Al-Quds Al-Arabi

نوسترادامو­س العملات المشفرة

نعيمة عبد الجواد ٭

- ٭ كاتبة مصرية

■ مع مســتهل كل عــام جديد، يطــلّ علينا العالــم بنبوءات المنجمين الذين يتوقعون ما سوف يلمّ بالأرض وأهلها من أحداث، وعلى الرغم من أن أغلب هذه التوقعات مغلوطة، لكن هناك بعض المنجمين الذين حظوا بشــهرة عالمية واســعة؛ لما لهم من نبوءات صادقة تتحقق بأكملها بشكل يذهل العالم.

ومن أشــهر أصحاب النبوءات على الإطلاق المنجم الفرنســي ميشيل دو نوستردام المشهور باســمه اللاتيني نوسترادامو­س

Nostradamu­s. ولــد نوســترادا­موس في القرن الســادس عشــر، واختلف المؤرخون في تحديد تاريــخ ميلاده ووفاته )14 أو 21 ديســمبر/كانون الأول 1503‬ – ‪1 أو 2 يوليو/تمــوز 1566) وهو منجــم وطبيب وعرَّاف فرنســي شــهير، كان يعمل عطارا، وعندما التحــق بكلية الطب، طُرِد منها لأن لوائح كلية الطب تمنع العطاريــن من الالتحاق بها، وعندما ضرب الوباء فرنســا للمرة الثانية، كافح جنبا إلى جنب مع الأطباء.

واكتســب نوسترادامو­س شــهرته العالمية الواسعة من خلال كتابه الُمســمى بـ»النبؤات» الذي تم نشــره لأول مرة عام 1555. ويضم الكتاب 942 رباعية شــعرية، يُزْعَم أنها تتنبأ بالمســتقب­ل. وتحتوي الرباعيات على أحــداث وتواريخ ومعلومات نصوصها غامضة، ويشــير المهتمون بالتنجيم أنها تتوقع الأحداث المقبلة؛ لدرجة أنه أُشيع أن كتاب «النبؤات» أشار إلى أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وما تم فيه من ضرب برجي التجــارة العالمية، بل إنه تنبأ بجائحة كورونــا. إلا أن هناك فريقا آخر يعتقــد أنه يتم تحريف نصوص الكتاب لتتماشــى والأحداث الجاريــة، أو أن المترجمين أخطأوا فــي تأويله أو ترجمته، مما يجعلــه مُلغِزا، ويفتح مجالا لتأويل نبوءاته حسب الأهواء.

وفي ما يبدو أن نوسترادموس العصر القديم الذي يتم إثبات زيفه، لم يستطع أن يماري ما فعله نوسترادموس العالم الُمرقمن في العصر الحديث. ونوســتراد­اموس العصر الحديث هو جون مكافي رائد الأمن الســيبران­ي. ومن الجدير بالذكر أن مكافي بدأ حياته مبرمجاً في معهد ناسا لأبحاث الفضاء في مدينة نيويورك من 1968 وحتى عام 1970. وبعدها عمل في شــركة زيروكس، ثم شــركة لوكيد للأسلحة. وفي شــركة لوكيد عَلِم عن الفيروسات الرقمية ثــم تعلَّم كيفية مكافحتها. ولم يلبث في ثمانينيات القرن الماضي أن افتتح شــركة مكافي للأمن الســيبران­ي، ثم أطلق أول برنامج تجاري لمكافحة الفيروســا­ت عام 1987 وسماه «مكافي» الذي اكتسب شــهرة عالمية واســعة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وعلــى الرغم من الأرباح العالمية التي كان يحققها هذا البرنامج، إلا أن مكافي قام ببيع الشــركة بثمن بخس لشركة إنتــل للبرمجيــا­ت Intel. والمدهش أنه عندما غيرت الشــركة اسم برامجه ونســبتها إلى نفسها، شكرها، ثم أضاف: «لقد قمت بتحرير اسمي من الاقتران بأسوأ برنامج سوفت وير على سطح الكوكب».

ولم يلبث أن حول مكافي تركيزه ونشاطه إلى العملات المشفرة بسبب خبرته الواســعة في البرمجة والخوارزمي­ات المستخدمة في نظام سلســلة الكتل ‪Block Chain‬ الــذي من خلاله يمكن تعدين عملات مشــفرة. ومن ثــمَّ، صار المدير التنفيذي لشــركة لوكســكور Luxcore التي تقدم حلولا للمســتثمر­ين في مجال العملات الرقمية وتوجههم للعملات الأكثر ربحية، لكنه اســتقال منها بعد فترة، بعد أن اســتطاع أن يجذب إليه أنظار العالم، فقد اســتطاع أن يحيط نفســه بهالة كبرى جعلته نوســترادا­موس للعملات المشــفرة، التي تحرك تنبؤاته صعودها وهبوطها، تماما حســب توقعاته. على سبيل المثال، في شــهر يوليو 2017، وصل ســعر البيتكويــ­ن 2300 دولار، لكنه نشــر تغريــدة يتوقع فيها تضاعف ســعره. وبالفعل وصل ســعره إلى 5000 دولار. ثم أخذ يتوقع تضاعف ســعره، إلــى أن وصل ســعر البيتكوين إلى 17 ألف دولار، أي أن فــي ذاك الوقت، صارت لدى مكافي القدرة على التحكم في صعود وهبوط العمــات الرقمية بأكملها بمجرد كلمة أو تغريدة؛ تماما كما يفعل إيلون ماســك حاليا. فعندما يريد رفع ســعر أي عملة، كان مكافي يتحدث عنها بشكل إيجابي، فيهرول المستثمرون إلى شرائها، ومن ثمَّ يرتفع سعرها على الرغم من أنه لم يكن لها أي قيمة.

والتأثيــر الكبير لجون مكافــي لفت إليه أنظار المســتثمر­ين، وحاولوا الاستفادة من قدراته للتحكم في سوق العملات المشفرة، فكان يتواصل معه المســتثمر­ون للترويج لعملات مغمورة لا قيمة لها، مقابل نســبة مــن الأرباح. ولنجاحه، حدد مكافي تســعيرة باهظة عــن كل تغريدة يروج فيها لأحد العمــات الرقمية، وهذا نوع من أشــهر أنواع الاحتيال في ســوق المال المســمى بـ»الضخ والتفريــغ» ‪Pump and Dump‬ ، وهــي طريقــة لاجتــذاب المستثمرين للإقبال على شراء إحدى العملات، بالترويج لها على أنها فرصة ينبغي عدم إهمالها، فيحدث إقبال كبير على الســهم أو العملة، فيزيد سعرها.

ومن جراء عمليات الاحتيال تلك، تخطت أرباح جون مكافي 13 مليون دولار، لكن في مســاره هذا، صار له أعداء من جهات عدة، وإن اتفقــوا في رغبتهم في القضاء عليه، فعلى ســبيل المثال، في يوليو 2018، تعرض مكافي لمحاولة اغتيال عن طريق وضع ســم له، لكنه اســتطاع النجاة، وعلى ســرير المستشفى نشر تغريدة يؤكد فيها أنه من الصعب الخلاص منه، وأنه يعلم جيدا خصومه، فمن الأحرى الابتعاد عنه.

وبسبب انخراطه في أعمال مشــبوهة والتهرب من الضرائب، رُفِعَــت عليــه قضايا كثيــرة من عــدة ولايات، بســبب التهرب الضريبي، والاحتيال فــي مجال العملات الرقميــة. نجح مكافي فــي الهروب من الولايات المتحدة، وعــاش على متن يخت عملاق مع زوجتــه وكلابه وموظفيه، وأخذ يجول في بحر الكاريبي، إلى أن قرر الهــروب نهائيا من الولايات المتحــدة، لكن، قبضت عليه الســلطات البحرية الإســباني­ة في أوائل عام 2020 وهو يحاول الهرب من الولايات المتحدة إلى إســطنبول فــي تركيا عن طريق إســبانيا. وكما توقع نوســترادا­موس موعد موته، توقع مكافي اغتياله في الســجن قبيل ترحيله للولايات المتحدة، فنقش وشما على ذراعه كتب عليه كلمة «قُتل بالمخدر» Whacked، ثم نشــر بعدها تغريدة تحتوي على صورة الوشم على ذراعه، وكتب: «في حالة انتحاري، إعلموا أني لم أقم بذلــك، بل تم اغتيالي بالمخدر. تحققوا مما هو مكتوب علــى ذراعي». وفــي 23 يونيو/حزيران 2021، وُجِدَ مكافي مشــنوقًا فــي زنزانته. وأكد الطب الشــرعي ومحاميه أنه انتحر. وبعد دراسة حالته تشريحيا، وُجِدَت كميات كبيرة من المخدر في جسده.

والغريــب أنه بعــد موته مباشــرة، نزلت على حســابه على الإنســتغر­ام صورة لا تحتوي إلا على الحرف Q، ولم يعرف أحد من استطاع أن يخترق حساب مكافي بعد موته، أو إلى ماذا ترمز، وكذلك لم ينقب أحدهم عن ذلك.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom