Al-Quds Al-Arabi

لماذا تعثرت حكومة السودان في ملفاتها وترتيب أولوياتها؟

- مصعب محمدعلي

تـواصـلـت طـــوال عـامـن الأسـئـلـة عن الأسباب التي عطلت مسار حكومة الفترة الانتقالية، فهناك من يرى أن التركة الثقيلة والاقتصاد المثقل بالديون والفساد، الذي خلفه نظام الانـقـاذ، عطلا مسار حكومة الفترة الانتقالية في السودان.

وبالنسبة للبعض فــإن عــدم ترتيب الأولـويـا­ت، وارتباك أجهزتها التنفيذية، جعل الحـكـومـة الـسـودانـ­يـة تـركـز على القضايا الخارجية وتتناسى المشكلات الداخلية، فأصبح الاقتصاد منهارا وتجاوز معدل التضخم 378 في المئة.

وأقـــر وزيـــر شـــؤون مجلس الــــوزرا­ء خالد عمر بحقيقة الأوضــاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تمر بها البلاد؛ وقال في تصريحات لـ«القدس العربي»

إن الاقتصاد السوداني كان يعاني من خلل هيكلي، وأكد على أن حكومة الفترة الانتقالية تسلمت خزينة فارغة وديونا مهلكة، وواجه السودان حصارا سياسيا واقتصادياً، وكـان لابد من وضع حد له، لذلك الأولـويـة هي التخلص من الديون، ومراجعة المصروفات والايــراد­ات، لتقليل العجز في ميزان المدفوعات.

وبالنسبة للخبير الاقتصادي، عبد العظيم المهل، فإن الخلل الإداري في حكومة الفترة الانتقالية هو المتسبب في الأزمة الاقتصادية وهو ما أغفل وزير شؤون الوزراء عن ذكره. وقـال المهل«إن حكومة الفترة الانتقالية تعاني من عدم الخبرة والدراية والمهنية، إلى جانب عدم متابعتها للأوضاع الاقتصادية والمعيشية». ورأى أن الحكومة لا تملك رؤية واضحة، لأنها لم تستطع تقديم أي حلول لأزمة الكهرباء والخبز والصحة.

ويعاني السودانيون منذ عام ونصف من شح في الـدواء، ووصل سعره إلى حسب قطاع الصيدلة في السودان إلى 1000 في المئة، وتعطل 20 مصنعا للأدوية من جملة 27 بسبب عدم توفر العملة الأجنبية.

واتهمت عضو سكرتارية تجمع الصيادلة المهنيين سماهر المبارك الحكومة بتجفيف الامـــــد­ادات الـطـبـيـة، وقــالــت لــ«الـقـدس العربي» إن أزمة الدواء يتحمل مسؤوليتها رئيس الـوزراء عبدالله حمدوك حين أصدر قـــرارات وصفتها بالمتخبطة، تسبب في توقف امدادات الدواء لعشرة أشهر.

وأبانت سماهر أن الحكومة كانت قد خصصت 10 في المئة من حصائل الصادر، لصالح الــدواء، إلا انها توقفت في نهاية اذار/مارس العام الماضي وبقرار من رئيس مجلس الوزراء، لكنه سرعان ما تراجع عن قراره بعد شهر وأعاد نسبة الـ10 في المئة، وفي نيسان/ابريل قرر من جديد إيقافها مرة أخرى. وأكدت المبارك، على أن حكومة الفترة الانتقالية لـم تــفِ باستحقاقات الإمـدادات الطبية منذ كانون الثاني/يناير 2021 فيما يخص النقد الأجنبي، ما دفع الإمدادات لإيقاف التعاقدات مع الشركات المستوردة للأدوية، مشيرة إلى أن الحكومة حررت الدواء بالكامل ولم تستثنِ الأدوية المنقذة للحياة، لافتة إلى أن الفئات التي تعاني مــن الأمــــرا­ض المـزمـنـة لا تتحمل الارتفاع الكبير في أسعار الدواء، وحذرت من سياسات البطء وعدم تنفيذ الوعود.

وكانت مستشار وزارة المالية هبة محمد علي قد وعدت في اذار/مـــارس هذا العام بعدم تأثر قطاع الدواء بارتفاع سعر الدولار،

وقالت إن حكومتها ستدعم الدواء خاصة الأدوية المنقذة للحياة، وكذلك سيظل القمح وغاز الطبخ والكهرباء ضمن خطة الدعم.

ودخــــل نــــواب الاخــتــص­ــاصــيــن في إضــراب شامل عن العمل، ما أدى لخلو المستشفيات من الأطباء والنواب، ووجهت وزارة الصحة بالتعاقد مع أطباء عموميين لسد النقص. وحددت في تقرير رسمي لها نيتها تعيين 2.500 وظيفة مطلع العام المقبل.

وكشفت مـصـادر مطلعة داخــل الصحة لـ«القدس العربي» أن العدد الكلي لنواب الاختصاصيي­ن يفوق 8.000 طبيب.

جيب المواطن

ويشير الاقتصاديو­نإلى أن حكومة الفترة الانتقالية ركّزت على الأمن والدفاع والقطاع السيادي، وأهملت الصحة والتعليم والقطاعات الإنتاجية، ما أسفر عنه وضع اقتصادي وشيك الانهيار، في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الخدمات، في وقت يعيش فيه 70 في المئة من المواطنين ــ وفقاً لآخر إحصاء ــ تحت خط الفقر، والتدهور المريع للعملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. ويرى الخبراء الاقتصاديو­ن أن الحكومة تعتمد في تسيير دولاب عملها على جيب المواطن، لأنها تفرض رسوماً باهظة على أسعار الخدمات.

وقال عضو اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي كمال كرار لـ«القدس العربي» إن الحكومة تعتمد على 18 في المئة فقط من

مــوارد البلاد، بسبب فشلها ومؤسسات قـوى الحرية والتغيير في إعــادة النسبة المتبقية من الموارد، والتي قال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في تصريحات سابقة، إنها لا تزال خارج ولاية وزارة المالية على المال العام، ويرى كرار أن قرار تعويم الجنيه كان كارثيا، وانه أربك حسابات المواطن، وذكر أن القرار صادر من البنك الدولي.

وبـالـنـسـ­بـة لــاقــتــ­صــادي، الـدكـتـور عثمان الـبـدري، فـإن الأزمــة الاقتصادية سببها الاختلالات الهيكلية، التي لا تُعالج بــالإجــر­اءات المـعـزولـ­ة، وقــال لـ«القدس العربي» إن مـا زاد الـوضـع الاقتصادي تعقيداً، هو غياب الرؤية والسياسات المالية والنقدية والتجارية والاستثمار­ية، مؤكداً على أنها تعاني من اختلال هيكلي أيضاً.

وأصــــر عــثــمــا­ن عــلــى أن «الــضــغــ­وط الخارجية هي من دفعت رئيس الــوزراء وحكومته للتخلي عن قرار عدم تصدير المواد الخام» معتبراً أن الضغط الخارجي الذي تواجهه الحكومة، تسبب في كل الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المواطن.

ويقول القيادي بالحرية والتغيير جعفر حسن لم يكن أمام الحكومة أي خيار سوى تبني برنامج للإصلاح الاقتصادي، مؤكدا على أنه لم تفرضه جهة خارجية، وقطع بأنه الخيار الواعي الكفيل بإصلاح الوضع الاقتصادي، رغم قسوته وصعوبته، لكنه كــان الـــدواء الوحيد لمثل ظــروف وواقــع السودان.

لماذا اتهمت حكومة الفترة الانتقالية بانها تنفذ سياسات الصندوق والبنك الدوليين، ولم تنفذ البرنامج الإسعافي المطروح من قبل حاضنتها السياسية قــوى الحرية والتغيير.

وفي تصريح لـ«القدس العربي» أكدت مستشار وزارة المالية هبة محمدعلي إن تحالف الحرية والتغيير لم تسلم الحكومة السودانية، أي خطة أو برنامج اقتصادي. وحسب عبدالله على ابراهيم فإن الأزمة ليست في البرنامج، فلكل برنامج عمومي تعريف، ويرى أنه لم تجر تغذيته طوال فترة مقاومة الإنقاذ بحلقات علم مستقرة تقرب بين المفهوم بالتعمق في البحث.

وقال «رأينا خلافاً مستحكماً بعد الثورة بين من هو راغــب في التعاطي مع البنك الـدولـي وصـنـدوق النقد وبـن من يحرم ذلـك التعاطي» ودعــا إلـى وضـع حد لهذا الاستقطاب.

لكن التحالف نفسه لم ينج من التعثر، فطرح السؤال الأهم عن مصيره، فقبل أن تتصاعد بداخله الخلافات، وبرزت الأسئلة حول قدرته على الوصول لمرحلة الانتقال الديمقراطي، فالتحالف الذي ضم 70 حزباً ونقابة ومنظمة مجتمع مدني، واستطاع إسقاط أكثر الأنظمة الشمولية، على مر تاريخ السودان دمويةً، لذا تجد من يعوّل عليه في تجاوز الاختلافات التي أظهرته هشاً في كثير من الأحيان، لكن هذه الهشاشة لم تكن بسبب الاختلافات في وجهات النظر فقط، إنما هناك من يتحدث عن المواقف والمواقع، ويـــرى قـــادة الـتـحـالـ­ف أن الاخـتـافـ­ات في وجهات النظر ضـروريـة، وتعبّر عن محمولات فكرية مختلفة، لذا هي طبيعية. إلا أن نفس القادة لم تنقطع رسائلهم بضرورة أن يستعيد المكون العريض زمام المبادرة مرة أخرى، وأن يعود المكون أكثر هيبة وقدرة على مواجهة تحديات فترة الانتقال، وحتى الأعـضـاء السابقين - الشيوعي وحشد الوحدوي- في التحالف قالوا إن عودتهم ممكنة، لكنهم وضعوا شروطاً، يرون أنها قد تصحح من مسار قوى الحرية والتغيير.

وأكد القيادي بالمجلس المركزي للحرية والتغيير، جعفر حسن، أن الحرية والتغيير عقدت العزم على قيام مؤتمرها من أجل تصحيح المسار، معترفاً بأن هناك أخطاء صاحبت أداء الحرية والتغيير تستوجب إعـــادة الهيكلة. وقـــال جعفر لـ«القدس العربي» إن خروج أي فصيل من مكونات الحرية والتغيير، يحدث اختلالاً، ويضعف الموقف، وأكد أن الحرية والتغيير قوتها في استمرار وحدتها والتي يرى أنها ممكنة.

وبالنسبة للناطق الـرسـمـي للحزب الشيوعي، فتحي فضل، فإن القضية ليست في الهيكلة أو عقد مؤتمر عـام لانتخاب مجلس مركزي، إنما تنفيذ البرامج التي دعا إليها التحالف ومنذ كانون الثاني/يناير 2019 وقال لـ«القدس العربي» إن الحرية والتغيير انحرفت عن مسار البرنامج المعلن، وبدأت تنفذ في برامج لم يتم الاتفاق حولها.

وأوضح فضل أن الموافقة على الدخول في التفاوض مع المكون العسكري، كان بمثابة خروج عن الموقف الرسمي للحزب الشيوعي، الـذي ظل يرفض الجلوس مع نظام الجبهة الإسـامـيـ­ة، لذلك لـن يقبل بالجلوس في طاولة تفاوض مع اللجنة الأمنية، وهي المكون العسكري. وأكد فضل أن موقف الحرية والتغيير منذ البداية هو استلام السلطة وتسليمها لممثلي الشعب، لكن ما حدث أن العملية كلها تحولت إلى اتـفـاق على شـراكـة بـن المكونين المدني والعسكري، وتحت ضغط دولي وقيادات داخلية.

وحــذر مراقبون مـن تنامي الخلافات وسط القوى التي قادت الثورة، مشددين على أن فترة الانتقال تواجه أكثر من تحدٍّ، فهي مطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية، والإسراع في تكوين هياكل السلطة، وقالوا إن الفرصة للجلوس على طاولة واحدة من جديد تستوجب وقف الاتهامات المتبادلة، وســط التحالف الـعـريـض، مـؤكـديـن أن النزاعات والاختلافا­ت ستدفع بالجميع إلى حافة الانهيار.

الخلافات والانسحاب

أن التحالف العريض وبعد أن أصبح حاضناً سياسياً لحكومة الفترة الانتقالية، بـــدأت تــدب الخــافــا­ت وسـطـه، مـا عجل بـخـروج وانـسـحـاب أحـــزاب ومنظمات مجتمع مدني وأجسام مطلبية، كما أعلنت أحـــزاب سياسية انسحابها مــن قوى الحـريـة والتغيير، هــذا الانسحاب أربـك المشهد السياسي، وأضعف موقف الحرية والتغيير.

ويرى مراقبون أن الخلافات والانسحاب أصبحا الأكثر تهديداً لمرحلة الانتقال، التي تتطلب إعادة ترتيب للأوراق التي بعثرتها الخلافات، وطرحت الأسئلة حول الكيفية التي يمكن أن تعيد للمكون العريض هيبته ويصبح بالفعل شريكاً أصيلاً في إدارة حكم الفترة الانتقالية، لا معارضاً.

وكـــان حــزب الأمـــة قـد جـمّـد عضويته داخــل الحرية والتغيير، بعدما دفـع بما يسمى«العقد الاجتماعي» مطالباً فيه بإعادة هيكلة قـوى الحرية والتغيير من أجل تحسين إدارة الفترة الانتقالية. ويرى الأمة أن أهداف الفترة الانتقالية لم تتحقق بمـا فـي ذلــك تكوين مؤسسات انتقالية مثل البرلمانات واللجان وتحسين الوضع الاقتصادي، وطرح رؤيته حول تمتين موقف المكون، بأن تتم عملية تطوير كامل لأجهزة ومؤسسات قوى الحرية والتغيير، مؤكداً أن التحالف ضروري في هذه الفترة، لأنه يضمن الانتقال الديمقراطي، ولفت إلى أن كل المناقشات الدائرة وسط المكونات ترى ضرورة عملية الإصلاح داخل الجسم القيادي-المجلس المركزي.

ويــرى القيادي بحزب الأمــة، إبراهيم الأمـــن، أن مسألة تقريب المسافات بين مكونات الحرية والتغيير ممكنة، ويجب أن تتم، وقال لـ«القدس العربي» إن التصحيح لن يتم بمعزل عن الحرية والتغيير نفسها، مشيراً إلى أن التحالف يضم عـدداً كبيراً من المكونات التي أحدثت التغيير وبيدها لم هذا الشتات، منوهاً إلى ضرورة إخضاع التجرية للتقويم، وكشف الأزمـــات التي أحاطت بها وصاحبت عملها، مؤكداً على أن الاعتراف بالأخطاء وشرح الأسباب التي أعاقت عملها، سيقود إلى الإصلاح الجذري، وعودة الهيبة إلى التحالف الذي قاد ثورة ديسمبر.

تجري هذه المراجعات لمواقف قوى مؤثرة في تحالف الحرية والتغيير، فيما تتطلع قوى الثورة إلى خطوات كبيرة وحاسمة تعيد لهذا التحالف موقعه في الشارع، وتعيد هذه القوى أيضاً لمواصلة دورها في إنجـاز أهــداف المرحلة الانتقالية، وتعبيد الطريق للتحول الديمقراطي المنتظر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom