Al-Quds Al-Arabi

ثقافتنا العربية: وهم المراجعة وغلو الهامش

-

■ من يحق له مراجعة التجربــة الثقافية العربية، شعرا أو سردا أو فكرا؟ وما هي اتجاهات هذه المراجعة، وكيف ستكون طبيعة الوسائط المستخدمة؟

المراجعون الثقافيون ليســوا قضاة حتما، وليسوا ثوارا ليجعلوا المراجعة تغييــرا أو محوا، كما لا أظنهم «أبرياء» بــا مرجعيات أيديولوجية، أو سياســية أو عقديــة، ليجعلوا تلك المراجعة وكأنها تطهير للجســد واللغة والنص.

القطيعة مــع التراث تبــدو وهما كما يقول قاســم حداد، وأن التلويح بها بوصفهــا «مقولة» أو «يافطة» سيجعل من الحديث عنها وكأنها نوع من إشهار الحرب على «الثوابت» وعلى «المنابر» التي تشــبه مشــاجب الأســلحة، رغــم أن توصيف هــذا الأمر ســهل جدا، وأحيانا ســاذج جدا، لأننا جميعــا محكومون بالزمن والشــيخوخ­ة و»عوامل التعرّي» لذا لا حلول حقيقية في تبني أيّ خيار مضاد، والنظــر إلى التراث بوصفه عنصرا كينونيا في وجودنا وفي لغتنا وفي أســرارنا وطقوسنا، وأن إطلاق الأحكام الطاردة سيبدو حماقة، وتسفيها للذاكرة، فشــاعر مثل المتنبي يطفر كل لحظة أمامنا ونحن نصنع القصائد، مثلما أن ســاردا وحكيما مثل التوحيــدي يوهبنا إحساســا بشــهوة المغامرة والاختلاف، وحتى فيلسوفا فقيها مثل ابن رشد يجعنا أكثر تحفّــزا ونحن نراجع دالة العقل في الحكم والرأي والموقف.

اتعرّى لتلمسي جسدي

هذا ليــس مقطعا شــعريا، إنه توصيــف للعلاقة الملتبســة مع «الحداثة» إذ هي محاولة في تعرية الزمن واللغة، وفي النظــر إلى مفهوم المدينــة بوصفه بيئة تلك الحداثة، وهذا مــا يعني إعــادة مراجعة العلاقة مع «التــراث» عبر علاقته بالزمن والمــكان، وأن النظر

إليه بوصفه عبئا، سيجعلنا نخوض حروب سجالات لا تنتهي، وهذا مــا يجعل لعبة الذهــاب «الأفقي» إلى أقصى «الحداثة» لا يعني تأهيلا سحريا للعقل الثقافي العربي، ولا تبريــرا تداوليا لمفهوم القطيعة وجدواها، فأغلبنــا يعرف أننا مشــتبكون مع التــراث الأصولي والثقافي والمثيولوج­ي، بوصفه «لاوعيا» قامعا، مثلما نحن مُتشّــهون لـ»الحداثة» بوصفها توهما بالخلاص من ذاكرة الصحراء وبداوة العصاب.

هــذه النقائض هــي جوهر المحنة، لاســيما ونحن بلا مؤسســات حقيقية قادرة علــى الصناعة الثقافية الثقيلــة، وبــا «مجتمــع مدنــي» فاعل يملــك طاقة مواجهة «المجتمع السياســي» لذا بات الثقافي لا يملك ســوى المناورة، وحتى «الاحتيال» لإيجاد ما يشــبه الاطمئنانا­ت، ولو كانت مغشوشة..

تعريــة النص قــد تكون خيــارا للمواجهــة، لكنها ليســت رهانا، والخيار هنا مشــبوك بـ»قلة الحيلة» وسط سلســلة من الهيمنات السياســية العربية ذات المرجعيــا­ت الأيديولوج­يــة والعصابيــ­ة والطائفية، التــي دأبت على وضع «المثقف العربي» أمام ما يشــبه المتاهة، فلا هو يملك «خريطة الطريق الســهل» لعبور عقدة الســلطة/ الأفعى كما تقــول الميثولوجي­ا، ولا هو يملك الشــجاعة الجمعية التي تحمي مشــروع عريه!، لــذا بات المثقف يعيش عقــدة «الأضحية» في الداخل، وعقدة «الاغتراب» في الخارج، وكلا الأمرين يتحولان بالتراكــم إلى عوامــل قامعة وطــاردة وعازلة عن أي محتوى يمكن أن يقترحه المثقف.

صيانة العصاب الثقافي

ما يحــدث في واقعنــا العربي من تغــوّل أصولي، ومن اســتيهام للتماهي مع فكرة «الطاغية المســتبد» يكشــف مدى الرثاثة الثقافية التي نعيشــها، وضعف البنى المؤسســية التي لا تملك حــق الصيانة، ولا حق الحــل، ولا حق تســليح المثقــف، إذ يجد هــذا المثقف «المســتوحد» نفســه عاجزا عن المواجهة والتصريح والكشــف، فالســلطة تريد ابتلاعه والســيطرة على جســده ورأيه، وربما توظيفه لخدمة منبرها. والتراث يخرج من جلباب الفقيه الجالس جوار البيت والسرير ليقطع الطريق على أي محاولــة للتلصص على الآخر وتحريمهــا بالحــدِّ والحكــم. والحداثة تتعــرّى مثل أنثى غاوية، لها عيــون «ميدوزا» وباتجــاه التلويح بـ«فيتشــيات» متحجرة، أولها الجسد، وثانيها اللغة، وثالثها الهوية، ورابعهما التاريخ.

الصيانــة الثقافية هنا، قد تبدو وهمــا أيضا، وقد تبدو تعبيرا عن العجز، أو كآبة ســببها فقدان القدرة على التغييــر، فصارت العودة إلــى العصاب وكأنها الاحتماء بحجاب أو ستر، رغم أنها في الجوهر تمثيل للتناقض الذي يعيشــه المثقف العربي، أقصد مثقف «اللاسلطة» المســتريح، والمحمي بالراتب والوظيفة وبالشعارات الكبرى التي تشبه الأفيون. البحث عن خلاص مضــاد، قد يبدو هو الآخر وهــم، لأنّ الظرف الموضوعي غير مناســب، كما يقول الماركسيون، رغم أن الظرف الذاتي جاهز، فهذا المثقف منفعل، وغاضب ومهيّج ومتظاهــر، ويكتب عن تريــاق الثورة مثلما يكتب عــن ترياق الجنس، لكن أي تمــرد على «ظرفه الموضوعي» سيجعله يفقد حياته بطلقة تائهة، أو عبر اختطاف جماعــة مجهولة أو أو.. والنتيجة هي دعوة للخرس.

أمنح جسدي لحظة للطيران

حين كتــب تيري أيغلتون كتابه عــن «أوهام ما بعد الحداثــة» اســتقطبه المثقفــون العــرب للحديث عن لعنة الحداثة، وشــتم مركزيتهــا المرعبة، والبحث عن «اللامركز» بوصفــه رهانا على الحريــة، وعودة إلى ما هو مهمش ومنســي، بمــا فيها طروحــات «ما بعد الكولونيال­يــة» بوصفنا «رعايا» بلدان عاشــت محنة الكولونيال­يــة. لكــن الســؤال الأكثر مــرارة في هذا الســياق، هل أعطتنا هذه المابعد شغفا بأننا صالحون لأن نكون نظيرا للآخر الذي تحررنا منه، وأننا جميعا «أولاد تسعة» كما يقول المثل الشعبي؟

أحســب أن في هذا الســؤال شــيئا من الكوميديا، فالكولونيا­ليــة تركتنــا نعيش على طريقــة فرانس فانون، نعيــش اســتيهاما­ت التابع، نقلــده، نتوهم حمايته وصيانته، وحتى اســتعماره الشفيف، مثلما أن عودتنــا للتمتع بقــوة «اســتعادة الهوية» صارت وبــالا علينا، لأنها تعني مزيدا مــن التطرف والإرهاب والكراهيــ­ة والاســتبد­اد، والصراع الأهلــي وغياب العدالة الاجتماعية.

العودة إلى الشعبويات

التلذذ بنزعة الاستهلاك، والعودة إلى الشعبويات، بما فيها الفلكلور، صارت علامــات للتعبير عن التمرد على المركز العقلاني، يقابل ذلــك الذهاب المتعالي إلى السرد، حيث ســوانح الخيال، وحيث تتعدد مناورات التعاطي مع التاريخ، الــذي يمثل واحدا من المركزيات الكبــرى، وحيث يجد المثقــف في ســردنة العالم من حوله، بما فيها سردنة العلاقة مع الآخر، مجالا للكتابة المفتوحة، ولتقويض بؤر التأليف التي ظل يهيمن عليها الفقيه والمؤرخ والحكواتي.

حديــث الما بعد لا يخــصّ المركزيــا­ت الثقافية، ولا علاقة الأنــا بالآخــر فقط، بــل تعني ايضــا العلاقة بالأيديولو­جيا، التي هي قناع آخــر للمركزية، إذ بات الخطاب السياســي أكثر تفككا، وتشوها، لاسيما بعد انهيار الاتحاد الســوفييت­ي ومنظومته الأيديولوج­ية،

وأحســب أن هذا التقوّض الأفقي امتد ليمسّ الجميع، وليصنع له أنماطا من التفكير التي لا تخرج عن العودة إلى الهويــة، وإلى تداول مفاهيم ملتبســة مثل «الأمة والملة والجماعة» التي ســرعان ما تحولت إلى أشكال عصابية عســيرة التــداول، وغير آمنة فــي مواجهة مشــاريع أكثر غموضا مثل «نهايــة التاريخ» و«صراع الحضارات .»

هذه التحولات كانت أكثر خطورة وأكثر بشــاعة، إذ بدت وكأنها إشــهار بالســيطرة، وبتقزيم الآخر، والعودة إلى اســتعباده وحبسه، لاسيما بعد أحداث الحادي عشــر مــن أيلول/ســبتمبر وبعــد احتلال افغانســتا­ن، واحتلال العــراق، وهو ما أســهم في تحويل البيئة السياسية العربية إلى «مجال عمومي» لتفريخ الرعب والتشظي، بوصفه رعبا صيانيا، وبما فيه رعب الاســتبدا­د، ودعوة لاستعادة سلطة المركز القــديم، ناهيك مــن رعب الأصوليــا­ت التي وضعت عقــدة الهوية والنــص والتاريخ في ســياق صياني احتمى بخطاب كراهية الآخر، الاستعماري والطائفي والديني، وهي كراهيات لا تجد ســوى العنف تعبيرا عنها، ولا تجد في العقل الثقافي العربي، سوى البحث عن متاهات جديدة، أو توريطات ســتدخل حتما من المجالين السياســي والاقتصادي إلــى المجال الثقافي بوصفه المجال الرخو، الذي يبحث دائما عن إشباعات مؤجلة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom