Al-Quds Al-Arabi

صوت الاحتجاج... وجدلية التشكيل السردي

رواية «ضمير المتكلم» لفيصل الأحمر

- ٭ كاتب أردني فلسطيني

■ فــي روايتــه الجديــدة «ضميــر المتكلم» - الصادرة عــن دار ميم 2021 - يســعى الأكاديمي والروائــي الجزائــري فيصل الأحمــر إلى تقديم ســردية تحفل بأصــوات المهمشــن والمقصيين، ضمن تشكيل ســردي كنائي، حيث تشمل الرؤية السردية الإنســان العربي أينما وجد، على الرغم مــن أن إحداثية المكان مؤطــرة بالجزائر، والمكان هنا لا يعني ســوى هــذا الرقعــة العربية، حيث تختزل حيوات شــخصياته - التي تتقاسم السرد بضميــر المتكلــم- دلالات قوامهــا التعبيــر عن الإخفاقات لا على المســتوى الذاتي فحســب، إنما على المســتوى الجمعي بما في ذلــك الأنا العربية التي خرجت من عباءة الاســتعما­ر، بيــد أنها ما زالت تخضــع لاســتعمار آخر يتحــدد بالنخب الوطنية أو «الكومبــرا­دور» حيث يبقى ابن البلد غريبــاً مهزوماً مقهــوراً، بالتجاور مــع الهيمنة الأيديولوج­يــة التي تقصي الآخــر بغض النظر عن تمظهرهــا، في حــن تبقى معانــي الحرية والديمقراط­ية، والعدالة مفردات تنأى بنفســها عــن العالم العربــي، الذي علــى الرغم من أنه ســعى إلى تجاوز هذه الإخفاقات عبر ما يعرف بالربيع العربي، إلا أنه ما زال يعاني من إنتاج النخــب والأيديولو­جيات التي لا تســعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة على حســاب الشعوب فحسب، وإنما على حساب مصلحة الوطن العليا.

يشــكل الانكســار أحد مســتويات الرواية، إذ إن معظــم شــخصيات الرواية ينخرط في ســرد معمق يتخذ فــي مظهره المبدئي حــواراً مع إحدى الشخصيات، ونعني «الشــيخ» وعلى ما يبدو فإن هذه الشــخصية تحتمل الكثير من التأويل، حيث لا نعلم مرجعيتها ســوى أنها مســتمعة لا تشارك في الحوار، أو ربما هي شخصية استعارية لوجود متعال، يتلقى هذا البوح من لدن هذه الشخصيات، التي تنخــرط في حوار معــه جرياً على ما شــاع في بعض الآثــار الموروثة، بوصفهــا مجالاً للتلقي بمعزل عــن التفاعل، لكــن هذا يرتهــن إلى حوار داخلي معمق حقيقة، يمور في وعي الشخصية، إذ تتقاسم المتن الســردي العام ضمن صيغة تناوب، وهكذا تتخذ الحــوارات التي تتــوزع على فصول تحمــل أســماء: الليلة الأولــى، والليلــة الثانية، وهكذا... وكأننا نســتطلع أثراً حكائياً موروثاً على مســتوى الإفادة من التقنية، التي وسمت حكايات ألف ليلــة وليلة، والمقامات، والإمتاع والمؤانســ­ة، ولاســيما على مســتوى التشــكيل الخارجي، أو هيكلية الســرد، لكن مع مغادرة المســتوى اللغوي المجلوب من أثر المــوروث، حيث تعتمد الرواية لغة معاصرة، لكنها أيضاً تبدو على قدر جلي قائم على التخفف مــن النماذج البلاغية، واللغة المســكونة بشعرية الســرد، كونها تحيل في وعي المتكلم إلى شــخصيات تجنح للتعبير بحريــة مطلقة، فتأخذ اللغة مســتويات، ربما تبدو لنا في بعض الأحيان متشــابهة، على الرغم من اختلاف المرجعيات التي تتباين في مســتواها، ورؤاها، وهنا يبدو التحدي على مســتوى تكوين اللغة أو الحوار على لســان كل شــخصية، من حيث القدرة علــى تكوين تفرد خاص بتكوين كل شــخصية تبعاً لمرجعيتها، لكن القاسم المشترك بين الشخصيات هيمنة لغة الأسى والإحباط، وفي بعض الأحيان تكاد تنزلق إلى سرد محتشد بالهذيان والسخرية والمرارة التي تميز لغة الروايــة؛ كما صيغ التهكم التي تعــدّ جزءاً من هذا التكوين الســردي، الذي ربما يهمين على القارئ،

و يد فعــه إلى تلمــس مصداقية مــا بين ثنايا تلك الحوارات، التي تمتد في بعض الأحيان إلى حد الاستطراد.

محلية الخطاب... اتساع الرؤية

تشــكل الجزائر متناً محورياً في مجمل المرويات التي تتقاسمها الشــخصيات، وفيها نرى الجزائر ضمن أزمنة مختلفــة تحكمها تقنية الاســترجا­ع، والتداعــي، أو ذلك الشــرح المتصــل بحقب زمنية سابقة، ونعني الاســتعما­ر، وحركة التحرر، ومن ثم ظهــور تلــك النخب ليعلــق القارئ فــي فكرة قوامها الأثر الذي تركه الاســتعما­ر، بوصفه صيغة معمقة في مجمل الســرد، لكن هــذه الحقبة باتت عامــاً من عوامل بناء الصــورة، أو الأوضاع التي آلــت إليها الجزائر بعد الاســتعما­ر، ولاســيما مع وجود النخــب الوطنيــة، وهنا ثمــة تركيز على الفساد، والجاسوســ­ية والنخب والحراك الأخير، فنرى حفراً عميقاً على مســتوى تكوين الشخصية الجزائريــ­ة، التي تتقاســم وعــي التعبيــر عنها الشخصيات المتعددة، وبين ثنايا هذا السرد تتعإلى نبرات التهكم والســخرية، والتأمل، وبيان طغيان الأحلام الزائفــة ضمن قطاعات ســردية تتقاطع مع نموذج ســيري ذاتي من لدن المؤلف، فالشغف الواضح بالسينما يبدو صيغة للتعالي على الواقع، كما التصوير، والحشيش بوصفهما صيغا تعبر عن انسحاق الإنسان، بالتوازي مع بحث عمّ فضاءات أكثر رحابة وحقيقية.

تُبنى الكثير من المواقف علــى الأحداث المتصلة باليومــي والمألــوف، لكنهــا تبقى في مجــال نقد الســلطة، وهنا تســتعيد الرواية ضمن العديد من المواقف نتائج هذا الفعل، وتداعياته على الأنا، لكن النص يبقى مرهوناً بالفعل الشاهد الذي تتقاسمه حيوات السرد، ولكل شخصية منظومة من الوعي لإدراك محطيها، ولهــذا نقرأ في مســتهل الرواية التوصيف، عبر رؤيــة التاريخ التي هي عبارة عن حلقات مستمرة من الطوارئ، ما يذكرنا بما جاء في رواية جورج أوريــل «1984» عن إدراك الاضطهاد، الــذي لا تدركــه الشــعوب إلا إذا قارنــت أوضاعها بأوضاع أخرى، حينها ســتتمكن من الثورة، وهنا نلمح نقــدا لاذعا للواقع، فيصبح نفي الاســتقرا­ر هــو القاعدة، وهنا نرى التجانف عن المعنى الطبيعي للحضور في أوطــان تعيش في الطــارئ، فلا جرم أن تتخذ أســماء أعلام الأشــخاص تكويناتها الدلالية، تبعاً لتكوين الشخصية، وتموضعها في الســياقات الخاصة بها، لكــن يبقى فعل التعويــض جزءاً من محاولات الشــخصيات لتجــاوز واقعهــا، وهنا نــرى ســرداً يتعلق بالســينما، والإغراق بالحديث عــن الأفلام، والتصويــر، والحشــيش، في حــن أن الحب والعلاقات تبدو مبتورة لا تتمخض عن فعل. ولعل هــذا التكوين الضبابي والمغلق يشــي بمقصدية الرواية التي ترتهــن للنموذج الأفقي في البنــاء، وربما هذا يربك تلقــي القارئ الذي يواجه بناء مغايــراً حيث التخفــف من الحبكة والفعل السردي المركزي، لكن الرواية تسعى إلى بناء مدارات مركزها الســرد بضمير المتكلم الذي يعلن عن رغبــة عميقة في الغضــب والاحتجاج والإعلان عما يكمن في داخل الإنســان، وبين ثنايا هذه الخطابــات المتوازية، ثمة إجراءات وأســئلة تتجاوز السياســي والاجتماعـ­ـي، لتتصل بما هو فلسفي، لكن ضمن بناء متعاضد لقراءة هذا الواقع، الذي يختزله هذا المقطع: «الرياضيــا­ت يــا الشــيخ أكذوبــة، يعلموننا الحســاب في عالم مليء بالجبرية لا بالجبر، مليء بغيــاب العدالة لا بالمعادلات المســتوية… عالم كل الأطراف فيه غير متساوية الطرفين، وكل هندسته تؤدي إلى الحصول على علامة ســيئة في امتحان الحياة. علينا أن نوقف الرياضيات ونتعلم التاريخ أولا.. ونتعلم الخيال.. الخيال أهم من الحســابات الدقيقــة، دقة الحســاب تأتــي بالظلــم والتنمر والاستعمار. الخيال يســتعيد الأطفال الذين ناموا داخلنــا ويحيل علــى لذة اللعب المشــترك، هذا ما أوصلتني إليه تجربتي في إقامة ألف حســاب لألف ألف شخص من سادة البلاد.» تغــرق الروايــة فــي حواريــة نقديــة تطال مستويات: الواقع، التعليم، والاقتصاد، والفساد، الجاسوســي­ة، وأنظمــة المراقبــة والعقــاب، كما التعريج على قضايا تتصل بالأدب والفن والجمال والهجرة والاســتعم­ار، والديمقراط­يــة، والثورة الرقمية، وما تمخض عن كل ما مسبق من وعي جديد لدى الشــعوب العربية، التي أدركت أنها تعيش في أكذوبة صنعها المستعمر أولاً، ومن ثم الأنظمة، وهذا يبدو نموذجا يســتغرق الكثير من المتن الســردي، لكن ثمة لغــة تبدو فــي بعض الأحيان مباشــرة على لســان الشــخصيات: «الذي يطمع في جنة لا يدخلها الكفار والملاحدة والغربيون عموما… فجأة اكتشــف العرب أن الجنة موجودة في كل مكان، إلا في بلدانهم المليئــة بالإيمان والفارغــة من الأمن. واكتشــفوا أن العالم كله مختلف عن بلدانهم حيث ينتشر الكرم وتغيب الكرامة، العالم الغربي الكافر ســيئ النوايا الذي يشرب الخمر فيذهب إلى النار، رغم أن الناس فيه نظيفــون طيبون متعاونون… كانت الصدمة كبيرة والعرب يكتشــفون عن طريق الإنترنت أن العالم الغربي والشرقي )غير المسلم( أجمل بكثير مما يصور.» ربما ينطوي النص السابق على جملة مضمرات تسكن لاوعي الإنسان العربي، الذي بات في مرحلة

ما بعد الاستقلال مرتهنا لحلم الهجرة والبحث عن الكرامة التي سُــلبت منه على مدار عقود، ويكاد لا يسلم جزء من المشهد الجديد من النقد، الذي يشمل متغيرات الواقع الجديد، بدءاً من العشرية الأخيرة من القرن العشرين وصولاً إلى هذه اللحظة؛ ولهذا يبدو أن فكرة الكتابة التي يُكنى عنها بالســينار­يو بوصفها إشــارة ســردية، مــا هــي إلا إحالة إلى التاريــخ، كما مركزية الخطاب، وقــدرة اللغة على أن تختزل كآبة العالــم. إنها محاولات لنفي تزييف الوعي القائم، وهنا نقرأ فعل الاتصال العضوي بين مرحلتين: الاستعمار، والاستقلال:

«عملت على الســيناري­و بتثاقل كبير. كنت أشعر يا الشــيخ بأنني أكذب. كنت أزيف التاريخ، لكنني كنت مجبراً كما تعلم. السلطة السياسية المستحكمة في البلاد آنذاك كانت أقوى من كل شيء رأيناه في تاريخنا. لقد ورثت من إدارة المســتعمر الفرنســي شيئين: القسوة الشــديدة على البسطاء، والخبث الشــديد الذي إذا ما خالط غياب أي رادع قانوني، أو أي عين حارســة من الخارج أصبح يعمل حسب أبشع الطرق الاســتبدا­دية. كنا في زمن الأخ الأكبر بأتم معنى الكلمة».

أفق الخلاص

تحتمل الرؤية الســردية إلى حد ما وجود الأمل، نتيجة الحــراك الأخير في الجزائر، إذ تبدو الكتابة تجســديا لوعي حقيقي بهــا، ولهذا نــرى في تلك الكراســات التي تمنــح لحبيبته «زهــور» امتداداً طبيعيــاً يحتمي بالتفــاؤل والاتحاد بــن الوطن والمرأة، إذ يمكن أن يحدث تغييــراً، على الرغم من أن البعض شــرع للبحث عن عالم آخر عبر الســفر والهجرة، وهنا لا يمكن إلا أن نتوافق على أن الحلم في الهجرة يبــدو مرضاً مزمناً أصــاب المجتمعات التي فقدت أمل الازدهار، الذي لم يتحقق بعد جلاء الاســتعما­ر، ومع قدوم النخــب الوطنية الحاكمة: «ســألتني زهور: «ماذا كتبت عني في كراســاتك؟ قلت لها: أعطيك نسخة، كتبت كل شيء. ستصابين بالهلــع لو قرأت هذه الكراســات. الحــراك مذكور بصفاته كلها في كراساتي. تصوري. أنت والحراك ظللتما حلمي منــذ وقت كبير. كنــت أرى الثورات الشــعبية تنفجر هنا وهنالك، وأقول دور الجزائر آت لا محالة .»

فــي الختــام، يمكن أن نخلــص إلــى أن رواية «ضمير المتكلم» تُعنى في المقــام الأول بالبحث عن مركزية التعبير، أي ذلك الســعي لأن تكون صيغة للإنابة. إنهــا محاولة لاســتلاب منصة الحكي من مركزية هيمنة خطاب الســلطة، ولهذا يتخذ ضمير المتكلم صيغة متعالية، حيث يعدّ شــكلاً من أشكال الاقتحام، والاحتجاج السردي، وإن اتخذ في بعض الأحيان تشكيلاً ســردياً مغايراً، إذ تحتكم الرواية إلى حبكات غير منجــزة ظاهريــاً، أو تعتمد المبدأ التجاوري بوضوح في تكوينهــا الفني، وهذا ربما يبدد إلى حد ما خطيــة الحبكة، غير أن ذلك لا يمنع من ملاحظة تحقق النســقين العضوي والموضوعي في مجمل العمل.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom