Al-Quds Al-Arabi

تشييع الإمام التاسع في بغداد في ظل كوفيد 19

- ٭ كاتبة من العراق

■ مشــهد آخر يضاف إلــى غرائبية الوضــع العام في العراق. يشــي المشــهد، بتفاصيله، بالأزمة العميقة ألتي يعيشــها البلد علــى إختلاف المســتويا­ت الدينية والسياسية والاقتصادي­ة، وما يتمخض عنها من تشكيل للوعي المجتمعي.

ضمن هذه التشــكيلة المشهدية إحتشد آلاف الرجال، يوم السبت الماضي، العاشر من تموز/ يوليو، في بغداد. أجسادهم تكاد تلتصق لفرط الزحام والتدافع، وجوههم مبللــة بالدموع، وهــم يحملون تابوتا خشــبيا ضخما مغطى براية خضراء، متجهين نحــو صحن الكاظمية ) شــمال بغداد( في تشــييع رمزي للأمام محمد الجواد، التاسع من أئمة الشــيعة الإثني عشرية، والحادي عشر مــن المعصومين الأربعة عشــر، في ذكرى استشــهاده. المعــروف أن الإمام الجــواد كان قد تولــى الإمامة بعد أستشــهاد أبيه علي الرضا وعمره إما ســبعة أو ثمانية أعوام. وقد أدى صغر سنه إلى الاختلاف في مدى أحقيته بالإمامة حينذاك. استشهد الإمام الجواد ببغداد، وعمره 25 عاما، ودُفن في الكاظمية. وتشــير الرواية الشيعية الى أن زوجته أم الفضل، ابنة الخليفة المأمون، دست له السم بتأثير من أخيها المعتصم، بعد توليه الخلافة أثناء الدولة العباسية.

تحفل أيام العــراق، منذ احتلاله عــام 2003، بعديد المناســبا­ت الدينية، الحافلة بالطقــوس الجماعية، بعد رفــع الحظر عنها. لا شــك في أن للطقوس، بأشــكالها، من الدينية الى المناســبا­تية كالــولادة والزواج والموت الى حضور مباراة لكرة القــدم، ومعظمها تعود بداياته الى الطقوس الدينيــة، أهمية بالغة، فــي حياة الأفراد والشــعوب. فمن خلالها يؤكد الفــرد انتماءه الجماعي و«نقاء» أو مصداقيــة رحلته الحياتيــة حتى اللحظة، وإعادة التأكيد على أن المســار الذي يسلكه هو الطريق الصحيح، كما تربطــه بالأجداد والتــراث، وتمكنه من التواصل مع هويته وتقويتها.

من هذا المنطلق، يمكن إعتبار هذه المسيرة واحدة من الطقوس العادية ألتي يختار أبناء شــعب ما ممارستها. إلا أن الواقع الحالي، الاستثنائي، في العراق، يضع هذه المســيرة خارج حدود «العادي المألــوف «. لتثير عديد التساؤلات حول توقيتها، وكيفية الإعداد لها، بالإضافة إلى أهميتها والموقف الحكومي الرسمي منها.

من ناحية التوقيت تم تنظيم المسيرة الحاشدة والبلد يعيش كارثة إنتشــار وباء الكوفيد، التي جعلته يحتل المكانة الاولى فــي قائمة الدول العربية، بأعداد المصابين والموتى. ومــن أوليات الإجراءات التــي يجب اتخاذها للوقايــة من الوباء هــو التلقيح والتباعــد الاجتماعي وإعلان الحظر العام عنــد الضرورة. وهذا ما كان يجب إجــراؤه للمحافظة على حيــاة النــاس والتعافي من الوبــاء. الا أن ما حــدث هو العكس تمامــا إذ تم تنظيم المســيرة ) وهي واحدة من عدة( في وقــت لا يزال فيه التطعيم دون المستوى المطلوب بكثير. وإذا كان ما يميز الشعب هو قلة الوعي، وغسل الدماغ، كما يُشاع، فماهو الدور الحكومي والمراجع الدينية في هذه الحالة؟

بــدلا من شــن حملة توعيــة بمخاطــر التجمعات، سبقت المســيرة حملة تحشــيد منظمة لحث «الموالين» على المســاهمة بل وإقناعهم بوجوب الحضور لتجديد « عهدهم للأمــام «، لكي يضمن لهم الثــواب و«الأجر». ســاهم في الحملــة سياســيون ورجال ديــن، ومراكز ومجمعات دينيــة، وأمناء مجالس العزاء. أُعدّوا خلالها «منهاجاً خاصاً وحافلاً بالنشــاطا­ت الدينية. ويشــمل إقامة مجالــس العزاء الحســيني في رحــاب الصحن الكاظمي الشريف على مدى خمســة أيام بالاضافة الى مشاركة الرواديد الحسينيين «. والرادود هو الحكواتي الشيعي، المتمرس في تقديم سردية البطولة والشهادة، بلغة يــزداد ســحرها بتوظيف المخيلة، لإعــادة تمثيل رمزيتها، بأســلوب يســتدر التعاطــف والتماهي، إلى حد البكاء واللطم على الإمام الشــهيد ومأساته. تُخرج هذه الطقوس المشــارك فيها من واقعــه اليومي، ليكون خارج عالم المــكان والزمان العاديين. ويزداد إقترابا من الأئمة وما يحيطهم من قدســية، خاصــة إذا كان واقعه بائسا )اقتصاديا ومجتمعيا( كحال الشريحة الأكبر من الهامشيين والمسحوقين في العراق، وهو بأمس الحاجة إلى الارتقاء بواقعه، كما الحالم بالفردوس.

لاضرر في ممارســة الطقوس، عمومــا، في الظروف العادية للبلــد، بل ويتطلع الناس للمشــاركة فيها، كما يحدث فــي أرجاء العالــم، وتتحول بمــرور الزمن إلى احتفالات رمزية تجمعهم، وهو ما وصل العراق اليه، في خمسينيات القرن الماضي، مع أيام عاشوراء. فاصبحت فضاء مشــتركا للاحتفــاء بالذاكرة الجماعيــة وإبداع المخيلة فــي أعمال تجمع بــن المســرح والطقوس، ولا تٌستغل لأغراض سياسية واقتصادية وعنصرية.

ان التنــاول المتــوازن للروايات التي تســتند عليها الطقوس القديمــة، في خلفيــة الاحتفــال­ات، جزء من التطــور الثقافــي التدريجي لــأمم. فلا بــد من تمييز التاريخ عن الأســطورة والتزييــف المتعمد، وخصوصا ما يمنع تشــكل التكوين النفســي المشــترك للشــعب، وأخطرها تجــريم حقب كاملة من تاريخه، كما يحدث مع الخلافة العباسية اليوم، مثلا، واسقاطها على الحاضر، بشعبوية سياسية، هدفها تأجيج العواطف.

لا يمكن، اذن، انكار أهمية الطقوس الدينية الشعبية حتى مع انتشــار الوباء، مــا لم يتم مــن خلالها إيهام المشــاركي­ن بأن زيــارة المراقــد الدينية والمســاهم­ة في مســيرات طقوسية حاشــدة، ســتزودهم بالمناعة ضد الوبــاء فــا حاجــة للتباعد الاجتماعي واللقاح.

إن حمايــة حيــاة أبنــاء الشــعب، من جميــع المخاطر، مســؤولية الحكومــة، بالدرجة الأولــى، وعليها إيجاد أفضل الطرق وصيغ التعاون مع رجال الدين والمنظمات الدينية لمنع التجمعات الحاشــدة، مهما كانت قدســية المناسبة. وهذا ما فعلته الحكومات والمؤسسات الدينية، في جميع أرجاء العالم. فأغلقــت أماكن العبادة وألغت الشــعائر الدينية وحددت التجمعــات العامة. وقدمت الكنائــس المســيحية، والكُنُس اليهودية، والمســاجد، والمعابــد، الشــعائر الدينية عبــر البث المباشــر أثناء الجائحة. كما ألغت المســاجد صــاة الجمعة. وتم إلغاء احتفــالات رأس الســنة البوذية، التــي غالبا ما تجمع الآلاف من الناس معا، ليمارســوا طقوســهم في جميع أنحاء جنوب آســيا. بل وأصــدرت الحكومات قرارات تقضــي بمنع تشــييع الموتــى واتمام الدفــن بحضور شخصين فقط.

وإذا كان مــن المفتــرض أن تقوم الحكومــة أما بمنع مسيرة التشــييع أو تأجيلها، حماية للأرواح، وباعتبار إن الإمام الجواد قد استشــهد قبل 1186 عاما، ولن يضر الانتظار عاما آخر، إلا أن أيا من ساسة الحكومة لم يتجرأ على إتخاذ قرار كهذا، ليس إيمانا بضرورة تشييع الإمام الجواد، ولكن خشــية اتخاذ قرار قد يمس مصالحهم إذا ما تعرضوا، باي شكل من الاشــكال، للمؤسسة الدينية وأتباعها، والبلد مقبل على الانتخابات، فالحصول على مقعد، في انتخابات أكتوبر المقبلة، بالنســبة إلى ساسة عراق اليوم، أعلى قيمة من حياة الإنسان.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom