Al-Quds Al-Arabi

ثقوب في جدار الخطاب السياسي المصري بشأن أزمة سد النهضة الإثيوبي

- إبراهيم نوار ٭ الثقب الرابع: تجاهل الوفاق العالمي بشأن أزمة المياه ٭ كاتب مصري

المفاوضات يجب أن تنطلق من رؤية شاملة، ومعززة بكل وسائل القوة المادية والمعنوية الكافية لحماية الحق من الاغتصاب

■ يعشــق المصريون النيل عشــق الحياة، وهو عشق أكثــر من مجرد علاقة رومانســية، لأنه يرتبط مباشــرة بقطرة الماء التي تفرق بين الحيــاة والموت، والتي تروي الزرع مصدر الغذاء.. النيــل للمصريين هو الحياة، لأنهم بدونــه يعطشــون، ويجوعــون، وتتصحــر أراضيهم، وتتبخر فرص عملهم، ويمرضون.

وكان هناك اعتقاد لدى المصريين البســطاء بأن النيل ملكهــم وحدهم، لكنهم بــدأوا يدركــون بصعوبة أن نهر النيل ليس ملكا لهم وحدهم، وإنما هم شركاء فيه مع دول أخرى لها حقوق وعليها واجبات متساوية معهم. ومع أن الحكومــة المصرية تتبنى حاليا لهجــة أكثر اعتدالا تجاه

أزمة ســد النهضة، إلا أن خطابها السياسي بشأن الأزمة يعاني من ضعــف الفاعلية، وعدم المصداقية، ويكشــف عددا من الثقوب نعرضها باختصار في ما يلي:

الثقب الأول: القوة والمفاوضات

من الخطأ الاعتقاد بأن حل نزاع ســد النهضة سيكون بالحرب، فالحل في نهاية الأمر ســيأتي بالتفاوض، ولكن من الخطــأ الاعتقاد بــأن المفاوضات هي مجــرد مباراة خطابية مزخرفة بأبيات من الشــعر، ذلك أن المفاوضات يجــب أن تنطلق من رؤية شــاملة، وأن تكون معززة بكل وســائل القوة المادية والمعنوية، الكافيــة لحماية الحق من الاغتصــاب، ولحماية منابع النيــل، لمصلحة كل دول حوض النهر، وليس بغرض العدوان عليها. يقول تاريخ الصراعات في العالم، إن الاســتعدا­د بالقــوة يغني عن اســتخدامه­ا، أما التهاون فإنه يثير شــهوات الطامعين، ويشــجع الآخرين، مهمــا كانوا ضعفاء، علــى اغتصاب الحق، ولا قيمة للقوة إذا كان مداها أقل من نطاق مقومات

بقاء الدولــة وراء حدودها السياســية، ولذلك فإن قوة مصر يجب أن يصل مداها إلى منابع النيل، لحماية مصدر الحيــاة، وتقليل احتمال الضرر، وإظهــار قوة ردع كافية أمام الآخرين.

الثقب الثاني: المياه قضية وجود

ترتبط عملية بناء القــوة اللازمة لحماية مصادر المياه بضرورة إعادة تكييف الرؤية الاستراتيج­ية بشأن نزاع ســد النهضة، فهو ليــس خلافا حدوديــا، وليس تهديدا عســكريا موقوتا ومحدودا بمكان، وإنما هو صراع وجود وبقاء، هو مسألة حياة أو موت على المدى الطويل. ويجب أن نعلم أن السد ســيفرض قيودا دائمة على دورة توزيع المياه بين دول الحوض الشرقي للنيل. وإذا تم بناؤه بدون اتفاق، فإن إثيوبيا ســتكون قد حققت ســابقة تاريخية، يجري القياس عليها عند التفاوض على نظام تشــغيله، وإعادة توزيــع الحصص المائيــة. وســتفرض إثيوبيا شروطها كما تشاء، ولن يكون أمام الآخرين خيارات غير الرضوخ لشــروط الدولة، التي وضعت يدها على المنبع، معتبرة أنها تمارس عملا سياديا داخل حدودها.

الثقب الثالث: المنطق الاستعماري

مــن يعتقد أن قضيــة ســد النهضة بدأت عــام 2011 مخطــئ، فالقضية بدأت تطفو على الســطح منذ اتســاع نطاق موجات الجفــاف والمجاعات في إثيوبيا، خصوصا منذ ثمانينيات القرن الماضي. ويقوم الخطاب السياســي الإثيوبي في تبرير بناء الســد، على ثلاث حجج، الأولى، رفض اتفاقيات المياه التي قامــت بترتيبها بريطانيا منذ بداية القرن العشــرين، لأنها تجاهلــت مصلحة إثيوبيا، وحرمتهــا تماما من أي حصــة في مياه النيــل. والحجة الثانية هــي أنها لم تكن طرفا في تلك الاتفاقيات. والحجة الثالثة، هي حاجة إثيوبيــا إلى الكهرباء لتحقيق التنمية الحضريــة. هــذا الخطــاب يلقى اســتجابة مــن الدول الافريقية والولايات المتحدة، ومــن العالم، الذي يرفض منطق الاتفاقيات الاســتعما­رية الســابقة، خصوصا أن مصر فشــلت في أن تقيم علاقات ودية مــع إثيوبيا، على مدى عقود منذ وفــاة جمال عبد الناصر علــى الأقل. كما فشــلت في أن تدفع بفساد المنطق الإثيوبي، بالتأكيد على أن مركز أزمتها هو حاجتهــا إلى الغذاء، وليس الكهرباء، وإلى التعــاون مع دول الحوض الشــرقي للنيل من أجل تنميــة موارد الميــاه، وتنميــة الزراعــة، وأن مصر على اســتعداد للتعاون مع إثيوبيا في مجالات تنمية الزراعة والطاقة، وأن تعرض عليها حصة في كهرباء السد العالي المقام على نهر النيل.

لدى المجتمــع الدولي في الســنوات الثلاثين الأخيرة رؤية جديدة لقضايا إدارة الموارد المائية المشــتركة، على أســاس أن الأمن المائي للعالم لا يتجــزأ، وأنه في معظم الأحــوال يتحقق من خــال التعاون عبر الحــدود. وقد تجســدت هذه الرؤية في عدد من الوثائق الأساسية، من أهمها استراتيجية الولايات المتحدة للأمن المائي في العالم (2017( وقانــون «المياه للعالم » الصــادر عن الكونغرس الأمريكــي )2014( والقانــون الدولي لتنظيم اســتغلال الموارد المائية المشــتركة الصادر عن الأمم المتحدة )1997) واتفاقية هلســنكي الدولية للمياه )1992(. هذه الوثائق ترســم الحدود الدنيــا المتفق عليها بــن كل دول العالم، بشــأن إدارة الموارد المائية المشــتركة في الاستخداما­ت غيــر الملاحية. ومن المؤســف أن الدول الثــاث المرتبطة بنزاع ســد النهضة، اختارت عدم التوقيــع على القانون الدولي للمجاري المائية الصــادر عن الأمم المتحدة، وهو ما يعني عدم وجود مرجــع قانوني متفق عليه بين الدول المتنازعة. الأكثر من ذلك أن مصر جردت نفســها من مزايا عضوية الاتفاقيات والهياكل المؤسسية الإقليمية المتعلقة بإدارة النيل، وأهمها مبــادرة دول حوض النيل، والهيئة الحكومية المشتركة لتنمية النيل )ايجاد(.

الثقب الخامس: تجاهل التعاون الإقليمي

كمــا أن الميــاه هي قضيــة حيــاة أو موت بالنســبة للمصريــن، فإنهــا كذلــك أيضــا بالنســبة للإثيوبيين والســودان­يين. لكن حساســية القضية بالنســبة لمصر، على وجه الخصوص، هي أشــد خطورة، لأن النيل يغذي مصر بحوالــي 95٪ من المياه العذبــة المتجددة، في حين أن إثيوبيا والســودان يملكان مــوارد أخرى متنوعة من المياه العذبــة المتجددة القابلة للتنمية. وفي إطار القواعد والمعاييــ­ر التي نص عليها القانــون الدولي لمياه الأنهار، التي أخــذت بهــا مبــادرة دول حوض النيــل، وإعلان المبادئ الموقع فــي الخرطوم عام 2015 فإن الاســتخدا­م المنصف والعــادل وعدم الإضــرار بالأطــراف الأخرى، وتنميــة موارد النيــل لصالح أعضائه، مــع مراعاة مدى وجود مصادر أخــرى للمياه، يعطي لمصر الحق، في طلب الحصول على نســبة كافية من متوسط التدفق السنوي للمياه في النهر، ســواء من الحوض الشرقي للنيل أو من الحوض الجنوبي، كما يعطيها الحق في نســبة عادلة من الوفورات التي يمكن تحقيقها من زيادة كفاءة اســتخدام موارد النيــل. لكن تطبيق هذه الرؤية يحتاج أولا إلى ثقة متبادلة، وإلى حســن النوايا، وإلى الاقتناع بأن التعاون المشترك هو خير وأبقى من النزاع، وبشرط أن تكون مصر شريكا في مشروعات تنمية موارد المياه، ولذلك فإن مصر هي صاحب مصلحة أساســية في إقامة وتعزيز التعاون الإقليمــي، خصوصا في مجالات الطاقــة والمياه، وهو ما عجزت عن تقديمه في خطابها السياســي بشأن أزمة سد النهضة.

الثقب السادس: الفشل في إثبات الضرر

ارتكزت الشــكوى المقدمة إلى مجلس الأمن في يونيو من العام الماضي على القول بأن ملء ســد النهضة، بدون اتفاق، يضر بمصر ضررا جســيما، ويهدد الأمن والســلم الدوليــن. لكن العالم لم يشــهد علامات تــدل على ذلك بعد الملء الأول، الذي تم وســط صراخ مصر والسودان، ولذلك فإن المجلس لم يأخذ هذا الدفع على محمل الجد في الشــكوى الجديدة هذا العام للاحتجاج على الملء الثاني للسد.

واذا كان مصــر والســودان يعتقدان بأن إقامة ســد النهضة واتمام الملء الأول والبدء فــي الملء الثاني بغير اتفــاق قد أصابهما بأضرار جســيمة، فإن هــذا يعطيهما مبررا قويا للانســحاب من الاتفاق الإطاري الثلاثي لعام 2015، على أســاس أن إثيوبيا قد خالفت الاتفاق، لكن أيا من مصر أو السودان لم يلوح أبدا بالانسحاب من الاتفاق الإطــاري، ولم يقدم ما يثبت أنه أصيب بأضرار جســيمة بسبب السد.

الثقب السابع: فقدان المصداقية

يمكن القــول بدون تردد إن الخطاب السياســي الذي تتبناه مصر والسودان تجاه النزاع مع إثيوبيا بخصوص ســد النهضة، قد فقــد مصداقيته، وأصبح عــديم القيمة تقريبا. ويبــدو أن التكييف الموضوعي للأزمة بواســطة مجلس الأمــن والمنظمــا­ت الدولية مثــل، برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يتجــه إلى اعتبارها مجــرد أزمة تقنية، يمكن حلها على مســتوى الخبراء بشــرط وجود الإرادة السياســية، وهو ما أكدت عليه المناقشــا­ت في الجلســة الأخيرة لمجلس الأمن، التي كرر فيها المتحدثون، باستثناء مصر والســودان، القول إن 90٪ مــن قضايا الخلاف تم حلها، وإن القضايا العالقــة تتمثل في الاتفاق على وضع آلية لتســوية النزاعات، ونظام لإدارة الســد في أوقات الجفاف الممتد، إضافة إلى طبيعة الاتفاق وهل يكون فنيا أم قانونيا أم سياسيا.

الثقب الثامن: الخلط بين الموارد وكفاءة الاستخدام

يعكس الخطاب السياســي المصري بشــأن أزمة ســد النهضــة ارتباكا شــديدا، بســبب الخلط بــن قضيتين مختلفتين، الأولى هي نصيب مصــر من مياه النيل، وهي قضية يقررهــا اتفاق مشــترك بين مصــر ودول حوض النيل. والثانية هي كفاءة استخدام الموارد المائية المتاحة في مصر، من خلال إجــراءات مثل تبطين الترع، وتطبيق أســاليب الري الحديثة، وهي مســؤولية تقع على عاتق الحكومة المصرية وحدها، ولا شــأن لــدول الحوض بها، إلا إذا تضمنت إقامة منشــآت على النيل، أو تســببت في تغيير مجــراه، أو التأثير في التدفق الطبيعي لمياهه. وقد وقع في هذا الخلط كل من وزيري الخارجية والري. وقال الوزيران في تصريحات رســمية في أكثر من مناسبة، إن مصر لن تتأثر من إجراءات الملء الثاني لسد النهضة. فإذا كان الأمر كذلك، فلمــاذا ذهب وزير الخارجية إلى مجلس الأمن؟ وعلى أي أســاس تقول مصر إن الملء الثاني يهدد الأمن والسلم الدوليين في المنطقة؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom