Al-Quds Al-Arabi

كوبا: جزيرة العجيب والتاريخ الفارق

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ النظــام الحاكم اليوم في كوبــا، أي ذاك الذي خلّفه فيدل كاسترو )1926 ـ 2016( ولم يفلح ورثته في تطويره بــل لعلهم أضافوا ســوءاً على ســوء، ليــس ديمقراطياً طبقاً لأيّ سلســلة من المعايير المتفق عليها في تشــخيص نظام الحكــم الديمقراطـ­ـي؛ وهو، اســتطراداً، أقرب إلى ديكتاتوريـ­ـة الحزب الواحد فــي كلّ ما يخــصّ حرّيات أساســية مثل التعبير والصحافة والتظاهــر والتعددية الحزبية والقضاء المستقلّ.

وهذا توصيف لم يســبق لي، شخصياً، أن أغفلته كلما اتصــل الأمر بتقييم التجربة الكوبيــة؛ وهو يبقى موقفي اليوم أيضاً، مع تشديد أكثر على حقيقة أنّ غياب كاسترو أفقــد النظام شــخصية ثورية كاريزمية، وشــعبوية في الآن ذاته، تكفلــت على الدوام بمزيج من امتصاص مظالم الكوبيين ومطالبهم المشــروعة، من جهة أولى؛ وشــحنها وحشــدها، أو تدجينها واختزالها، مــن جهة ثانية، تحت شعارات عقائدية لا تعبأ كثيراً بما يفرز الرومانس الثوري من عواقب تخدير وتعمية.

ذلك كلّه وســواه لا يخفــي الحقيقة الكبــرى المقترنة بهذه الجزيرة: أنّ الحصــار الأمريكي المفروض على كوبا منذ ســتة عقود ونيف هو العنصر الأوّل والأكبر وراء آلام الكوبيين، وأنّ أثمانه الباهظة بلغت أكثر من 1,3 ترليون دولار، وتواطأت على اقتصــاد الجزيرة إجراءات الحجر وكوفيــد ـ 19، مع 243 تقييــداً حصارياً جديــداً فرضها الرئيس الأمريكي الســابق دونالد ترامــب قبيل مغادرة البيت الأبيض، ويرفض الرئيس الجديد جو بايدن إعادة النظر فيها أسوة بالعديد من قرارات ترامب التي سارعت الإدارة الجديدة إلى إبطالها. وقبل أســابيع قليلة صوّتت 184 دولــة في الجمعيــة العامة للأمم المتحــدة على قرار يطالب بإنهاء الحصار الأمريكي المفروض على كوبا؛ ليس من منطلق اليقين بأنّ رفع الحصار سوف يتيح حلّ الكثير من مشــكلات كوبا الاقتصادية والاجتماعي­ة والتنموية، فحســب؛ بل كذلــك لأنّ جائحة كوفيــد ـ 19 تقتضي هذا من دون إبطاء، وبمعــزل عن أية اعتبارات سياســية أو

إيديولوجية.

الســنة الماضية، وحين أخذت وطــأة الجائحة تحصد الأرواح بمئات الآلاف، كان ســبعة من كبــار خبراء الأمم المتحــدة )المقررة الخاصــة للتأثير الســلبي للإجراءات الردعية علــى التمتع بحقوق الإنســان، والمقرر الخاص للحــقّ في التنمية، والمقررة الخاصة لحقوق الأشــخاص ذوي الإعاقــة، والمقــررة الخاصــة حــول الإعدامــا­ت العشوائية، والخبير المستقل حول توطيد النظام الدولي الديمقراطـ­ـي المتســاوي، والخبير المســتقل حول حقوق الإنسان والتضامن الدولي، والمقرر الخاص حول التعذيب والمعاملة القاســية والعقوبة المذلّة غير الإنســاني­ة(؛ قد وقعوا على نصّ يناشد الولايات المتحدة رفع الحصار لأنّ اســتمراره ينطوي على «مخاطر تهديد الحقّ في الحياة، والصحــة، وحقوق أخرى حاســمة تمــسّ الفئات الأكثر ضعفاً بين شــرائح ســكان كوبا». وأضــاف النصّ: «في الظروف الطارئة للجائحة فإنّ الافتقار إلى إرادة أمريكية في تعليق العقوبات قد يقود إلى خطر معاناة أكبر في كوبا وبلدان أخرى تستهدفها إجراءات الحصار.»

لا حيــاة لمن تنــادي، غنيّ عــن القــول، لأنّ الرئيس الأمريكي سارع إلى امتطاء موجة الاحتجاجات المشروعة التي اندلعت مؤخــراً في العاصمة هافانــا ومدن أخرى، فأعرب عن وقوف أمريكا مع الشعب الكوبي في «صرخته المدويــة طلباً للحريــة »؛ وليس، البتة، فــي تذليل بعض العقبــات التي قد تخفف من المصاعــب الوخيمة التي من أجلها خــرج بعض الكوبيين إلى الشــارع. مطلب الحرية مشــروع بالطبع، وهــو على أجندة كلّ شــعب يعاني من صنوف الاســتبدا­د والدكتاتور­ية، لكن مظاهرات كوبا لا يســيّرها اليوم هذا المطلب بصفة أولى، بل تطالب بحقوق العيش الدنيا التي ازدادت تدهوراً بسبب ائتلاف الحصار الخانق مع إجــراءات كوفيد ـ 19 التي شــلّت، على غرار مئات البلدان غرباً وشــرقاً، الكثير من قطاعات الاقتصاد والإنتاج والسياحة...

ولعلّ أســوأ ما يخدم هذه السياسة الأمريكية الراهنة

هو موقف السلطات الحاكمة الكوبية ذاتها، لجهة اللجوء إلى الأســطوان­ة المشــروخة حــول انطــاق التظاهرات بوحي مــن تحريض خارجــي )لا يمكن نفيــه تماماً، مع ذلك، بالنســبة إلى المافيا الكوبية فــي فلوريدا على وجه الخصوص(؛ أو أنّ تســيير تظاهرات موالية تهتف بحياة كاســترو يمكن، بالفعل، أن يخمد نيــران الاحتجاج. من جانــب آخر، ولكي يكون المرء منصفــاً في الحدود الدنيا، ما خلا تخفيف إجراءات الحصار على نحو ملموس، ليس في يد الســلطات الكوبية الحاكمة حيلة سحرية يمكن لها أن تســتجيب لبعــض مطالب الشــارع الغاضب؛ خاصة وأنّ شــعارات إســقاط النظام أو إقامة ممرّ إنساني تبدو خارج المعادلة في المســتوى الفعلي والواقعي، إذْ لا تتوفر معارضة يمكن أن تحمل الشعار وتحوّله إلى برنامج عمل، وبعــض الجيوب المرتبطة بشــبكات انشــقاق كوبية في أمريكا لا تحظى بثقة الشارع الشعبي ولا تتمتع بمصداقية من أيّ حجم.

وهذه الجزيرة الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 11 مليون نسمة، اختُبرت مراراً وتكراراً على مستوى مساعي تغيير النظام، الأمر الذي انخرط فيه كاســترو نفسه حين تخلى عن مسؤولياته في صيف 2006، والحزب الشيوعي الكوبي أيضاً حين سمّى رئيساً من خارج آل كاسترو؛ دون كبير جدوى، بالطبع. ولعلّ الأمل الأبرز، في تغيير النظام من الداخل أو إســقاطه من الخارج، عُلّق على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلــى الجزيرة، مطلع 1998؛ فاتضح، في الحصيلة، أنّ كوبا كسبت انفتاحاً من الفاتيكان وليس العكس، خاصــة وأنّ هذا البابا تحديداً لا ينتمي إلى تراث الحرب الباردة ولم يكــن حليفاً لأقطابها في أيّ يوم، وهو تالياً لم يأت لإشــعال فصل جديد من حرب كانت أصلاً قد وضعت أوزارها وتجاوزتها العلاقات الدولية بســبب من غياب الخصم أو اندثاره شبه التام في كلّ حال.

كذلــك كان الفاتيــكا­ن يعــرف، مــا ســيعرفه البابا بنديكتوس في ســنة 2012 والبابا فرنســيس في ســنة 2015، أنّ إنجازات الثورة الكوبية في ميادين محو الأمية

والإصــاح الزراعــي وصناعة السكر والثورة الثقافية، أثمرت نتائــج ملموســة وبمعــدّلات لم يكــن ينتظرها أعتــى خبراء البيــت الأبيض وأجهزة الاســتخبا­رات الأمريكية. والأرقام كانــت تقول إنّ حجم المبادلات الكوبية مع أوروبــا الغربية يبرهن على حيوية مدهشــة ومرونة متقدمة، خصوصاً إذا مــا قيس بما آلت إليه الاقتصادات الأخرى للدول الاشتراكية سابقاً، حيث جرى فرض اقتصاد السوق قسراً، بوحي العقيدة المسبقة وليس اســتناداً إلى أيّ منطق اقتصادي ســليم. ثمّ لماذا يتوجب على الفاتيكان مســايرة أمريكا، وتقويض الآثار الإيجابية الواضحة لحوارات السلطة الكوبية مع الكنيسة الكاثوليكي­ة؛ هنا، حيث تتعايش الماركسية - اللينينية مع عشرات العقائد الإيمانية التي تبدأ من الوثنية والتقمّص والشامانية والـ»فودو» الأسود، ولا تنتهي عند تنويعات البروتســت­انتية واليســوعي­ة و «اللاهوت الثوري » الذي اشتهرت به أمريكا اللاتينية.

وحين تقاعد كاســترو لم يكن على الأرجح قد اتخذ هذا القرار إلا اســتجابة لأثقال عمر حافل بلغ 82 ســنة، بينها نصف قــرن كامل في قيــادة الثورة الكوبية، ومســاندة حــركات التحرّر فــي أمريكا اللاتينيــ­ة، ومجابهة ثمانية رؤساء أمريكيين )أيزنهاور، كنيدي، جونسون، نكسون، كارتر، بوش الأب، كلنتون، وبوش الابن( وخوض موقعة ملحمية أســفرت عن هزيمة نكراء للولايــات المتحدة في «خليج الخنازير» وأزمة بين الجبّارين كادت تشــعل أوار الحرب العالمية الثالثة... النووية. وإذْ لا يُنتظر الكثير من قيادة نظام الحزب الواحد في مضمار تكريم تراث كاسترو وتشــي غيفارا وملاقــاة تظاهرات الاحتجاج الشــعبية الأخيرة، فإنّ ما تشهده كوبا بارقة خير أوّلاً، وأحد أبسط حقوق الشــعب فــي جزيــرة عجيبة صنعــت الكثير من التاريخ الفارق.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom