متى لا يكون الفيلم إسرائيلياً؟
بيان الفنانين الفلسطينيين حول «فليكن صباحا»:
■ أطرح ســؤالاً موازياً لـــ «متى يكون الفيلــم فلســطينياً؟» هــو «متــى لا يكون الفيلم إســرائيلياً؟» أطرحه بمناسبة بيان أصدره العاملات والعاملــون )من ممثلين وغيره( فــي فيلــم للمخرج الإســرائيلي عيران كوليرين، يرفضون فيه المشاركة في مهرجان كان السينمائي، بدورته الحالية، بســبب تصنيف الفيلــم إســرائيلياً، في مشاركته ضمن برنامج «نظرة ما».
مــن أين نبــدأ؟ المســألة شــائكة نوعاً ما. فالمخــرج إســرائيلي. شــركتا الإنتاج إســرائيلية وفرنســية، التصنيف بالتالي لدولــة الفيلم يكون: إســرائيل وفرنســا. السيناريو الذي تشــارك كوليرين كتابته مع المؤلف، مأخوذ عن رواية لســيد قشوع، الفلســطيني المندمج «جيداً» (لغــةَ تأليفٍ على الأقل( في المجتمع الإسرائيلي. والفيلم، بلغتيــه العبرية والعربية، يشــمل ممثلين فلســطينيين من الداخل، هم، مــع عاملين آخرين، أصدروا البيان الرافض مشاركتهم تمثيل دولة إسرائيل في المهرجان الفرنسي.
لهذا التعقيد كله ســألت «من أين نبدأ؟» لهذا التداخل المتشــابك والمشتبك بين ما هو فلسطيني وما هو إسرائيلي، وهو ما يحيل إلى الســؤال الذي بدأتْ به هذه الأســطر وهو «متى لا يكون الفيلم إســرائيلياً؟» قد تمهــد للخوض في محــاولات الإجابة هنا، محاولةُ الإجابة أولاً عن «متى يكون الفيلم إســرائيلياً؟» فنضــع معياراً عامــاً نرمي تحته كل ما هو إســرائيلي، ولا أخضع هنا للتصنيفــات البيروقراطيــة، وإلا مــا كان لهذه المقالة من ضرورة، وما كان للعقل من حاجة، فيكون الكثير من الأفلام الفلسطينية إســرائيليةً، ويكــون كل مــا هــو لمخرج إسرائيلي إســرائيلياً. فلنجعل المعيار إذن )وهذه محاولات للنقاش وليســت قوانين( كالتالي: يكون الفيلم إســرائيلياً متى خدم
المؤسسة الإسرائيلية الرسمية؟ متى مثل الدولة؟ متى راكمَ في الرواية الإســرائيلية للتاريخ؟ يمكنني دمج ثلاثتها في أن الفيلم يكون إسرائيلياً متى كان «مناقضاً للسردية الفلســطينية » أو «معاديــاً للفلســطينية » وهذه المعاداة نجدها في مستويات تتراوح بــن فيلم صهيونــي بدرجــة البروباغندا المباشــرة، أو فيلم «جانر» إسرائيلي، «غير سياسي» فيكون سياســياً تاماً بمناقضته للســردية الفلســطينية من خلال التجاهل التام للصــراع معها، وكلاهما ليســا ضمن مجال اهتمامي، أو، وهذا مــا ينبطح أمامه الكثير مــن المتفرجين بهيئة نقاد من العرب، الأفلام السياســية، المنتقدة للعســكرة في مجتمعهم، أو التطرف اليميني في دولتهم، فيظهر المخرجون كدعاة ســام بين «طرفَي الصــراع» كما يســمي البعــض القتالَ بين المضطهِد المســتعمِر والمضطهَد المســتعمَر، يكون للفلســطيني فــي أفلامهــم حضور الشبح، ويكون انتقادُهم لمجتمعهم ودولتهم من داخلها، بمعنــى لجعلها أفضل و«مدنية وديمقراطيــة وأوروبيــة » حقيقية، فتكون الضحية في أفلامهم من بينهم، تكون شــاباً مجبــوراً على الخدمة فــي الجيش مثلاً، أو فتاة تسعى للتحرر من المتدينين.
مــن الأمثلــة الأحــدث لذلــك أفــام «فوكســتروت» لســامويل ماعــوز و«مترادفــات» لناداف لابيــد و«ترامواي في القــدس» لعاموس جيتــاي. هذه أفلام إســرائيلية تامة، خادمــة، بإخلاص بين، للســردية الإســرائيلية الطامسة لحضور الشخصية الفلسطينية ولإنسانيتها، فكيف الحال بروايتها!
هــذا ما يمكــن تصنيفــه كأفــام تمثل المؤسسة الإســرائيلية الرســمية، بصيغة تكون للضرورة «ألطــف» (لدواعي التلقي الأوروبي حيث كان وفينيسيا وبرلين( مما يمكــن أن يمثلها وزير ثقافــةٍ مثلاً، فالأفلام هــذه أذكى قليلاً مــن فِعلة وزيــرة الثقافة ميري ريغيف في المهرجان ذاته عام 2017، حين ارتدت زياً مطبوعاً عليه صورة من مدينة القدس.
لكن، مقابل هــذه الأفلام الروائية، هنالك أفلام هــي أولاً وثائقية، وثانياً ليســت «معادية للفلســطينية.» من هذه الأفلام، أذكر الأحــدث مثل «نهب وإخفــاء: الأرشــيف الفلســطيني في إسرائيل» لرونا سيلاع و«السنوات الـــ54 الأولى» لآڤي مغربــي. هي أفلام إسرائيلية من حيث تصنيف الدولة، ومن حيث جنسية مخرجيها. لكني لا أجد لها مكاناً ضمن المعيار الذي وضعتُه للأفلام المصنفــة، حســبه، إســرائيلية، فلا هي تخدم المؤسسة والرواية الإسرائيليتين، ولا هي معادية للفلســطينية، وإن كانت، بطبيعــة الحال، غير فلســطينية. هي من تلك التي تخدم الســردية الفلسطينية من داخل المجتمــع الإســرائيلي )وهذه حاجة فلســطينية( وفي ذلك، بالمناســبة، ما هو أفضل )وأشــد جذرية( من أفلام فلسطينية محدودة، بائســة، إما بخطابهــا الوطني المباشــر مرفقاً بفنية رديئة، أو تلك المراوغة في طرح فكرة تعايش، متغزلةً بهذا الطرف وذاك فــي الوقت عينه، علها تســيل لعاب المحكمين الغربيين الليبراليين البيض.
الأمثلــة المطروحــة هنا، هي مــن بين ما شاهدتُه في السنوات الأخيرة، لكن المعيار «التجريبي» الذي وضعتُه يشــمل آخرين لم يصنعوا أفلاماً منذ مــدة، إنما، بأفلامهم الســابقة وبمواقفهم الراهنة، هم معادون للصهيونية، كما يمكن أن يكونه فلسطيني، أذكر إيال ســيڤان هنا، وفــي ذهني فيلمه «يافا، زمن البرتقال» وهو كذلك وثائقي.
أما لماذا يكون الفيلم لمخرجه الإسرائيلي معاد للفلســطينية متى كان روائياً، وتكون الأمثلــة المعاديــة للصهيونيــة وثائقيــة، فلذلك اعتبــارات قد لا يكون مجال الخوض فيها هنا، كي لا تخرج المقالة عن مســارها، اعتبارات تخص عملية الصناعة والتمويل الضخمين للعمل الروائي مقارنة بالوثائقي، وبالتالي العلاقة مع المؤسســة الرســمية والممــول والــوزارة، وكذلك ثقــل الُمخرج ومقولته في كل من العملين.
نعــود إلــى فيلمنــا موضــوع هــذه الأســطر، «فليكــن صباحاً» وهــو روائي )وهــذه ميــزة( فهــل يكــون كغيــره من أفــام التعايش؟ هــل يكون فيلمــاً معادياً للفلســطينية أم للصهيونيــة؟ أيــن يمكن تصنيفه في التشابكات والاشتباكات التي تعيشــها القضية الفلســطينية في سينما يصنعها إســرائيليون، وأخــرى يصنعها فلســطينيون؟ هذا كله تحدده المشــاهدة المنتظَــرة، لكن إشــارات أوليــة يمكن أن توضح الصورة أكثر.
فــي البيان الــذي أطلقه فلســطينيون عاملــون فــي الفيلم، أشــاروا إلــى «دعم صديقنا وحليفنا عيــران كوليرين، ونفخر بمشــاركتنا في الفيلم» وأن الفيلم «يتناول حالة الحصــار التي نعيشــها » ومن عموم البيــان نســتنتج أن الفيلم، علــى الأقل، ليس صهيونيــاً، ما يمكن تثبيتــه أو نفيه بالمشــاهدة وحســب، لكن، قصــة الفيلم المعلنَة، والإشــارات في البيان حول الفيلم ومخرجه )الذي دعــم البيان في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» وهــذا بحد ذاته مُعتبَر( توحي بتفاؤل أن نجد فيلمــاً يكون روائياً لمخــرج إســرائيلي، ويكــون مصنفاً ضمن معــاداة الصهيونيــة، أو داعماً للســردية الفلسطينية، واللغة السياسية للبيان الذي أطلقه العاملون في الفيلــم يزيد من جرعة التفاؤل بفيلم شارك هؤلاء في إنجازه.
هل أقول، لذلك، جواباً عن السؤال الأول في المقالة، إن هــذا الفيلم فلســطيني؟ لا، لا مبــررات كافية لذلك. هل أقــول إنه معادٍ للصهيونية؟ هذا ما تحدده المشاهدة فقط.
أخرج مــن الفيلم إذن إلــى البيان الذي يقــدم لمرحلــة جديــدة فــي التعامــل مع السينما الإسرائيلية، يشمل بعض الموقعين عليه الذيــن عملوا في أفلام ومسلســات إســرائيلية تامــة، خادمــة للمؤسســة/ الرواية الإســرائيلية. لنبدأ من هنا، فليكمل الفلســطينيون مطلقو البيان، ممن شارك في أعمال إســرائيلية تامــة، إطلاقَ البيان بالتوقف عن التعامل مــع أفلام صهيونية، وعــن تمثيلهــم علــى الشاشــة، وليُطبق ذلك على عمــوم العاملين في الســينما من فلســطينيي الداخل، الممثلين تحديداً. ليكن البيــان فاتحة لمعايير جديــدة في التعامل مع صناع الأفلام الإسرائيليين، مع التمويل الإســرائيلي، مــع كل مــا يمكــن أن يمثل المؤسسة الإسرائيلية على الشاشة.
لا أقول إن البيان فتح شقاً في مسار مظلم، بل سبقته ضرباتٌ في هذا المسار وصراعات وجدالات، في مســألة التمويل الإسرائيلي أولاً، وفي ظهــور ممثلين فلســطينيين في أفلام صهيونية ثانياً، مشــاركين، بذلك، في إتمــام وثيقة فنية جديدة، على شــكل فيلم أو مسلســل، تمحو الشخصية الفلسطينية وبالتالي إمكانية أن يكــون هنالك صاحب سردية فلسطينية في الأساس.
المســألة تتطــور بالتراكمــات، وهــذا البيــان آخــر حلقاتها. هنالك نقــاش لا بد من الذهاب إلى آخــره في تعقيدات صناعة الفيلم لدى فلســطينيي الداخــل، إن كان التمويل الإسرائيلي لغير الفيلم الأول )هنا نفتح أقواس نقاشــات تفصل حالات الفيلم الأول ولا تعممهــا( أو التمثيــل فــي أفلام هي واجهة للمؤسسة الإســرائيلية )وهذا بؤسٌ لا يُحكى فيه كفايةً(. هذه كلها أســئلة صارت الإجابات عنها أوضح مع الوقت، مع التجارب، مع التشابكات والاشتباكات.
ليكن هــذا البيان إضافةً لهــذا التراكم، وليحد مــن استســهال العمل بمــا يخدم ســردية صهيونية في فيلم أو مسلســل لا يكون إلا إسرائيلياً تاماً.