Al-Quds Al-Arabi

أطياف الهامش في القصة القصيرة

- عبد الحفيظ بن جلولي ٭ ٭ كاتب جزائري

■ تبدو القصة القصيرة في حد ذاتها وكأنها «مهمشــة» منذ أن أطلق جابــر عصفور جملته المشــهورة والمعنون بها لكتاب، «زمن الرواية» فظن كل مهاجر من القصة إلى الرواية، أنه انتقل من نوع أدبي متدن إلى نوع أدبي أرقى، وكم هي مجحفة هذه الرؤية في حق القصة القصيرة، لأن طبيعتها السردية تنطوي على تعارض مفهومي يجعل منها فنــا صعبا، فهي تتطلب الحدث، وهو مــا يمكن أن نعرّفه على إنه الســيولة في الكلام، أو الإسهاب فيه لأجل تحريك عجلة الحدث، لكنها من جهة أخرى تتطلب التكثيف، وهو الاقتصاد في الكلام، أو في اللغة، أي الاقتصاد في الشــخوص والأمكنــة والأزمنة، وهــو ما يجعــل القاص في وضع صعب، وهــو أيضا ما يعطي القصة القصيرة أهميتها.

من الإنسان في المطلق إلى الإنسان الفاعل

يجعل القاص - وهــو يدير الحدث لإنتــاج النــص القصصــي - الواقع بتفاعلاته مســرحا لرؤيته السردية، لكن بإضافة الفن، أو اللمسة الإبداعية لينفصل الحدث اليومــي عن الحدث التخييلي، فهو ينطلق من الإنســان في المطلق، أي ذلك الذي ـ افتراضا - يتمتع بكل حقوقه الطبيعية من حرية وعدالة وكرامة، أو ذلك الإنسان الذي يمثل القاص نموذجــه، لا باعتباره مبدعــا له، لكــن باعتبــار القاص إنســانا ضمــن منظومــة الانتماء إلى الحياة، فبول ريكــور يرى أن الإنســان جزء من الحياة قبل أن تهاجر بــه الحياة إلــى الكتابة، وصولا إلــى الإنســان الفاعل أو المناضــل، أي ذلك الــذي يصارع الوضع اليومي ليكســب حريته وقوته وكرامته، فالقاص بطريقة أو بأخرى إنما يبحث في المهمش، الإنســان الذي طحنته عجلة المجتمع فألقت به خارج دائرة اهتمامها، وبالتالي فهو يتمرد على الأوضاع التي سلبته إنسانيته بنضالية مريرة ومستمرة، وتلك هي بداية الحكاية الإنسانية مع المهمشين في المتن السردي القصصي.

تهميش الإنسان في «أوان القطاف»

تضع هــذه المجموعة مســتويات للتهميش، إذ يحــدد ابتداء عبد الرحيم هــري جنس الكتابة في مجموعته القصصيــة «أوان القطاف» بـ«مجموعة قصصية» ثــم يكتب فــي عتبة العنــوان الداخلي «نصــوص قصصية» لينفتــح أوان الموقــف، على أساس التمييز بين القصة والنص، فهل كان مقصودا أن يضع هذا التغييــر، وبالتالي تكون تلك حيلة منه

لينقذ النص من تعريف القصــة القصيرة، وهو ما يحيلنا إلى نســق الأفضلية، باعتبار الكتابة الحداثية وصلت إلى مرتبة النــص المفتوح، وهو مــا يجعلنا نفكر فــي تهميش نوع أدبي وشكل ســردي عريق، أو كان ذلك مجرد أطروحة من الكاتب وردت عفوا.

يخبر عبد الرحيــم هري القارئ أن تلميذتــن هما اللتان قدمتا لعمله القصصي، ويحدد عمرهما بســت عشــرة سنة، وهي مخاطرة تحملهــا القاص باعتبار العمــر والتجربة لا يســمحان للتلميذتين بــأن يصلا إلى عمــق القصص الفني والرؤيوي والدلالــي، لكن من جهة أخــرى، فالممكن قراءته في ســلوكه هذا هو مد يد الإنقاذ للمهمشين في عالم الكتابة المقتصِر على الأسماء الكبيرة.

هنــاك خيط رابط بين قصــص «أوان القطاف» وهو الحياة على حافة الدنيا، وعنوان مثل «مواطنون منتهية صلاحيتهم» ينتهي إلى ســلعية الإنســان، وتجــاوزه ككينونــة تعبر عن التاريخ والكيان والفكــر، وأيضا عنوان «تأمين» يقابل القاص فيه بــن الزوجة والســيارة، وفــق رباط التأمــن «البنزين والمازوت» وهــو تعبير صارخ عن تهميــش المرأة داخل وضع اجتماعي، يجعل منها أداة للمنفعة العامة تماما كما الســيارة، وإن كانت نصــف المجتمع فهي لا تعبر ســوى عن تلك الحركة التي يســتغلها الرجل ولا يتوخى مشــاركتها، لأن المشــاركة تعني الزوجة كفرح مشــتهى، تعني العواطف التي تجعل منها إنسانا، لكن التهميش يجعل من الفرح المشتهى غائبا.

والتهميش بصورته الواقعية التي تجعل من الإنسان رقما متجاوزا، يكشف عن أن هذا المهمش كائن حالم خارج الوضع الاســتثنا­ئي الذي يقذف به بعيدا عن منظومة المتنفذين في المجتمع، وفي إحدى الجمل: «وفي غفلة من الزمن، راح يصنع له توأما يســع عشــقه» فـ»غفلة من الزمن» هي مركز القوة الذي يملكه المتحكمون في زمام الأمور، والمهمشون للضعفاء، وفــي المقابل هناك زمــن مختلف أراد القاص مــن خلاله أن يكشف عن أن وضع التهميش لا يمنع الحلم بمكان أو مجتمع يسع تطلعات المهمشين.

تهميش المكان في «مغارة الصابوق»

يعتبر عبد الله كروم من ســاكنة الجنــوب، أي البعد عن المركــز، وكلما كان هذا البعد، كانت المنطقة نائية ومهمشــة، وتندرج قصــص المجموعة في الانتصار للمكان المهمش. وهو ما نكتشــفه في جملة «أتريدين أن أكتب عنك قصة» الخطاب موجه فــي صيغة التأنيث، إذن، المــكان مؤنث يحمل وصف الرهافة والرقة والجمال، وسؤال الكتابة عن المخاطَبة بقصة يحيل إلى أنها مهمشــة، لأن التوجه إليها بالكتابة عنها يؤكد عزلتهــا وتهميشــها، وأن يكتب عنها قصة معنــاه أنها تمثل كيانــا حاملا لجمالية ما، يرد ذلك في جملة عنوان آخر «زينة المدائن» وتكشــف بالبداهة أن المخاطَب هو المكان الناجز في جمالية الأنثى.

يســتأثر الوضع التهميشــي للمــكان بمشــاعر القاص، فيؤســطره انطلاقــا من معنــى الجملــة: «حتــى الخرير الأسطوري لســاقية الحاجة مينة اختنق» وكلمة الأسطوري تضع المكان في مســتوى ماورائي غرائبي، وهو يستعيد تلك الأســطوري­ة الغائبة في مواجهة الوضعيــة المزرية للمكان، جــراء التهميش الــذي طالــه، فالخرير دال علــى الحركة، وبما أنه أســطوري، فهو يحيل إلى حركة المكان في التاريخ

وفي الروح التي تســري في الطين والرمل. يعلمنا الرمل أن الزمن والصمت والمكان ليست مفاهيم، وإنما حيوات تدفعنا للاستقرار.

«الصابــوق» حالة عابــرة للتاريخ، تحيل إلــى الكهفية كمحاولة للاندراج في التاريــخ، بعد أن انحرف المجتمع عن مجاليته، فالكهف وضع غامض يتجلى كما مســار سالب في الوجودية الإنسانية، تشتغل فيه الظلال وليس الواقع، فهو وضع المجتمع الذي أدرك أنه ظل، مهمش، وحاول اســتعادة وضعــه الطبيعي ليتأســس كعلامة، أو كأفــق للعودة إلى المسار.

تهميش الذاكرة في «نزلاء المنام»:

أمان الســيد قاصة ســورية تقيم في أســتراليا، وعنوان مجموعتهــا القصصيــة «نــزلاء المنــام» يتفكك عنــد عتبة الاغتراب، فالنزلاء من النزل، وهو ما يحيل دلالةً إلى العبور، وليس الاســتقرا­ر، الغربة وليس الوطــن، والمنام لا يتأثث وجدانيا وفكريا، سوى عند عتبة الحلم، فالمغترب حالم أبدا بوطن، وهو بالضرورة، وبطبيعة الأشياء، مهمش على حافةٍ في نمونكلتورا الأوطان، وبالتالي لا يســع الكتابة لديها إلا أن تُفعّل أداة الذاكرة، «الطفلة التي كنتها ما تزال تشــعرني حتى اليوم بأن لأمينة حقا عليّ، وعلــى الحارات وأطفالها، وعلى شــرفة بيتنا». الجمع بين الذاكــرة والجنون، ليس إلا التفســير لحرائق الشــوق إلى الوطن، فالقاصة تســتنبت حالــة وجدانية تتعلــق بطفولتها، لكن فــي علاقتها بالمكان وعناصره، واســتحضار الذاكرة الطفولية فــي دائرة زمن الاغتــراب الراهن يكشــف مدى تهميش الذاكــرة في خضم عدم الالتفات إلى الماضي والتوهان داخل أقبية الحاضر بكل عنف انقضاضها على الذاكرة، لكن ما كشفته من عناصر هذه الأخيرة، يمثل معالم النقاء في فضاء تشمله سعادة الإقامة، وهو ما يفتقده المكان الراهن وذاكرته الخربة، فالوطن ذاكرة تسكن المواطن وليس مكان نسكنه فقط.

أخيــرا، تعتبر القصــة القصيرة الفن الــذي يمتلك قدرة معتبرة، في وصف اللحظة المعاشــة بــكل تجلياتها، لأن ما تختزنه مكثفا، تعبر عنه اللغــة المكثفة في القصة القصيرة، وهو ما يمنح معنــى التهميش بعدا دلاليا تتشــظى معانيه وفق الكلمات المركــزة، التي تتركب ضمن مســتوى الجملة لتمنح المعنــى الدلالة العميقة في كتابــة اللحظة بكل زخمها الوجداني، وبما ينغلق عليه من انكســار وانتصار من فرح ومن حزن. المقال من وحي مشاركة في ندوة حول المهمشين في القصة القصيرة بدعوة من الكونفدرال­ية العامة للشغل في المغرب.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom