Al-Quds Al-Arabi

«التلبيديّة»... العودة إلى الذات والبحث عن يقين

- من محمد عبد الرحيم:

بدايــة من فكــرة الحداثــة ومــا صاحبها مــن فكر وفن يقيني، يثق ثقة مطلقة بالعقل ـ العقل الأوروبي ـ القادر على تشييد النماذج العليا، والُمثل الحضارية التي يجب اتباعها، إلا أن هــذه الُمثل لم تمنع من قيام حــرب عالمية ثانية، زادت من معاناة الإنســان، فوقف الفنان حائــراً، وقد فقد الثقة، فأســقط العقل، وحل الشك محل اليقين الذي كان، وبدأت إرهاصات مرحلة «ما بعد الحداثة» التي أتاحت للأصوات الهامشــية بعيداً عن مركزية العقــل الأوروبي، أن تتصاعد وتعلــو، ومعهــا أزال الفنان الحــدود بين القوالــب الفنية، وأعلى من شأن التجريب وابتدع أشكالاً تليق بقلقه المزمن. وتزامن صعود تيار ما بعد الحداثة مع صعود الرأسمالية، إلا أنه بعد ســقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، صــار لزاماً تجاوز مرحلة ما بعد الحداثة، لتبدو إرهاصات «بعــد ما بعــد الحداثــة» محاولــة البحــث عن يقــن ذاتي بالأســاس ـ دون يقين العقل الجمعي الأوروبي في مرحلة الحداثــة ـ فمن اليقــن إلى اللايقــن، وصولاً إلــى الإيمان بالذات، كبداية جديدة لمحاولة الفهم والتواصل مع العالم.

بعد ما بعد الحداثة

تعــد «بعد ما بعــد الحداثــة» ظاهرة ثقافيــة جديدة في الفكر الإنســاني، تعود فــي تاريخها إلى العقــد الأخير من القــرن العشــرين، وبدايات القرن الحالــي، مؤكدة الرفض غيــر الصريــح لمــا بعد الحداثــة، إلــى جانب الســعي نحو اســتعادة الأســس الفكرية للحداثــة، التي فقــدت قيمتها مع ما بعــد الحداثة، انطلاقاً من إيمانهــا بفكرة أن الحداثة مشــروع لــم يكتمل بعد، فهي لا تســعى إلــى مركزة طرف معــن، وتــرك آخــر، بقــدر ما تســعى إلــى مركــزة جميع الأطراف. واســتناداً إلى ذلك فهــي تؤكد في جوهرها على الجمع بــن الحداثة ومــا بعد الحداثــة، وبما أنهــا ظاهره ثقافية شــاملة، لا بد أن تنعكس على الفــن، باعتباره جزءاً مــن الواقــع الثقافي والفكــري للمجتمع، وامتدت لتشــمل العمــارة والســينما والفــن والأدب، وتســعى بعــد ما بعد الحداثــة إلى عــودة الاهتمام بالــذات الإنســاني­ة، بدلا من تهكم وسخرية وفوضى ما بعد الحداثة، حتى أنها ـ بعد ما بعد الحداثة ـ جاءت تهذيبا للحداثة وما بعدها.

التلبيدية

نشــأت «التلبيدية» في إنكلترا عام 1999، وهي مجموعة فنية أسسها تشارلز طومســون وبيلي تشيلدش، مع أحد عشر فناناً آخرين. أما اســم الحركة فقد اشتقه طومسون مــن إهانة وجهتهــا له صديقة تشــليدش الفنانة تريســي إيمن، حــن وصفت لوحاته بأنهــا «ملبدة، ملبــدة، ملبدة، لا شــيء فيهــا ســوى الرســم». قاصــدة أن صديقهــا ما زال يرســم على القماش بالفرشــاة والألــوان، ولم يوظف الفيديــو أو التجهيــزا­ت، أو الأداء علــى الطريقــة المعهودة في فــن ما بعــد الحداثة. )أنظر معــن الطائــي وأماني أبو رحمة. الفضاءات القادمة الطريق إليّ بعد ما بعد الحداثة، أروقة للدراســات والترجمة، القاهــرة،2011(. فهو لم يزل )عالــق( في مــا مضى. ومــن هنا جــاءت الفكرة بإنشــاء الحركة للاعتراض والمطالبة بالعودة لفن الحداثة وما قبله ورسم الموضوعات والأشخاص عوضاً عما يفعله الفنانون المفاهيميـ­ـون ـ مــا بعد الحداثيين ـ الذين أخفــوا معالم الفن حسب رأي طومسون.

مانيفستو التلبيدية

أصــدر المؤسســون بيانهــم الأول في العام نفســه من تدشــن حركتهم، والذي انتقدوا فيه بشــدة فنون ما بعد الحداثــة والمفاهيمي­ة، خاصــة التوجه الجديــد للتخلص مــن اللوحة فــي الفنــون. مؤكدين علــى أهمية الفرشــاة واللون للتعبير الإنســاني الصادق للمشــاعر والخبرات، وتضمــن البيــان 20 بنــداً، يمكــن اختصارهــا في بعض الســمات الأساســية.. فقد وصلــت ما بعــد الحداثة، في محاولاتها البلهاء المراهقة لتقليــد مهارة وحرفية وبراعة الفــن الحداثي، إلى طريق مســدود. ومــا كان في يوم من الأيام محرضاً ومثيرا واستكشافيا، كالدادائية مثلاً، غدا بفضل ما بعد الحداثة وسيلة بارعة للاستغلال التجاري. ولذلك تدعــو التلبيدية إلــى فن حي علــى أصعدة الخبرة الإنســاني­ة كافة. وتتــوق إلى توصيــل أفكارها من خلال توظيــف الأصباغ البدائية، وإلى اختبار نفســها بوصفها ليست براعة أو حرفة على الإطلاق.

فاللوحة ما هي إلا وســيلة لاكتشــاف الذات، والفنان الذي لا يرســم، ليس فناناً، فالفنان المقصود ليس مهنياً، بــل هو هــاو محب للفــن. إنه يخاطــر بالرســم. وإذا كان هاجــس الفنــان المفاهيمــ­ي هو الحرفيــة والمهــارة ودقة الصنعة فإن الفنان الملبد هو أن يكون مخطئا على الدوام.

ونســتطيع أن نســتنتج من هذا البيــان أن الحركة في مُجملها ضد ممارســات مــا بعد الحداثة فــي الفن، بداية من القيمة الاســتهلا­كية لفن ما بعــد الحداثة، التي حوّلت العمل الفني إلى )ســلعة( وقبل ذلك حوّلت الفنان نفســه إلى سلعة في سوق كبير، فكان الارتداد إلى حداثة واعية في شــكل جديد تعتمــد اللوحة التقليدية والــروح الفنية، بعيداً عــن ترهات ما بعد الحداثة ورُعاتها من مســتهلكي الفن.

 ??  ?? إيلا جورو العشاء الأخير للملبدين
إيلا جورو العشاء الأخير للملبدين
 ??  ?? الملبدون يرتدون ملابسهم كمهرجين احتجاجا على جائزة تيرنر
الملبدون يرتدون ملابسهم كمهرجين احتجاجا على جائزة تيرنر

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom