Al-Quds Al-Arabi

الشاعر العراقي رعد فاضل في «مسوّدات عابر عيش»: تجليات العشق والمشاهد المحلية

- هاشم شفيق

مــال شـعـراء كثيرون ممـن يتعاطون الكتابة مع قصيدة النثر إلـى التجريب الفني، المحمول على البنيات السردية، وأنسقتها الحكائية التي تعتمد التدوين القصصي، ذا المساق المشبع بالسرود الـدائـريـ­ة، ذات البعد الكتلوي، المتسم بالقطعة اللغوية، المبنية على شكل كتلة مـن الكلمات، والمــفــر­دات الـتـي توحي بالمدار القصصي، أكثر مما توحي بالبِنية الشعرية، وذلــك هو ما يميز هـذا النوع المتداخل من الكتابة الأفقية، المتوغّلة في متونها، وهوامشها، كنسق شعري ينضاف إلى بقية الأنسقة الشعرية الماثلة، والموجودة، والمستحدثة في قصيدة النثر.

شـعـراء عــرب كثيرون نحوا باتجاه تجــارب الـسـرد الشعري، مستخلصين من طلاقته وحريته وطيرانه الشعري تجربتهم الفنية، هذا فضلاً عن إفادة هذا المساق من أشكال وأساليب وتكاوين المفاهيم الأخرى، كالهرمسية والتوغل في عالمها الموحي بالغوامض، العرفانية وطرق تعريجها، واشتغالها على المعارج النورية، في استخلاص الزبدة الإشراقية من هذا العروج، ولدينا كمثال أدونيس في هذا المجـال، وكمال أبو ديب وتوفيق صايغ، وظهر ذلك في بعض تجارب سليم بركات، وخـزعـل المــاجــد­ي، وزاهـــر الجـيـزانـ­ي، وحلمي سالم، ورفعت سلام، على سبيل المثال لا الحصر، فالغنوصية، والصوفية، ومجموعة شبكة دلالاتـهـم­ـا، بمناحيها ورواسبها وتجلياتها، أصبحت نهجاً، ومــدار بحث ودرس واستقصاء للعديد من الشعراء العرب، ومن بينهم شاعرنا، ومركز حديثنا في هذا المقال، الموصلي رعد فاضل، في عمله الجديد «مسوّدات عابر عيش».

تحت أفق هذه الرؤية، تنضوي نصوص أو سرود رعد فاضل، وتقع في مجال هذا المسمى من الكتابة الشعرية الحرة المتسمة بالمناجاة والتهدّج، وهـي كتابة تراعي التقليد الصوفي، ونهجه الجوّاني المتخم بـالأسـرار، والمحافظ على معاني الـروح وأشواقها، وهي أيضاً كتابة مفتوحة، متناصّة مـع الـسـرد المـــروي، والمشهد الحكائي، الــذي يحمل الطابع اليومي للمشهديات، تلك التي يدوّنها الشاعر في مخياله، كنوع من الفنون الشعرية، فنون باتت طليقة، ولا تتقيّد بشكل معينّ، محدّد وثابت، من الحدود والتقاليد الشعرية .

فـالـشـاعـ­ر المــوصــل­ــي هــنــا، يعطينا ترسيمات وموتيفات شعرية تفصيلية لحياة هو يراها أمامه ماثلة، في بيئته المشرقية، بيئة ذات قسَمات تركية، وإنكليزية وعربية، وفيها إثنيات متعدّدة المشارب، والمنازع والأصــول، والموصل كما نعرفها ويعرفها التاريخ، مدينة أنبياء، ومقامات دينية رفيعة، حيث قشلة الترك، والسّرج خانة، والدوّاسة، ينضاف إليها، تاريخ الأنبياء ومراقدهم، كالأنبياء يونس وشيت وهـرمـز ودانـيـيـل، وغيرهم من الأنبياء الذين وجدوا في مائها، وهوائها، وخضرتها، وعيشها الُمنعّم طيب الإقامة.

في مفتتح الصفحات الأولى من كتاب «مسودات عابر عيش» يُرينا بعين الشاعر الحي، والمــدوّن، والشاهد على الخراب، خــراب الأحـــام والأزمــنـ­ـة، يُرينا معالم مدينته، في تدوينة شعرية تنفتح على مشهد «الجسر الإنكليزي» وعلى فضاء «الـسّـرج خانة» وتمثلاته للسوق العاج بالناس، والطيوب، والفن الذي يتجوّل في الأنحاء ويجوب الزوايا والأماكن القلبية، كسوق الصاغة، والسمّاكين، والعطارين، والحــبّــالــن، وســـوق الـطـيـور، وســوق الفخّارين، وســوق الفحّامين، وسـوق الحـدّاديـن، وسـوق الساعاتيّين، وسوق العتمة.

فعن الجسر الإنكليزي يقول: «كان في كل عبور يخيّلُ إليَّ أنّه يفكرُ في أن يلقي بنفسه ومن على كتفيهِ إلى النهر... خذ بيده ويديّ يا ايّها النهرُ».

وعــن منطقة «الــســرج خـانـة» يقول: «سوق من طبيعة أنوثية طاغية، ملابس داخلية، قمصان نـوم شفافة، مشدّات أثــداء وأوراكٍ، تـنّـورات، سراويل جينز وكتان، عطور من كل شكل ولون ونكهة تكاد للطبيعة تخلب لبّها، اكسسوارات، وعلب تجميل كأنها حدائق مصغّرة».

وعن سوق العتمة، وهو خاص بالنساء، أو ترتديه النساء عموماً جاء الآتي:

«غالباً ما كانت النساءُ وهنّ يخرجن من سوق العتمة، العَتَمي، هكذا يموصله المواصلة الأقحاح، وكأنهنّ ينفذن من ثقب في الظلام».

وحين يخرج الشاعر من زمن الأمكنة، إلى زمن البوح والعاطفة، يستريح بين يدي حبيبته، وهو مكلّل بعطاء من يُحب، يسترعي في سرَحانه معها، أو من دونها كل نغمة ونأمة حبية، مستمرئاً في وصاله الانغمار، والتتويج بين يديها، فهو أميرها النبيل، يتقدّم بنبله كما يـقـول، بينما هي «بخيلة في الضوء، حرّة سخية في الظل»، وحين يكون من دونها، فهو على ما يبدو يخاطب ذاته قائلاً بغيابها: «يطيبُ لي ويريحُ طمأنينتي أن أراهـا من دوني وحيدة، إلا من خـازن أحلامنا وحـارس لغزنا الأمين الليل».

وحــن يُـجـن الـلـيـل، وهـمـا فـي حميّا العلاقة، يرتبك حين تهمسه:

«كانت تلبّكه وهي تهمسُ: ليس الآن، فالعالمُ لا يزال على عتبة النوم، بل الآن إذ

ليس حولنا سوى ستارة مسدلة على عيني نافذة، سوى سرير يكاد ينعسُ من الملل، سوى مصباح مثل طفل مطيع نوّمته باكراً، سوى باب مغلق بعناية فائقة، سوى وردة تغطّ ملء جفنيها في قدح، سوى شعلة شمعة لها ظل قبلة أو دمعة في الحائط.»

وعندما يفي بما أوكل إليه، من مسوّغات الـغـرام والحـــب، ينحو نحو العرفانية متشبّثاً بها، كمنجاة ومنقذ من وله الحب، والغرام، والانخطاف العاطفي، ليسرد لنا سيرة الولهانين الواقعين في شرك المشيئة، وبعدها الهرمسي، خائضاً في معاني الوجد والوله الصوفي، والهيام المهيمن على حال العاشق، وهو مسكون بمراسم الحبيب وضوئه المخترِق «أعلم صاحب هذه الرسائل والإمـضـاء­ات في هذا المسوّدات أنك لم تأتِ كما ينبغي على ذكـر رأس بـاء القلوب وهوانها، أعني الشوق حربة الهوى وصاعقة العشق، ممرغ أنـوف الولهانين في تـراب الضيم والحاجة والسهر».

ثم يـورد الشاعر تضميناً للمتصوف البغدادي أبي يزيد البسطامي، متخذاً قوله داخل سرديته الشعرية هذه المائلة بـاتجـاه باطني، منظورا عرفانيا، من دعائمه الشوق الذي تحدث عنه المتصوفة البغداديون والعرب كثيراً، فالشوق إذاً كما يـرى البسطامي هو «قصبة مملكة المحبين فيها عرش عذاب الفراق منصوبٌ وسيفُ هـول الهجران مسلولٌ وغصنُ نرجس الوحدة على كف الأمل».

حسب ذيوع قصيدة التشذير النصّي، والهايكو العربي، وميول بعض الشعراء العرب إلى كتابة هذه النصوص، المكثفة،

والداعية إلـى قـول الكلام الوجيز، في كلمات قليلة، بديلاً من الملاحم الشعرية، تـلـك الــتــي ســــادت فــتــرة الستينيات والسبعينيا­ت، ننجد الشاعر ينخرط مثله مثل بقية الشعراء العرب، في هذا النوع الــوارد من اليابان إلينا، وعبر وسائط الترجمة، لقصيدة مختزلة، تمثل فناً مــدروســاً، ومرسوماً بدقة فائقة، وله قانونه الشعري الخـاص به، وقد ترجم الكثير منه لرواد قصيدة الهايكو الياباني، وأعني الرواد المشهورين كباشو وإيسا، وغيرهما من شعراء هذا الفن البارزين،

والذين باتوا معروفين في العربية، ناهيك عن الآخرين من شعراء الهايكو، أولئك الذين تُرجموا في أنطولوجيات شعرية قـام بها مترجمون عـرب، رفــدوا المكتبة العربية بعيون شعر الهايكو الياباني، مما ساهم في توسيع وتجديد وتخليق الحركة الشعرية العربية، وجعلها أكثر غنى، فمنحها طرائق وبدائل وأنساقاً مختلفة، ومغايرة في الوقت عينه، وشاعرنا فاضل يلتفت مثل الشعراء الآخـريـن، إلـى هذا الصنيع الفني، مفيداً من طرائقه التعبيرية، ليصوغ في المآل، شذرته وخزعته الفنية، مستخلصاً الرؤى، ومستصفيها، لصالح رؤياه هو، كشاعر يعرف في النهاية، كيف سيوجّه بوصلته التعبيرية:

«السماءُ بارقة راعدة: تتغرغرُ بالضوء وتشهق بالماء. الماء: أكرم السخّائين وأنبلهم. الرّعد: بُحّة في صدر الهواء. الينابيع والغدران: عيون لا تتوقف عن البكاء ولا تعرف لماذا.

الغابات والأحراش والأكمات والأدغال: عانات كثّات تحت سرّة الطبيعة. القمر هلالاً: حاجب السماء الوحيد. الكلمات: نملٌ كل نملة تسعى في الكتابة حاملة على ظهرها مؤونة ما ستعنيه. الأمواج: هوادج البحر. النجوم: بصاصو الليل. الغيمُ: قِرَب الطبيعة. الخيانة: حدبة في ظهر النبل. السياسة: ربـطـة فـاخـرة حــول عنق الكذب».

تشيع في كتاب «مسوّدات عابر عيش» القصص، والحكايا، وحتى المقالة، وهي مستنزحة مـن فـن آخــر، لكي تتعايش الفنون مع بعضها وتتناص وتختلط، لتضيع بعد ذلك الصيغ والرواسم، وتلغى الحــدود بين الفنون، وتغدو النصوص بالتالي حرة تتجول بين الأشكال، بغية أن تتلاحم وتمتزج، لتبلور الكتابة العابرة للأنواع، ولتكون بمعنى ما لها الحرية في ركوب ما تنتقي من فنون القول، وصيغ التعبير، والأشكال الجمالية، والأنسقة اللغوية، والأسلوبية، ولهذا يكتب بصيغة المـقـال ههنا: «سـحـر الشعر يكمن في التحول والـغـرابـ­ة والـدهـش، والـذهـول واللعب في الأعماق بالجواهر، ومعاشرة عــرائــس الـبـحـر والجــنــي­ــات وتـرويـض الكواسج وتلقين الـدلافـن دروســـاً في الــدهــاء، سحر الشعر أن يتعلم العالم قراءة طوالع المجهول وفك طلّسماته، من هنا يتموّن الشعر بسحره، ومن هنا لا حدّ نهائياً لأشكاله وأساليبه وطرق تعبيره». رعد فاضل: «مسوّدات عابر عيش» دار نينوى، دمشق 2019

150 صفحة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom