوم «تلاعب» الإيطاليين، ومن ورائهــم الأوروبيون، بما يليق بهم. هناك اليوم أزمة دبلوماســي­ة بين الإمارات وإيطاليا تقترب من القطيعة، لكنها غائبة عن عناوين وســائل الإعلام العالمية )عدا الإيطالية(. ومن وراء إيطاليا، لا يوجد شك في أن الإمارات تبعث برسائلها إلى بقية القادة الغربيين.

بدأ التوتــر عندما قررت إيطاليا في منتصف شــهر كانــون الثاني )يناير( الماضي تجميد صفقة عســكرية تم توقيعها في عهد حكومة يسار الوسط بقيادة ماتيو رانزي ســنة 2016. كانــت الصفقة تتضمن تزويد الإمارات والســعودي­ة بعشرين ألف صاروخ حربي تناهز قيمتها 500 مليون دولار. تحججت الحكومة الإيطاليــ­ة بالحرب في اليمن والتجاوزات بحق المدنيين التي تُنسَــب للتحالف السعودي الإماراتي.

بعد أقل من ســتة أشهر، وبعد مفاوضات ســرية باءت بالفشل على ما يبدو، قررت الإمارات التصعيد. بدأ الأمر بمضايقات علنية منها منع طائرة عســكرية إيطالية من التحليق في أجواء الإمارات. كانت الطائرة متجهة إلى أفغانســتا­ن وعلى متنها عشرات الرسميين والصحافيين للاحتفال بسحب القوات الإيطالية من هذا البلد. تسبب ذلك المنع في اضطراب مســار الرحلة وتوقيتها وترتيبات الحفل المرتقب. لم تكتف أبوظبي بذلك، بل أمهلت في الأســبوع الأخير من الشهر الماضي، رومــا بتفكيك عتادها العســكري وقواتها من قاعــدة المنهاد الجوية، في إمارة دبي، التي يســتعملها الجيــش الإيطالي في عملياتــه وتحركاته في أفغانســتا­ن والمناطق المجاورة. ثم وسّعت الإمارات ضغطها، بإشراف شخصي من ولي عهد أبوظبي، ليشــمل كل التعاون العســكري مــع إيطاليا، بما في ذلك وقف تحليق القوة الجوية المحلية ، «فرســان الإمارات » بطائرات ليوناردو لأنها إيطالية الصنع.

أثمر الضغط الإماراتي ورفعت روما بســرعة الرايــة البيضاء. في منتصف الأسبوع الماضي تســربت معلومات إلى رويترز عن توجه إيطاليا نحو تخفيف إجراءات تصدير الســاح للســعودية والإمارات، لكنها أبقت على حظر صفقة الصواريخ التي تسببت في الأزمة، حفاظا على ماء الوجه.

هنــاك الكثير مــن الصحة في الــكلام عن القــوة الصاعدة التي يخشــاها غوتيرش. لكنــه نصف الحقيقة. النصــف الآخر هو أن هــذه القوى الصاعدة لم تكــن لتتغوَّل هكذا لولا قوى أخرى مقابلة يمكن أن نســميها القوة النازلة أو المتراجعة. والمقصود هنا الدول الغربية بما في ذلك أمريكا.

الغــرب، حكومــات ومجتمعات، مأزوم بشــدة على أكثر من صعيد. أســوأ أزماته اقتصادية تخشــاها الحكومات مثلما تخشى الكوابيس. خشية سياسية وانتخابية وخوف من المســؤولي­ة، تدفع الحكومات إلى عمل المستحيل للإبقاء علــى الدورة الاقتصادية تــدور ولو بحدها الأدنى. هذه المهمــة تبدو أقرب إلى مستحيلة في وجود الصين وقوى اقتصادية أخرى تضايق بدورها الاقتصادات الأوروبيــ­ة والغربية. هذه الصعوبات، ببســاطة، تُجبر هــذه الحكومات على تقديم تنازلات على حســاب القيَم السياســية والأخلاقية والأعــراف الدولية. هنا تدخل صفقات الســاح حتى مع أكثر أنظمة الحكم اســتبدادا. ويزيد الطين بلّة أن الحكومات الغربية تدرك مدى تعطّش الأنظمة المســتبدة للسلاح، وأنها لن تســتعمله إلا بعضها ضد بعض أو في وجه شــعوبها. يقابل هذا أيضا إدراك الحكومات المســتبدة مواطن ضعــف الحكومات الغربية وحاجــة اقتصاداتها الماسة لأسواق العالم الثالث.

أغلب عقود السلاح الذي تشتريه الحكومات العربية، خصوصا الغنية منها، هدفها شراء ذمم الحكومات الغربية وصمتها.

اليوم، بصفقة ســاح تحافظ على مئتي منصب شــغل لســنتين إضافيتين، تتنازل أكثر الحكومات الأوروبية ديمقراطية لأكثر الأنظمة العربية اســتبدادا، وتغض الطرف عن أشنع ممارســاته­ا. وبصفقة اقتصادية حقيرة تُبقي مصنعا لإطارات الســيارات أو أيّ منتــوج آخر على قيــد الحياة، تغــض أيّ حكومة أوروبية الطرف عن أســوأ الانتهاكات السياســية والحقوقيــ­ة في أيّ بقعة من الكرة الأرضية، فقــط لتحافظ على الوظائف في ذلــك المصنع وتضمن تصدير منتوجها. أمــا إذا كانت قيمة الصفقــات المقترَحة بالمليــار­ات وتمتد على المدى البعيد، فحدّث ولا حرج. في ذروة قضية الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي اغتيل في القاهرة في جريمة نُســبت للأمن المصري أثنــاء التحقيق معه، كانت روما تتفاوض تحت الطاولة على صفقات ســاح مع القاهرة تضمنت فرقاطات وطرادات وذخيــرة وغير ذلك. وعندما أدركت حكومــات أوروبية، بينها ألمانيا وفرنســا، أن العلاقات المصريــة الإيطالية تتجه نحو التأزم بســبب ريجيني، ســارعت كلٌّ على حدة، إلى التنافس على تقديم خدماتها وعرض صفقات تسلح مع مصر في ظروف أفضل وتحت شروط أسهل.

معضلة الأوروبيين الآن أن المنتجين كثيرون والزبائن الأثرياء الذين يدفعون بســخاء ونقدا قليلون. لهذا تتنافس دول كثيرة على سوق محدودة، فلا غرابة أن تعمل فرنســا على إفشــال صفقات إيطالية، أو أن تعمل إسبانيا على انتزاع صفقات ألمانية، أو أن تسعى ألمانيا إلى عرقلة صفقات سويدية وهكذا.

قصة إيطاليا والإمارات أكثر من مجرد أزمة دبلوماسية. هي درس له ما بعده، ويجب أن يُدرَّس حول مستقبل العلاقات الدولية وانقلابها رأسا على عقب. في انتظار الأســوأ: قوى وجيوش غير نظامية بدأت تصبــح أقوى من الحكومات والجيوش التقليدية. لكن تلك قصة أخرى.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom