صناعة الاستقطاب عربيا
■ لتصاعــد حــدة الاســتقطاب الاجتماعــي والصراعات السياسية في بلاد العرب أسباب عديدة.
فمن جهة أولى، يســاهم التنــوع العرقي والديني للسكان في نشوء الاســتقطاب الاجتماعي وتراكمه. وفيما يبدو الاستقطاب ظاهرة عالمية، يمكن القول إنه ليس في العالم منذ العام 2011 منطقة مجزأة ومبعثرة كالعالــم العربي. ومع أن التفاصيــل المحددة تختلف من بلد إلى آخــر، فإن الفضــاءات المتاحة للأصوات الرافضة للاســتقطاب انحســرت بصورة عامة. وقد مكّن إغلاق الحكام العرب للفضــاء العام من تكريس ممارســات النظم الحاكمة الســلطوية وفاقم الضعف الذي تشــكو منــه تيــارات المعارضــة الديمقراطية ومنظمــات المجتمع المدنــي. ونتيجة لذلــك، لم يبق للفاعلين السياسيين السلميين والمواطنين على السواء سوى مجال ضيق للمشاركة في العمل العام، واضطر هؤلاء إلى الاختيار بين دعم الحكومة أو معارضتها أو الذهاب إلى نقطة أكثر خطرا، وهي تبني هوية طائفية أو عرقية أو قبلية محددة تنتقص وتتناقض مع الهوية الوطنية الجامعة.
من جهة ثانية، يمكن تقسيم الاستقطاب السياسي في المجتمعــات العربية إلــى فئتــن عريضتين: فئة إيديولوجيــة تتجلى فــي صراعات القــوى الدينية والعلمانية، وتتمثّل في التجارب المختلفة التي واجهت بعض بــاد العرب ومنها تونس. فعلــى الرغم من أن الثورة التونســية لم تترجم تماماً إلى ثقة جماهيرية بالمؤسســات السياســية، إلا أن تونس حققت نجاحا
مهما في خلق الإطــار اللازم لوضع نظام دســتوري جديد يجمع بين القوى العلمانية والدينية ويشــركهم في العمل السياســي والمدني ويؤمن للمواطنين النفاذ إلى فضاء عــام مليء بالحيوية يمكن فيــه النظر في المظالــم الاقتصادية والتوتــرات الاجتماعية وقضايا الهوية والأهداف السياســية. غير أن روح المصالحة والبدايات الجديــدة التي غلبت على تونس بين 2011 و2014 تتراجــع اليوم بشــدة وفي المقابــل يتصاعد العنف السياسي بين الدينيين والعلمانيين، بين مؤيدي النظام القديم ومناصري تركيبة مــا بعد الثورة، بين مريدي السلطة الرئاسية المتغولة والمدافعين عن نظام برلماني يخضع لحكم القانون.
أمــا الفئــة الأخــرى الأكثــر معاناة من بــن بلاد العــرب، فتتمثل في حالات الاســتقطاب السياســي المصاحب لحروب أهلية وصراعــات واضطرابات في مجتمعات منقســمة عرقيا ودينيا. ويمكن اســتغلال هــذا الاســتقطاب، بوصفــه أداة سياســية مؤثرة، لتوفير كبش فــداء تعلق عليه الأزمــات الاقتصادية والاجتماعية. وقد تباينــت النتائج بين تصاعد وتائر التوتر الطائفــي في البحرين ولبنان، وبين نشــوب حــروب أهليــة وانهيار الدولــة في ســوريا واليمن وليبيا. فــي البحرين، لم تــزل الفجوة بــن الأقلية الســنية الحاكمة والأغلبية الشــيعية المحرومة آخذة بالاتساع وتنتج من ثم وضعية عدم استقرار مجتمعي وصراعات سياســية وانتهــاكات متصاعدة لحقوق الإنســان والحريات. وفي لبنان، تتواصل صراعات توزيع الموارد المحدودة والتنافــس الطائفي بصورة تضعف مؤسسات الدولة وتنزع المصداقية عن الطبقة السياســية الحاكمة. أما في ســوريا، فقد أسفر نظام الاستبداد القائم على أساس طائفي والجرائم القمعية المتصاعدة عن انعدام الثقة الشعبية بكافة مؤسسات الدولــة. انهارت فكــرة وجود هوية وطنية ســورية ومعها مفاهيم المواطنة الحديثة القائمة على المساواة في الحقوق والاســتحقاقات للسوريين كافة، وعمقت من ذلــك جرائم التنظيمات الإرهابيــة التي اختطفت الانتفاضة الديمقراطية على نحو رتب تدمير النسيج الاجتماعي وتوليــد واقع جديد يشــبه إقطاعيات ما قبل الدولة الحديثة. وفي العراق، أسفرت السياسات الطائفيــة عن بــروز فــراغ أهلي وخلل في الســياق الاجتماعي الــذي كان يفضي إلــى العنف والإرهاب. وقد أدت النزاعات المســتمرة للاستحواذ على الموارد الاقتصاديــة والتمثيــل السياســي بــن المجتمعات الكردية والشــيعية والســنية إلى خلق ملاذات آمنة لتنظيم الدولة الإسلامية وغيره من عصابات الإرهاب ودفعت مجموعات مســلحة أخرى مثل قوات الحشد الشعبي إلى السعي لاســتغلال الانقسامات الطائفية وتبنّي استراتيجيات عنيفة مماثلة.
مع قلة المداخل المؤدية إلى التعبير السياســي الحر ومشــاركة المواطن في العمل العام دون تعقب أو قمع، تهيمن إما الأصوات الحكوميــة أو الأصوات المتطرفة على المتبقي من فضــاء عام في المجتمعــات العربية. فالمواطن في بلاد العرب لم يســتطع منذ عقود النفاذ
إلى عمليات صنع القرار أو إلى ممارسة الرقابة الحقيقية على الحكومات.
علــى الرغم مــن كل ذلــك ومن حدة الاســتقطاب المجتمعــي والسياســي فــي بــاد العرب، لــم يقف المواطنون موقــف المتفرج الســلبي مــن التطورات التي تمس بلدانهم واســتخدموا الأنشــطة السلمية للتعبيــر عــن همومهــم. والواقــع أن المواطنين من الشباب ومنظمات المجتمع المدني والحركات النسوية والعماليــة والطلابيــة كانــوا في صــدارة حركات الاحتجاج السلمية المعارضة لاستمرار الوضع القائم والتي بلغت ذروتها في الموجة الأولى من الانتفاضات العربيــة 2011 والموجة الثانيــة /2019. 2018وواقع الأمر أن الأغلبيات العربية لــم تتخل أبدا عن المطالبة بتحسين الأحوال المعيشية المتدهورة ومحاربة الفساد والمحسوبية وتضييق الفجوات بين الأغنياء والفقراء والربط بين تلك المطالب العادلة وبين الســعي لإلزام الحكومات باحترام حقوق الإنســان وقيم الشفافية. لذا، وبمعزل عن الاختلافات والتناقضات الكثيرة بين المســارات التي اتخذتها البلدان العربية بعد موجتي الانتفاضــات الديمقراطيــة، يظل الحــراك المجتمعي والسياســي المناهض للاســتقطاب قائما وباحثا عن حلول للتخلص من صناع الاســتقطاب من نخب حكم وقوى دينية وعلمانية.