Al-Quds Al-Arabi

انسحاب فرنسا من مالي... بين معاقبة الانقلاب ومحاولة توريط الجزائر

-

■ إســطنبول «الأناضول»: أخيراً وضعت فرنســا خريطة طريق لانسحابها من الســاحل الإفريقي، لكنه انسحاب محدود مكانيــاً وزمانياً وعدديــاً، يهدف إلــى تخفيف الأعبــاء المالية والخسائر البشرية دون التخلي عن النفوذ في المنطقة.

وتتركز خارطة الطريق في غلق القواعد العســكرية الفرنسية في كيدال وتومبوكتو وتيســالي في شــمال مالي، وتقليص عدد القوات الفرنسية من 5 آلاف و100 عنصر إلى نحو 2500 أو 3 آلاف عنصر، وأن يتم ذلك خلال الفترة بين النصف الثاني من 2021 إلى بداية 2022.

هذا ما أعلنه الرئيس الفرنســي إيمانويل ماكرون، خلال القمة الافتراضية مع زعماء دول الســاحل التي انعقــدت في 9 تموز/ يوليو الجاري، والتي كان رئيــس النيجر محمد بازوم، الوحيد الذي شارك فيها من باريس.

بينما اســتبق محمد ديبي، رئيس المجلس العســكري الحاكم في تشــاد، انعقاد قمة دول الســاحل الخمس، بزيــارة باريس ولقاء ماكرون، في جلسة استغرقت ساعة، تم خلالها استعراض استراتيجية فرنســا الجديدة في المنطقة، وأيضاً عبر ديبي الابن عن امتعاضه من الاستفزازا­ت الروسية لبلاده عقب توغل جنود من جمهورية إفريقيا الوسطى في الأراضي التشادية واشتباكهم مع قواته، بحسب وسائل إعلام فرنسية.

هزيمة حزب ماكرون )الجمهوريــ­ة إلى الأمام( في الانتخابات المحليــة، قبيل نحو 10 أشــهر من الانتخابات الرئاســية، تجعل الرئيس الفرنسي يعيد النظر في العديد من سياساته لاستدراك الوضع لتجنب سيناريو رحيله من قصر الإليزيه.

وفي هذا الســياق، يأتي قرار ماكرون إنهــاء عملية "برخان" العسكرية في الساحل، والشروع في تخفيض القوات الفرنسية فــي المنطقة، حتى قبل الاتفــاق على عملية عســكرية بديلة لمنع اختلال أمني في المنطقة لصالح الجماعات المســلحة والتنظيمات الإرهابية.

غير أن ماكرون ربما يراهن على عملية "تاكوبا" الأوروبية، لملء الفراغ في الساحل، والتي تضم قوات خاصة أوروبية، بالإضافة إلى نحو ألفي عنصر من قوات النخبة الفرنســية "ســابر"، ومن الممكن أن ينضم إليهم 1100 جندي أمريكي منتشرين في المنطقة.

لكن قــوة "تاكوبــا"، لا تبلي بلاء حســناً فــي أرض المعركة، ويقتصر دورها الرئيســي علــى تدريب القــوات المحلية لدول الساحل، وكذلك بالنسبة للقوات الأمريكية التي تكتفي بالتدريب وتقديم الدعم اللوجيســت­ي سواء بالنســبة للنقل أو المعلومات الاستخبارا­تية.

وتبدو الدول الأوروبية وعلى رأســها بريطانيا، غير متحمسة لرمي ثقلها العسكري في منطقة الساحل التي ينظر إليها كمنطقة نفوذ فرنســية، أمــا الأمريكيــ­ون فيريدون إنهــاء حربهم على الإرهاب التي اســتمرت لعشــرين ســنة في أقرب فرصة وليس التورط في مستنقع أمني جديد.

فيما يضغط الرأي العام الفرنســي على قيادة بلاده لســحب قواته من الساحل بعد مقتل 50 جندياً فرنسياً منذ 2013، وإنفاق مليار يورو ســنوياً لتغطية الحاجات المتعلقــة بعملية برخان، بحسب مجلة "لوموند ديبلوماتيك"، أي أن فرنسا أنفقت لحد الآن نحو 8 مليارات يورو على الأقل في معركتها بالساحل.

كما أن نتائج ســبر الآراء التي نشرت في كانون الثاني/يناير الماضي، كشــفت أن 51 في المئة من الفرنسيين يعارضون التدخّل العســكري في الساحل، بعدما كانت نســبة المؤيدين 73 في المئة عند إطلاق عملية "ســرفال" في 2013 ثم تراجعت إلى 58 في المئة في 2019، لتصل في 2021 إلى 49 في المئة.

هذه النتائج تدفــع ماكرون الحالم بفترة رئاســية ثانية إلى التعجيل بســحب قوات بــاده من خطوط المواجهة الرئيســية شــمال مالي، وتدويل الحرب، مع الإبقاء على القواعد الفرنسية في المنطقة خاصة بالنيجر وتشــاد، حتى لا تفتح المجال لروسيا والصين لاقتــاع نفوذها مــن المنطقة، كما حدث فــي جمهورية إفريقيا الوسطى بعد إنهائها عملية "سانغاريس".

التركيز الفرنســي على الانسحاب فقط من شمال مالي، يهدف بالأســاس إلى معاقبة زعيم الانقلابيي­ن العقيــد عاصمي غويتا، الذي أطــاح بالرئيس المؤقت باه نداو، المقــرب من باريس، رغم

فشل الجيش المالي في مواجهة الجماعات الإرهابية في بلاده.

وإغلاق القواعد العسكرية الفرنسية في أكثر البؤر سخونة من الناحية الأمنية يضع الجيش المالــي أمام امتحان صعب، ويلقي عليه بأعباء إضافيــة، ما قد يدفعه للعــودة مرغماً إلى أحضان باريس، للحصول على دعمها المالي والعسكري.

فمناطــق كيدال وتيســالي القريبــة من الحــدود الجزائرية بالإضافة إلى تومبوكتو حاضرة مدن الطوارق منذ القدم، تعيش تهميشــاً مقارنة بمدن الجنوب والتي يفصــل بينهما نهر النيجر كحاجز طبيعي.

وشهد الشمال المالي خلال العقود الماضية عدة تمردات، لعبت الجزائــر دوراً بارزاً في تهدئة الأوضاع عبــر المفاوضات، آخرها الاتفاق الموقع في 2015 برعاية جزائرية بين المجموعات المسلحة للطوارق وحكومة باماكــو، والذي لم تلتزم به الأخيرة لحد الآن ما يهدد بانهياره.

والانسحاب الفرنسي من الشمال قد يؤدي إلى تمرد الطوارق والأزواد مجدداً وانهيار اتفاق الجزائر للســام، والجيش المالي لطالمــا وجد صعوبة فــي وأد تمرد الطــوارق نظــراً لإمكانياته المحدودة، وشســاعة المنطقة مع قلة الســكان، ودراية المتمردين الجيدة بدروبها الوعرة.

لكن الجماعات المسلحة والإرهابية المتحالفة تحت لواء "جماعة نصرة الإســام والمســلمي­ن"، بقيادة إياد آغ غالي، قد تســتغل الانسحاب الفرنسي وضعف الجيش المالي وعودة تمرد الطوارق للسيطرة مجدداً على الشمال المالي مثلما فعلت في 2012.

هــذا الوضع قــد يدفع الجزائــر، التي تملك أقــوى جيش في الساحل، للتدخل عســكرياً لمنع قيام إمارة إرهابية على حدودها الجنوبية، وفق الســيناري­و الذي تفضله باريس، التي لا ترغب بالاســتمر­ار في حرب مفتوحة ضد الإرهــاب، والقتال نيابة عن دول المنطقــة، مثلما كانت الولايات المتحــدة الأمريكية تقاتل في أفغانستان نيابة عن روسيا وإيران والصين.

وفي هذا الصدد، أطلقت صحيفة "جون أفريك" الفرنسية بالون اختبار، زعمت فيه أن قائد الأركان الجزائري ســعيد شنقريحة، زار باريس ســراً، لبحث أزمة الســاحل الإفريقــي، وهو ما نفته وزارة الدفاع الجزائرية ووصفته بـ"الافتراءات".

فالجيش الجزائري خاض حرباً دموية ضد الجماعات المسلحة طيلة تســعينات القرن الماضي، ولم يتمكن من الانتصار فيها إلا عبــر المصالحة الوطنيــة، لذلك فهو يدرك جيــداً أن الحرب على الإرهاب في الساحل لا يمكن الفوز فيها بالقوة العسكرية وحدها.

وحتى بعد اختطاف دبلوماســي­يها في مدينة غاو شمالي مالي في 2012، واستهداف مصنع للغاز في تيغنتورين، جنوب شرقي الجزائــر انطلاقاً من شــمالي مالي فــي 2013، إلا أن الجزائر لم ترســل قواتها إلى المنطقة، متحججة بمنع دستورها للجيش من القتال خارج الحدود، إلا أن هذا العذر لم يعد مطروحاً بعد تعديل الدستور في 2020.

ومع ذلك، يبقــى الجيش الجزائري حذراً مــن التورط في أي حرب قد تســتنزف قدراته، في ظل توتــر الأوضاع على حدوده الشرقية والغربية أيضاً.

بينما يســعى الفرنســيو­ن إلى توريط الجزائريــ­ن في هذه الحرب، لأن انســحابهم من أرض المعركة سيحدث فراغاً لا بد من أحد الأطراف أن يملأه.

وفي هــذا الصدد، نقل موقع "فرانس 24" عن مصدر عســكري فرنسي قوله: "يجب أن نناقش مستقبل تحركاتنا في شمال مالي مع بعثة الأمم المتحدة في مالي، ومع الجزائريين المعنيين مباشرة باعتبارهم دولة جارة".

ووقعت وزيرة الدفاع الفرنســية فلورنــس بارلي، ونظيرها الأمريكي لويد أوستن في واشنطن، الجمعة، خارطة طريق جديدة للتعاون بين القوات الخاصة للبلدين، ما يوحي بإمكانية انخراط الجيش الأمريكــي أكثر فــي العمليات القتالية ضــد الجماعات المسلحة في الساحل، إلى جانب قوات "تاكوبا" الأوروبية.

فمنطقة الســاحل مقبلة على مخاضات سياسية وأمنية عميقة في المرحلة المقبلة، وقد تشــهد دخول لاعبــن دوليين وإقليميين جدد، ما سيؤدي إما لاحتواء نشاط الجماعات المسلحة أو تمددها إلى منطقة خليج غينيا الغنية بالنفط والغاز.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom