Al-Quds Al-Arabi

كأننا في لا مكان

-

في شوارع بيروت تكتشــف أنك لست في بيروت، كأن بيروت هاجرت إلى اللامكان وتركتنا مع مكان لا يشــبه نفســه، فالأمكنة الأليفة غابت ودخلت في ضباب ذاكرة صارت عاجزة عن التذكر.

لســنا في كابوس كافكــوي، رواية فرانز كافــكا وتحوّل بطله من إنســان إلى حشرة، صار يبدو كاســتعارة مثيرة للسأم أمام تحولات بيروت التي أعلنت موت الاســتعار­ة، لأن الحقيقة نفسها صارت مجرد استعارة لمقتلة الأرواح اللبنانية.

صرنا نصدّق ما لا يُصدّق، ولم نعد نمتلك مرجعاً نستند إليه كي نفهم ماذا يجري، وكيف تُسرق أعمارنا.

وسط رطوبة شــمس تموز- يوليو الحارقة، نكتشف أن موت ضحايا انفجار المرفأ يتحول إلى استعارة لموتنا. هل رأيتم أجساداً حية تحمل أرواحاً ميتة؟

لن تروا هذا المشــهد إلا في بيروت. لن أكتب عن مسخرة رفض رفع الحصانات عن مجرمي 4 آب/اغســطس، فهذه حكاية نعرفها وكانــت متوقعة، فالذي دمّر بيروت لن يتوقف أمام تفصيل صغير اسمه تدمير ما تبقى من مؤسسة القضاء اللبناني.

ولن أتوقف أمام حجج وزير الداخليــة المثيرة للتقزز، وتفاهة فذلكــة نائــب رئيس المجلــس النيابــي، ووقاحــة رافعي صور المطلوبين للعدالة بصفتهم أبطالاً! نحن في تراجيديا يونانية يديرها مجموعة من المهرجين. هل تذكرون ذلك التونســي الــذي صرخ مع بدايــة انتفاضة الشــعب ضد الديكتاتور بأننا هَرِمنا. أما في بيروت فلم نعد نملك سوى صرخة: سئمنا. هل رأيتم بشراً يقادون إلى موتهم وهم يشعرون بالسأم؟ تعالوا إلى بيروت كي تروا هذا المشهد الذي تفوّق على الخيال. ولكــن عليكــم أن تعرفوا مســبقاً أنكم لن تجــدوا بيروت في بيروت، بل ســتجدون مدينة أخرى، وأرواحاً تنزف وهي تحاول أن تدافع عن حقها في الحياة.

المشكلة ليست بيروت كمكان يتلاشــى، بل في كون هذا المكان لا يزال يلعب، حتــى في لحظة احتضاره، دوره كمرآة للمشــرق العربي.

ابتعدوا قليلاً وانظروا إلى المكان الذي تحوّل من قرية صغيرة إلى مدينة تعــج برجال الأعمال والمطاعم وتقــع على حافة مخيم كبير للاجئــن، وقولوا لي هل تجدون رام الله في رام الله؟ أو هل تجدون فلسطين في فلسطين؟

لن أتوقف عند سياســة اللاسياســ­ية التــي حوّلت مناضلين ســابقين إلى متعاونين مع الاحتلال، فهذا الموضــوع صار مكرراً. كنا ننتظر أن تُحــرّك هبة القدس وانتفاضــة الضفة وحرب غزة شيئاً في ضمائر ميتة، أو في ذاكرات فقدت الذاكرة، لكن عبثاً كان انتظارنا.

انظروا إلى عملية إعدام نزار بنات الوحشــية، المسألة لم تعد تُختصر بالقول إنهم يقتلون أو يعتقلــون أو يعذبون، فهذه أمور نعرفها.

المسألة أنهم قتلوا وهم يقولون بصوت مرتفع إنهم فعلوا ذلك، ثم تصــدوا للمظاهرات الاحتجاجية بوحشــية كاملة، وتصرفوا بوعي لدورهم كحراس لسلطة مستبدة تتبع الاحتلال.

الجديد هــو أنهم قرروا أن يعلنوا أن فلســطين بما تختزنه من تراث نضالي مقاوم لم تعد في فلسطين.

شــيء يثير الغضب، ربما لأن الأمور سارت تحت يافطة تاريخ نضالــي لم نكن قادرين على التصديق أن مــن يدّعي وراثته قادر على التنكر لــه. يتصرفون ببســاطة بهلوان بائس ورشــاقته، والبهلــوا­ن يعرف أنه لا يســتطيع الرقص على الحبــال إلا لأنه مربوط بخيوط لا مرئية وضعها الاحتلال من أجل حمايته.

فــي الانتفاضتي­ن الأولى والثانية شــهدنا كيف صارت بيروت مرآة لفلسطين التي تنهض من ركامها، واليوم نشهد كيف تحولت المرآة نفسها إلى أداة لا تنقل سوى حطام الروح. لا، هذه ليست رام الله، تماماً كما أن تلك ليست بيروت. أين نحن؟ في زمن مضى ووســط حصار مخيم تل الزعتر، حاول محمود درويــش أن يهرب إلى بــردى بحثاً عن أضــاع روحه، فلم يجد سوى الزبد.

«وأعدّ أضلاعي فيهرب مــن يدي بردى/ وتتركني ضِفافُ النيل مُبتعداً/ وأبحث عن حدود أصابعي/ فأرى العواصم كلها زبداً». هل نغامر ونبحث عن دمشق- الشام على ضفاف بردى؟ اذهبوا إلى دمشق فلن تجدوها مستلقية على غوطتها، فالمدينة صــارت ملعباً للمــوت، وغوطتها احترقت بالســاح الكيماوي، وسحرها الخفي قابع في الأسى. هل أنت دمشق؟ تسأل بيروت. وهل أنت بيروت؟ تجيبها دمشق. أين نجد أضلاعنــا والمغول يغزون البلاد من الداخل والخارج، وينشرون الخراب واليأس والموت؟

سلاح سلطات الاســتبدا­د ليس القمع والقتل وحدهما، فالقمع ما كان له أن يستشــري لولا اســتناده إلى قاعدة صلبة اســمها اللامعنى.

ولعل النمــوذج الأوضح عــن تعقيدات اللامعنــى نجده في بيــروت. هنا خلف ســتار المؤسســات والفذلكات الدســتوري­ة والقانونية تجري واحدة من أكبر الجرائم في التاريخ.

بــاد تُنهب وأموال تُســرق تحت ســتار تعاميــم «قانونية» يصدرها رياض سلامة، الحاكم بأمر اقتصادنا المنهار.

جريمة وحشــية بحجم انفجــار المرفأ وتحطيــم المدينة، تجد من يدافع عن المتهمين بارتكابها ويحميهم تحت ســتار «قانوني» ووسط التهديد والوعيد. لن نقول يا عيب الشوم، فالعيب مات مع موت المعاني. ولن نقول الحق على الشــعب، فشعوبنا التي ابتُليت بأصناف متنوعة من القمع والاحتلال قاومت وصبرت وصمدت حتى أتعبت الصبر. ماذا نقول؟ تعالوا نبحث عن أمكنة لا تزال قادرة على حماية روح الأمكنة. هناك في الشــيخ جراح في القدس، وهنا مع طلاب لبنان ومع انتفاضة المهندسين من أجل اســتعادة نقابتهم. هناك في سجون الاحتلال الإســرائي­لي حيث يرتفع التحدي، وهنا في الســجون العربية حيث يختبئ المعنى في ثنايا العيون. هنا في عتمة بيروت التي تغطي أرواحنا، وهناك في الشام العتيقة، نجد آخر ما خبأته لنا الحياة من وعود بالحياة.

هذه ليســت بيروت، لكن ناس بيروت الذيــن يقاومون الموت بالإصرار على الدفاع عن الحياة هم بيروت.

وتلك ليســت رام الله، لكن فلســطين كلها تختبــئ في عيون الأسرى التي تدافع بنورها عن احتمالات الحرية.

وهذه ليســت دمشق، لكن المدينة اختبأت في قصائد شعرائها، وفي أحزان اللاجئين والسجناء، كي تعلن أنها ترفض أن تموت.

نحن في اللامكان، ومن هذا اللامكان علينا أن نصنع المكان من جديد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom