Al-Quds Al-Arabi

القهر المضاعف وراء القضبان

- محمد كريشان٭ ٭ كاتب وإعلامي تونسي

■ ما أقســى وأمرّ أن يموت أقــرب الناس إليك وأنــت وراء القضبــان لا حول لــك ولا قوة. تبكي بحرقة بل وقــد تنتحب بلوعة المقهور إذا لم تتمكن حتى من تقبيل هذا العزيز الذي رحل.

الأسيرة الفلســطين­ية خالدة جرار القيادية في الجبهة الشــعبية لتحرير فلســطين فقدت مؤخرا ابنتها ســهى وقبلها والدها وهي رهــن الاعتقال. حكم عليها بالســجن لعامين في أكتوبر/ تشــرين الأول 2019 ويفتــرض أن يتــم الإفــراج عنها في أيلول/ ســبتمبر المقبل، لكن لا أحــد يدري إن كان سيســمح لها بحضور جنازة ابنتهــا واحتضانها للمرة الأخيرة قبل أن توارى الثرى.

الكل يطالب الآن بإطلاق ســراحها حتى تتمكن من ذلــك لكن الاحتلال لا يبدو في وارد أن يســمح وهــو الذي لــم يتردد فــي قمع وقفة أمــام معتقل «عوفر» غربي مدينة رام الله وسط الضفة الغربية كانت تطالب بإطلاق ســراح جرار. وإذا ما تمسك الاحتــال بالرفــض فــإن أحدهم وصــل إلى حد الدعوة إلى عدم دفن الابنة سهى حتى خروج أمها خالدة، وإن طال المدة.

قبــل أســابيع توفيــت المعارضــة والحقوقية الإماراتية آلاء الصديق في حادث سير في بريطانيا وهي التي عرفت بدفاعها عن المعتقلين في الإمارات ومن بينهم والدهــا محمد عبد الــرزاق الصديق، الذي اعتقل فــي عام 2013 وحكم عليه بالســجن لعشر ســنوات، ومعه عشــرات آخرون اتهمتهم الحكومة بمحاولــة انقلاب في محاكمــة وصفتها منظمات حقوقية دولية بغير العادلة.

لا يمكن تخيــل لوعة هذا الأب فــي فقدان ابنته في عمر الزهور، المديرة التنفيذية لمنظمة «القسط» لحقوق الإنسان المعنية بمعتقلي الرأي في الخليج. لم يكن من الوارد الحديث عن السماح له بالخروج لحضور جنــازة فلذة كبده لأن الفقيدة، التي كانت تعيش في بريطانيا، دفنت أصلا في قطر حيث تقيم الأســرة فلا مكان لها في وطنها حتى تحت التراب، والله وحده أعلم متــى يمكن لهذا الوالد المكلوم أن يحظى، على الأقل، بالوقوف على قبر ابنته.

الصحافي المصري محمود حســن، مراسل قناة «الجزيرة» الســابق في القاهرة الذي اعتقل أثناء زيــارة لعائلته في مصر نهاية عــام 2016 وظل في السجن دون تهمة محددة ولا محاكمة لزهاء الأربع ســنوات، قبل أن يتم إطلاق ســراحه، مات والده وهو في الســجن، كمــا أنه لم يتمكــن طوال هذه الفترة مــن رؤيته بعد أن أقعد المــرض هذا الفلاح السبعيني إثر إصابته بجلطة في الدماغ مطلع عام 2018، قبــل أن تتوالى إصاباتــه بجلطات متتالية قضت عليه في النهاية.

محمود كان «محظوظا» إذ سمحت له السلطات

بحضور الجنازة حتى وإن جاءها برفقة ســجانه المربوط معه فــي القيد الحديــدي حيث تمكن من النزول إلى حيــث يرقد والده في قبره، ويحتضنه باكيا، راسما على جبينه قبلة كان يمنيّ النفس بها النفس حين كان على فراش مرضه الطويل.

تيسير علوّني مراســل قناة «الجزيرة» الشهير في أفغانســتا­ن الذي حكم عليه في إســبانيا عام 2005 بسبع ســنوات سجنا بتهم تتعلق بالإرهاب، توفيت والدته في موطنه سوريا بعد أربع أشهر من هذا الحكم، ولم يتمكن طبعا من توديعها، ليس فقط لأنه في السجن الانفرادي وقتها بل لأنه ممنوع من دخــول بلده. وبعد أن خرج تيســير من الســجن وأخضع للإقامة الجبرية في إســبانيا، برّأته لاحقا المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان من التهم الظالمة التي لحقت به، وتمكن من اســتعادة حريته، ولكن من يعيد له حضن أمه لتعانقه حية أو ميتة.

كل من ذكرنا لم تتعلــق بهم تهم حق عام أو تهم مخلة بالشــرف بل هم ســجناء سياسيون دخلوا سجون الاحتلال أو سجون بلدهم أو سجون البلد الذي لجأوا إليه وحصلوا على جنســيته. تعددت الظروف والســياقا­ت ولكنهم جميعا وضعوا وراء القضبان لأنشطة مختلفة تتعلق بعملهم أو آرائهم وتحركاتهم السياســية التي لا تُجــرّم عادة إلا في الدول المستبدة.

ليس الهدف مما ســبق مقارنة ما يمكن أن يتعرض له سجين النضال أو الرأي فــي ســجون يفتــرض ألا يجمع بينها أي رابط مشــترك، وإنمــا الهدف هو الاشــارة إلى عمق المرارات التي يخلفها وضع يجد فيه الســجين نفســه في وضع لا يملك فيه ســوى الدمــوع للتعبير عــن فاجعة يقــف أمامها عاجزا بالكامل حتى عن مجرد توديع فلذة كبده أو والديه بسبب حكم جائر يبقيه وراء القضبان. هنا يمتزج قهر السجن ظلما بقهر ما سببه ذلك لاحقا من مآس شخصية.

صحيح أن السياســي أو المناضل أو الصحافي عليه أن يتحمّل تبعــات اختياراته في هذه الحياة لكــن ذلــك لا يقلل في شــيء من ضــرورة انتباه الســلطات في الدول المشــار إليها، وفــي غيرها بلا شــك، إلى النــدوب الغائرة التــي تتركها هذه الممارســا­ت، ليس في نفســية من مــرّ بهذه المحنة القاسية جدا، وإنما أيضا لدى عائلاتهم ومعارفهم والرأي العام وهــذا كله من الصعــب ألا تكون له انعكاســات­ه وافرازاته المختلفة الخطيرة اليوم أو غدا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom