الخبز والسلام وصندوق النقد الدولي وإعادة بناء السودان
اعتبارا من الشهر الحالي، بدأت عقارب الساعة تـدور، لإعـادة بناء السودان بعد أن خضع لعقوبات اقتصادية لمدة ثلاثة عقود من الـزمـن، منذ صنفته الولايات المتحدة دولــة راعـيـة لــإرهــاب. وخـال المرحلة الانتقالية الصعبة لإعادة البناء، الـتـي تستمر حتى الـعـام 2023 يواجه الـسـودان ثلاثة اختبارات رئيسية، هي اختبار الشراكة في الحكم بين المدنيين والعسكريين، واختبار تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير الخبز للمواطنين، واختبار تحقيق السلام والانتصار على الحـــروب والــنــزاعــات الـداخـلـيـة، وهي النزاعات التي مزقت السودان خلال فترة الخضوع للعقوبات الأمريكية، وتسببت في انشطاره إلى دولتين عام 2011. وما يـزال السودان يوجه مخاطر وتداعيات تلك النزاعات الداخلية، ذات الطابع القبلي والعرقي، من دارفور في الغرب، إلى ولاية البحر الأحمر في الـشـرق. وعلى الرغم من التحديات التي يعيشها السودان منذ الإطاحة بنظام حكم البشير عام 2019 فإن القوى السياسية والعسكرية التي تتولى زمام الحكم في البلاد، أظهرت حتى الآن قدرة متميزة على التعايش والاستمرار، وتمكنت من تمهيد الطريق لعودة السودان إلـى المجتمع الـدولـي، والـبـدء في إعـادة بناء الاقتصاد، وتوقيع عدد من اتفاقيات السلام مع الحركات السياسية المختلفة.
وعلى أساس هذا الإجماع، وبمساعدة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فــإن الــســودان نجـح فـي عقد اتـفـاق مع صندوق النقد الدولي، يستفيد بمقتضاه من مبادرة «هيبيك» لتخفيف ديون الدول الفقيرة، على أساس مجموعة من الشروط
والمعايير المقبولة للدائنين، ومنهم البنك الدولي وصندوق النقد ونــادي باريس للدول الدائنة والبنوك التجارية.
تخفيف أعباء الديون
طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي فإنه مع افتراض تنفيذ شــروط مبادرة «هيبيك» ومشاركة الدائنين جميعا في برنامج الاعفاءات، من المتوقع انخفاض دين السودان الخارجي من حوالي 56 مليار دولار بمقدار النصف، ليبلغ 28 مليار دولار فقط، عندما يبدأ تنفيذ شروط المبادرة التي تتضمن سداد المتأخرات المستحقة للبنك الدولي وصندوق النقد والبنك الأفريقي للتنمية، والبدء في تنفيذ شروط برنامج صــارم لـإصـاح الاقـتـصـادي، يتضمن تخفيض وتوحيد سعر الصرف للجنيه السوداني، وإلغاء دعم الوقود والكهرباء، وإصلاح النظام الضريبي لزيادة الإيرادات العامة، والالـتـزام بتطبيق استراتيجية لتقليل الفقر يتم التنسيق بشأنها بين الحكومة وبين خبراء الصندوق، إلى جانب عدد من الشروط الأخرى المرتبطة بفاعلية وشفافية الإدارة، وإصلاح النظام المصرفي القائم. وستكون المكافأة التي يحصل عليها السودان عند اكتمال تنفيذ برنامج الإصـاح، وإنجـاز كل الشروط المطلوبة، هي تخفيض الدين الخارجي إلى 6 مليارات دولار فقط، وهو ما يقترب من شطب ديون الــســودان الخارجية تقريبا، وتخفيف الأعباء على المـوارد المحلية، وإطلاقها من أجل التنمية ومكافحة الفقر.
كـذلـك فــإن المــبــادرة تتضمن تسهيل حـصـول الـــســـودان عـلـى مـنـح وتمـويـل مشروط من البنك الدولي بقيمة 2 مليار دولار، ومنحة من البنك الأفريقي للتنمية
بقيمة 200 مليون دولار على مدى عامين. كـذلـك سيحصل الــســودان على تمويل إضــافــي مــن الـــدول الـدائـنـة فــي نــادي باريس خلال فترة تنفيذ مبادرة «هيبيك» للدول الفقيرة المثقلة بالديون. وبذلك فإن الترتيبات التي يلتزم السودان بالمضي فيها حاليا قد حـررت الاقتصاد من أهم القيود التي كانت تعوق التنمية، وفتحت أمامه قنوات التعامل التجاري والمالي مع المجتمع الدولي، ورسمت له الطريق للتقدم بمساعدة الدول الدائنة ومؤسسات التمويل الدولية. وبدون ذلك كان السودان سيظل قابعا في ظلمة الحصار الاقتصادي، بينما احتياطي النقد الأجنبي كان قد هبط إلى 1.1 مليار دولار فقط، بما لا يغطي إلا شهرين من تكاليف الاستيراد، وكان حجم الدين العام قد وصـل إلـى أكثر من 200 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تمكن السودان فعلا من تسوية المتأخرات المستحقة عليه إلى البنك الدولي في اذار/ مارس من العام الحالي، ومتأخرات البنك الأفريقي للتنمية في ايار/مايو ثم صندوق النقد الدولي في الشهر الماضي.
شروط إعادة بناء الاقتصاد
وعلى الرغم من المساعدات التي تحصل عليها الحكومة السودانية حاليا، فإن المـواطـن هـو الــذي يدفع فـاتـورة تحقيق الاستقرار الاقتصادي، من خلال الإجراءات القاسية التي تم اشتراطها لكي يستفيد السودان من مبادرة «هيبيك». وتتمثل أهم التضحيات التي قدمها السودانيون حتى الآن في تدهور سعر العملة المحلية من 55 جنيها للدولار إلى حوالي 450 جنيها في الوقت الحاضر، وارتفاع الأسعار، وعلى رأسها السلع الغذائية بمعدلات وصلت في
بعض الأحوال إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل بـدء برنامج الإصـــاح. ويقدر صندوق النقد الدولي أن معدل التضخم الرسمي سيصل في نهاية العام الحالي إلى 130 في المئة، بعد أن قفز إلى 380 في المئة خلال العام، على أن ينخفض بفضل استمرار تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية إلى 57 في المئة في العام المقبل. كذلك فإن الصندوق يتوقع أن الاقتصاد لن يتعافى بنسبة نصف نقطة مئوية هذا العام، بعد الانكماش الــذي تعرض له في العامين الأخيرين، والـذي بلغت نسبته في العام الماضي 8.4 في المئة.
وتتضمن الإجــــراءات التي تقوم بها الحكومة من أجل السيطرة على التضخم، الحد من الــواردات غير المقننة، للحد من استنزاف العملات الأجنبية، لأن هذا الاسـتـنـزاف يتسبب فـي ارتـفـاع أسعار الدولار، مما يغذي متوالية زيادات الأسعار من المستورد إلى تاجر الجملة ثم إلى تاجر التجزئة. كذلك تعتزم الحكومة فرض نوع من التسعير الجبري لأسعار عدد من السلع الأساسية، والـزام التجار بوضع لافتات لأسعار السلع، مع تسيير حملات تفتيش على المتاجر، من أجل ضمان الالتزام بها. وتشمل القائمة المقترحة الدقيق والسكر وزيت الطعام والصابون والعدس.
كما تضمنت الإجــــراءات التي قامت الحكومة بتنفيذها التزاما بشروط مبادرة تخفيف حدة الديون، إلغاء دعم الوقود، مـا تسبب فـي زيــــادات كبيرة جــدا في أسعار بنزين السيارات، وأدى بالتالي إلى ارتفاع تكلفة النقل، إضافة إلى رفع أسعار الكهرباء. وما تـزال أزمـة الوقود تعرقل تنمية قطاع إنتاج الكهرباء في السودان، حيث تشهد كافة المدن تقريبا انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي. ولا تصل الكهرباء
إلى حوالي نصف سكان السودان. ويتم توليد الكهرباء من محطات كهرومائية تنتج ما يقرب من نصف الإمدادات حاليا، ومحطات حـراريـة تعمل بالوقود تنتج النصف الآخــر. وبسبب نقص إمــدادات الـوقـود، واضـطـراب العمل في المحطات الكهرومائية الـنـاتج عـن تـداعـيـات سد النهضة الاثيوبي، فإن محطات الكهرباء تعمل بنصف طاقتها الإنتاجية.
وتتجسد مظاهر المشقة الاقتصادية الناتجة عن فاتورة الإصلاح التي يدفعها المواطن بصورة جلية في تفاقم معدلات الفقر فـي كـل أنـحـاء الــســودان. وطبقا لحسابات البنك الدولي اعتمادا على أحدث البيانات المتاحة من بحوث الدخل والإنفاق للأسرة، فـإن معدل الفقر في السودان يتجاوز نسبة 40 في المئة، ويرتفع في دارفور إلى أكثر من 70 في المئة، في حين ينحسر في العاصمة الخرطوم إلى 26 في المئة. ولذلك فإن مكافحة الفقر وتقليله هو أحد الأركـان الرئيسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الـذي وضعه صندوق النقد وتنفذه الحكومة السودانية.
يقوم برنامج تخفيض الفقر في السودان على عدد من الإجــراءات الواضحة، التي توفر الإطار العام لتوزيع ثمار النمو بكفاءة أكبر، تشمل تحقيق استقرار اقتصادي كلي، على أساس نمو مستدام تستفيد منه جميع الفئات الاجتماعية، وتعزيز الإنفاق على التنمية الـبـشـريـة، خصوصا في مجالات الرعاية الصحية والتعليم، ونشر الـسـام والحــد مـن الـنـزاعـات، وضمان فرص متساوية لجميع السودانيين في الحصول على ثمار الإصلاح خلال الخطة الممتدة حتى عام 2023 التي التزمت بها الحكومة بالاتفاق مع الصندوق، وصولا إلـى استهداف الأســر الفقيرة ببرنامج للمساعدات يتم تمويله بواسطة البنك الدولي وهيئة التنمية الدولية التابعة له.
التحديات المؤسسية
ما يـزال السودان يعاني من تحديات كـبـيـرة عـلـى الـصـعـيـديـن الاقــتــصــادي والاجتماعي. لكنه سيظل قادرا على قهر هذه التحديات إذا استطاع الحفاظ على التماسك المؤسسي الذي ما يزال هشا حتى الآن، لسببين، الأول هو حداثته، مقارنة بنظام الحكم القديم الـذي استمر عقودا طويلة، وما تزال ثقافته تحكم أداء جهاز الدولة الإداري. والسبب الثاني يتمثل في حداثة تجربة ازدواجية السلطة بين قيادة المجلس العسكري وقيادة حركة التغيير المدنية. وبقدر تماسك هذا التحالف خلال المرحلة الانتقالية، يستطيع السودان أن ينجو من مخاطرها وهي كثيرة. ولذلك فإن المحافظة على قوة العلاقات داخل مجلس السيادة الـذي يضم عسكريين ومدنيين بقيادة العسكريين، وعلى قوة العلاقات بين المجلس وبين الحكومة التي يقودها ويشغل جميع مناصبها مدنيون، باستثناء وزيري الدفاع )من الجيش( والداخلية )من الشرطة( تمثل حجر الزاوية للعبور بسلام من المرحلة الانتقالية إلى تأسيس شروط مستدامة للنظام السياسي، والقضاء على مخاطر الردة أو انتكاس عملية السلام، أو الفشل الاقتصادي.