Al-Quds Al-Arabi

كاس أوروبا: كيف فعلها مانشيني مع إيطاليا؟

- لندن - «القدس العربي»: عادل منصور

لا جديد يُذكر ولا قـديم يعاد، استعصت كرة القدم على وطنها ومهدها الأول، وبنفس الكابوس المعتاد منذ كــأس العالم ،1990 بهزيمة بطعم العلقم أمام المنتخب الإيـطـالـ­ي، فـي المــبــار­اة النهائية لكأس الأمم الأوروبية 2020، التي جمعتهما في أعرق ملاعب الدنيا «ويمبلي» في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وانتهى وقتها الأصلي والإضــافـ­ـي بالتعادل الإيجابي بهدف لمثله، قبل أن تتخلى ركلات الترجيح، كالعادة، عن الإنكليز، لتبقى الأميرة الأوروبية في قبضة أبناء الجنوب للنسخة الخامسة تــوالــيـ­ـا بـعـد مـعـجـزة الـيـونـان وسـيـطـرة الجــيــرا­ن الأيبيريين إسبانيا والبرتغال فـي الفترة بين عامي 2008 و2016، من دون احتساب الجزء الجنوبي لفرنسا بطلة النسخة الأولــى في القرن الجديد.

احتاج النجم اللامع في جنة كرة القدم كلاعب في أواخر الثمانينات وبداية حقبة التسعينات، سنوات وســـنـــو­ات، لتنصفه المـركـولـ­ة المجـنـونـ­ة، كــواحــد مــن «عظماء إيطاليا» فـي كـل الـعـصـور، كما وصـفـتـه شبكة «فـــور فـــور تـو» بعد التتويج بـالـيـورو، كيف لا والحــديــ­ث عــن ضحية جبابرة الكرة الحديثة في وطنه، بدأت بالاكتفاء بمشاهدة روبرتو باجيو وبـاقـي الرفقاء مـن على مقاعد البدلاء في مونديال البيتزا، من دون أن يحصل على دقيقة لعب واحــدة، رغـم أنـه كـان واحــدا من ألمع وأشهر نجوم الدوري الايطالي الأقوى عالميا آنذاك، والدليل على ذلـك مساهمته الكبيرة في فوز سامبدوريا بأول وآخر اسكوديتو فـي تاريخه، ثـم قيادته لنهائي دوري أبطال أوروبا بعد عامين من صدمة كأس العالم 1990، والمفارقة أنه كان قد خسر اللقاء الأهم في حياته بقذيفة مــدرب برشلونة الحالي رونالد كومان في ملعب «ويمبلي»، وهو نفس الملعب الذي كان شاهدا على إقالته من تدريب مانشستر سيتي عـام 2013 بعد المنتخب الايطالي توج بطلاً الهزيمة في نهائي كأس الاتحاد الإنكليزي أمام ويغان بهدف بن واتسون الشهير.

بـوجـه عـــام، انتهت مسيرته الاحترافية مـن دون أن يحصل على رتبة «الأسـاطـيـ­ر الخـالـدة» في السيريا آه، بصورة لا تعكس أناقته وإبداعه بالقدم اليسرى، ولا حتى التوقعات بشأن مستقبله. والأصـــعـ­ــب مــن ذلــــك، طــاردتــه الـشـكـوك فـي جـودتـه وجيناته كمدرب، إما بالتقليل من إنجازاته مع أنديته السابقة، أو باختراع حجج من الخيال لتهميش تأثيره، على غرار الطفرة التي أحدثها مع الإنتر، بقيادته للفوز بأول كالتشيو بعد غياب دام 17 عاما، فيما اعتبره المنتقدين والمـشـكـك­ـن، نتيجة لفضيحة القرن «الكالتشيوب­ولي»

بابعاد منافسيه الرئيسيين ميلان ويوفنتوس. أما على أرض الواقع، فكان حجر أساس المشروع الذي بلغ ذروته مع جوزيه مورينيو في عام الثلاثية التاريخية «الـدوري الإيطالي والكوبا المحلية ودوري الأبطال»، وبالمثل بُخس جهده في بلاد الضباب، بزعم أنه استفاد من تمويل الإدارة الإماراتية السخي لمـشـروع مانشستر سيتي، من دون النظر إلى بصمته، التي تجلت فـي تغير عقلية الـنـادي بصورة فاقت حتى أحـام ملاك النادي، بوضعه على قــدم المــســاو­اة مع العمالقة التاريخيين والمتمرسين على احتكار الألقاب الإنكليزية، وفعلها في زمن قياسي، بتحويل الـسـكـاي بــلــوز مــن نـــاد يجذب النجوم الباحثة عن المال، إلى كيان

أشبه بالحلم لنجوم الصف الأول، أو بالأحرى شخصية البطل التي تسلمها مانويل بيلغريني وبيب غـوارديـول­ا جاهزة على طبق من فضة، بحصول الفريق على أول لقب منذ 35 عاما وأول بريميرليغ منذ 44 عاما والعودة إلى البطولات الأوروبــي­ــة طـــوال نفس الفترة، بـالإضـافـ­ة إلــى إرث كــرة القدم الجميلة والجــــرأ­ة على الكبار، منذ سداسية مانشستر يونايتد فــي قلب «أولـــد تـــرافـــ­ورد» قبل اعتزال شيخ المدربين سير أليكس فيرغسون. تسلم مانشيني ورفيق الدرب المتعافي من مرض خبيث جانلوكا

فيالي، منتخباً مفككاً بعد قرابة العام من كارثة الفشل في التأهل لكأس العالم 2018، وكان ذلك في مايو/آيار لنفس العام، حيث كانت المعنويات ومستوى التوقعات تحت خط الصفر بسنين ضوئية، للانطباع المــأســا­وي الــذي تركه المدرب السابق جان بييرو فينتورا عــن الأزوري، كمنتخب وصـل إلـــى قـــاع الحـضـيـض الــكــروي، وبلا ملامح واضحة بعد اعتزال جيجي بـوفـون وجُـــل المحـاربـن القدامى. وأســوأ من هـذا وذاك، كان الاعتقاد السائد قبل وصول أيقونة سامبدوريا، أن إيطاليا تخلفت عن ركب الدول التي تملك جيوشا من المواهب المستقبلية، وكما لم تنصفه «صاحبة الجلالة» والرأي العالمي بعد ظهور بصمته على منتخب بـــاده، بالتحويل الكبير في أسلوب اللعب ونمط اللاعبين تحت قيادته، بدأ اليورو بصفته سابع أو ثامن المرشحين للفوز باللقب، لصعوبة المقارنة من حيث الأسماء والمواهب بين فرنسا أو البرتغال أو بلجيكا وبين أغلب القوام الإيطالي، بخلاف التفاوت الكبير في النجومية والشهرة بين أساطير أسياد الدفاع الذين قادوا الوطن إلى المجد سـواء في كأس العالم أو اليورو. صحيح إنسينيي وكييزا رائــعــان، لكن بالمقارنة بأبناء جلدتهم المتوجين بالألقاب في الماضي بداية من جيجي ريفا وساندرو مازولا عام 1968، وباولو روسي وبيرنو كونتي في 1982، وفرانشيكو توتي وأليساندرو ديل بييرو ولوكا توني في 2006،

كان من الصعب توقع حدوث هذا «التسونامي»، الــذي أسفر في النهاية عن أفضل حصيلة تهديفية فــي تــاريــخ إيـطـالـيـ­ا فــي بطولة مجمعة، برصيد 13 هدفا.

وهـذا يُحسب في المقام الأول للرجل الـــذي انتشل وطـنـه من براثن الضياع، وفي غضون ثلاث ســنــوات صنع المجــد بالجلوس عــلــى عـــرش الـــقـــا­رة، بتطويع الأدوات المتاحة، بطريقة جعلت جُــل اللاعبين يظهرون بصورة ومستوى أفضل من مستواهم من أنديتهم، متسلحا بخبرته العريضة فـــي اســتــخــ­دام مــزيــج الخــبــرة

والشباب، ليصنع هذه الكيمياء والوحدة والتماسك بين اللاعبين، التي تجلت في تطبيق ما يُعرف «السهل الممتنع» داخل المستطيل الأخضر، كأننا نشاهد أحد فرق الدوريات الكبرى، وليس منتخبا تم اختياره قبل البطولة بأقل من أسبوعين، والمثير للإعجاب بحق، أن مانشيني ورجــالــه، أظهروا وأثبتوا أنهم فريق مـرن بطريقة لا تصدق، كما قدموا درســا في فنون الدفاع للأجيال القادمة أمام إسبانيا في معركة نصف النهائي، التي خرج منها المنتخب الإيطالي %. بنسبة اسـتـحـواذ 30 وفي المباراة التالية النهائية، حاصروا الإنـكـلـي­ـز فــي أغــلــب الــفــتــ­رات، سـواء في الوقت الأصلي أو في الأشواط الإضافية، والدليل على

ذلك وصول نسبة الاستحواذ إلى % 65 ، تأكيدا أن إيطاليا مانشيني يصعب الـدفـاع أمامها ويصعب كذلك الاحتفاظ بالكرة أمامها.

وجـزء كبير من هذا يرجع إلى أساتذة الدفاع كيليني وبونوتشي، اللذين قـدمـا عـصـارة خبرتهما وأفـضـل نسخهم على الإطــاق، مـا انعكس بشكل إيجابي على حامي العرين جيجي دوناروما وسبينازولا قبل إصابته وباقي المدافعين، فيما كان ماركو فيراتي وجورجينيو في أفضل حالهما في الوسط، ونفس الأمر ينطبق على مفاجأة اليورو فريديريكو كييزا وشريكه رقم 9 الوهمي إنسينيي وباقي التوليفة السحرية التي جمعها المانشيو من جنة الكرة، لتستعيد إيطاليا سمعتها، التي تضررت بعد الغياب عن المونديال الأخـيـر، بفوز مستحق باليورو الثاني تاريخيا، وسادس الألقاب المرموقة بعد الرباعية المونديالي­ة. ويمكن القول، أن التفوق التكتيكي والأفضلية الواضحة على الأسود الثلاثة، قبل اللجوء إلـى ركلات الترجيح، الـتـي ابتسمت لممثل الجنوب، جاء تتويجا للعمل المميز الـــذي يـقـوم بــه صـاحـب البدلة الــرمــاد­يــة الشيك منذ وصوله إلـى سُــدّة المنتخب، وتدعمه لغة الأرقــام، بتسجيل أطـول سلسلة مــن دون هــزيمــة لمنتخبه منذ الوقوف عند حاجز الــ30 مباراة في الفترة بين عامي 1935 و1939، بواقع 34 مباراة على التوالي لم يعرف خلالها طعم الخسارة، بل خرج منها بـ87 هدفا، في المقابل اهتزت الشباك 11 مرة فقط، وهذا يلخص نتائج ثورة مانشيني مع إيطاليا، وأسباب تحول المنتخب من فريق تخطى مرحلة التحطيم النفسي والذهني، إلى بطل القارة عن جــدارة واستحقاق، بشهادة المنافس قبل المؤيد.

ماذا بعد؟

بالنسبة للمنتخب الإيطالي، الذي فرض نفسه على الموضوع، فالتحدي المقبل، سيكون محاكاة نفس الصورة المرعبة، عندما يحين موعد السفر إلى العاصمة القطرية الدوحة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، لخـوض أول نهائي كأس الـعـالـم، منذ الخـــروج المبكر من نهائيات مونديال البرازيل 2014، وسبقها خروج غير لائق آخر من مراحل دور المجموعات في كأس العالم في جنوب أفريقيا 2010، ما يعني أن أسياد الدفاع، سيكونون بحاجة لإعـادة تصحيح الصورة السلبية عن بلادهم، منذ الوصول إلـى هـرم اللعبة في وطـن الغريم الألماني في عام ،2010 وبطبيعة الحــال، إذا واصــل التطور وهذا النسق التصاعدي، الــذي جعله على بعد مباراة واحــدة، لمعادلة الـرقـم القياسي المسجل باسم البرازيل وإسبانيا، كأكثر منتخبين في العالم تجنبا للهزائم الدولية، بإجمالي 35 مباراة تواليا، فعلى

أقــل تـقـديـر، لــن يـكـرر مــا حدث في آخـر مونديالين. أمـا الطرف الخـاسـر فـي النهائي، المنتخب الإنـكـلـي­ـزي، سيحتاج أولا إلى تجاوز صدمة خسارة اليورو بلعنة ركلات الترجيح، خاصة الثلاثي الشاب بوكايو ساكا وماركوس راشـــفـــ­ورد وجــــادون سانشو، الذين جانبهم التوفيق في تنفيذ ركـات الترجيح أمـام الاخطبوط دونــارومـ­ـا، وهــذه ستكون مهمة المـدرب غاريث ساوثغيت الأولى في فترة التصفيات المؤهلة لكأس العالم، ليواصل استكمال المشروع الـــذي وضــع حجر أسـاسـه بعد انتكاسة «يورو 2016»، وبدأ يجني ثماره في روسيا، بالوصول إلى المربع الذهبي لكأس العالم للمرة الأولـى منذ نسخة إيطاليا 1990. ثم أثبت جديته بتحقيق ما عجز عنه الأجــداد والآبــاء، بالحصول على تأشيرة اللعب فـي نهائي كأس الأمم الأوروبية، بفريق أغلب قـوامـه مـن الـشـبـاب. وبـعـد عام ونصف العام من الآن، تحديدا مع إطلاق صافرة بداية أول مونديال فــي الــشــرق الأوســــط، سيكون معدل أعمارهم جميعا 25 عاما، وبالتبعية سيكون الكثير منهم أكثر خبرة ونضجا في التعامل مع المباريات الفاصلة، وقبلهم ساوثغيت نفسه، الذي يحتاج فقط الموازنة بين عقله البشري وساعاته السويسرية الفائقة، التي يعتمد عليها في استعراض التشكيلات والمعلومات والأهداف وغيرها من الإحصائيات الدقيقة، على الأقل ليتفادى خديعة اختيارات ركلات الترجيح، التي لم تنبهه إلى الفارق الكبير بين نجاح ساكا في تنفيذ ركلات الجزاء في التدريبات ومع آرســنــال فـي مـبـاريـات مـن وراء أبواب مغلقة، وبين تنفيذها أمام أكثر من 60 ألف متفرج في الاستاد المكتظ بالجماهير، وملايين خلفهم في المنازل يعيشون حلم معانقة أول لقب يـورو في التاريخ، إلى جانب مراجعة ما فعله مانشيني، باستخدام المــوارد البشرية كما ينبغي، بعد التجاهل الغريب لأبرز الأسماء التي سطعت طوال الموسم، وعلى رأسهم مبدع أستون فـيـا جـــاك غـريـلـيـش، وهـــداف مانشستر يـونـايـتـ­د مــاركــوس راشـــفـــ­ورد وجــنــاح مانشستر سيتي فل فــودن وصانع ألعاب بوروسيا دورتموند وهدف عمالقة البريميرلي­غ جـــادون سانشو، وربما لو أحسن المدرب الإنكليزي اسـتـغـال المــواهــ­ب والـطـاقـا­ت المتفجرة في القائمة، لظهر بصورة أكثر حدة وشراسة مما كان عليها في اليورو، خاصة بعد التخلص من روتين مباريات دور المجموعات، والأهم كان سيجد حلولا واقعية لمجــاراة الاكتساح الإيطالي، بعد التفريط الغريب في هدية السماء إلى الأرض، بالحصول على هدف الأسبقية في أول ثلاث دقائق من موقعة «ويمبلي»، ثم بترك الكرة لمانشيني ولفريقه ليمرحان بها، ويفعلوا كل شيء في كرة القدم، باستثناء ومضات إنكليزية على فترات متباعدة. على أي حال، الأمر سيبقى متوقفا على ساوثغيت نفسه، ليتعلم من الأخطاء التي تسببت في ابتعاده عن الألقاب، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من ملامسة منصات التتويج في آخـر مشاركتين قارتين، أو يكرر نفس الأخطاء، وبالتبعية ستدخل إنكلترا العقد السادس بلا بطولة منذ حمل كأس العالم في الزمن الجميل عام 1966، هذا ما ستجيب عنه الأيام والمباريات المقبلة. مبروك لعشاق إيطاليا وما أكثرهم، وحظ أوفر للحصان الجامح الإنكليزي الذي توقف أمام البطل.

 ??  ??
 ??  ?? المدرب مانشيني )يسار( مع القائد كيليني
المدرب مانشيني )يسار( مع القائد كيليني
 ??  ?? مدرب انكلترا ساوثغيت يواسي لاعبيه
مدرب انكلترا ساوثغيت يواسي لاعبيه
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom