Al-Quds Al-Arabi

السودان: أزمة وطنية وسلطة متنافرة

- إبراهيم درويش

تتفاقم أزمات السودان السياسية والاقتصادي­ة والأمنية، وتتزايد الانقسامات في صفوف الحكم بين القيادات العسكرية والمدنية، وتضيف الصراعات القبلية عناصر تأزم أكثر ضغطاً على سلطات متنافرة غير موحدة من حيث إدارة دفة الحكم، وغير منسجمة إزاء مختلف البرامج الإصلاحية الضرورية. ولم يكن غريباً أن يدق رئيس الحكومة ناقوس الخطر فيعلن عن «أزمة وطنية شاملة» يمكن لأخطارها أن تهدد «وجود السودان نفسه»، خاصة وأن بنود التأزم تشمل الوضع الاقتصادي والعدالة والسيادة الوطنية ومتابعة مسيرة السلام الداخلي وتوحيد مراكز القرار والاحتقانا­ت الاجتماعية الناجمة عن الغلاء والفساد وعجز المؤسسات المختلفة.

كانت التصريحات التي نقلتها مجلة «إيكونوميست» (2021/7/15( عن قادة الــســودا­ن الرئيسيين لافتة للنظر، فقد اكتفى رئيس الـــوزراء عبد الله حمدوك، وهو اقتصادي معروف بالقول إن الشراكة الغريبة الـتـي يعمل فيها هــي «طريقة سودانية» أمـا عبد الفتاح البرهان وهو جنرال يبدو الأقــوى في السودان اليوم فأكد أن روح الـوحـدة لم تتأثر وأن كل مكونات العملية الانتقالية «تعمل في وئام» وســام ولا مشاكل. والثالث وهـو أمير حرب ونائب البرهان في المجلس السيادي، محمد حمدان )حميدتي( دقلو فقد تحدث عن دروس تلقاها بالإنكليزي­ة والفرنسية في إشارة لطموحات سياسية أبعد.

هذا هو الثلاثي المفترض منه أن يحضر البلاد لانتخابات في 2024 لكنه يقود شراكة هشة يظل فيها الجيش الأمــر والناهي. وولــدت الشراكة بين الثلاثة بعد اتفاق تقاسم السلطة في 2019 بين قادة المحتجين الذين خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات ضد الأوضـاع الاقتصادية تطورت لاحقا إلى حركة شعبية أنهت ثلاثة عقود من حكم عمر حسن البشير. لكن تمسك المتظاهرين بتخلي الجيش عن السلطة والعودة إلى ثكناته وتسليم الأمـر للمدنيين أدى إلى مجزرة في الخرطوم لا تزال فصولها لم تحل وجثث القتلى في مشارح العاصمة حيث يطالب الأهالي بتحقيق العدالة من المتورطين.

ومنذ تغيير الحكم في الـسـودان برز البرهان، كحاكم فعلي للسودان، فهو قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي، المكون مــن عسكريين ومـدنـيـن ويــشــرف على الحكومة المدنية التي يترأسها حمدوك. وفي تأكيده على أن الأمور تجري على ما يرام قدم البرهان قائمة من النجاحات مثل اتفاق سلام تم توقيعه مع جماعات التمرد المسلحة، وإلغاء قوانين تحظر على النساء ارتــداء ملابس غير محتشمة. كما سلط الجنرال البرهان الضوء على استعادة العلاقات الكاملة مع أمريكا وإسرائيل، الأمر الذي دفع أمريكا إلى شطب السودان من قائمة الــدول الراعية لـإرهـاب. وقد مهد هذا الطريق للسودان للفوز بإعفاء من ديونه بأكثر من 56 مليار دولار. يقول الجنرال: «إن عزلتنا الدولية التي استمرت لأكثر من 30 عاما قد انتهت الآن». ويأتي بعده أمير الحــرب في دارفـــور، حميدتي الـذي يشغل منصب نائب رئيس المجلس السيادي ويقود قوات الدعم السريع التي منحها البشير صفة دستورية لموازنة قوة الجيش والمخابرات. وهذه القوات نبعت من ميليشيات الجنجويد، وهي وحدة شبه عسكرية انبثقت عن الجنجويد، ميليشيات اشتهرت باغتصاب وقتل المدنيين في منطقة دارفـور. وبرز حميدتي كشخصية قـويـة عبر الـقـسـوة ضـد الـثـائـري­ـن على البشير، وتتهم قواته بقتل المتظاهرين في الخرطوم بحزيران/يونيو 2019. والشراكة بين الثلاثة أو قل الصراع سيحدد مصير المحـاولـة الثالثة لبناء الديمقراطي­ة في الـسـودان منذ الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عـام .1956 ورغــم التعليقات المطمئنة إلا أن حس الأزمة السياسية يخيم على طبيعة الشراكة ويمكن أن ينفجر أي خلاف بينهما ويتحول لأزمة واسعة.

مطالب شعبية

ويواجه الثلاثة مطالب شعبية لم تتحقق بعد، وخرج المتظاهرون بداية تموز/يوليو إلـى الـشـوارع وطالبوا فيها بحكم مدني شامل وإلغاء القرارات الدستورية التي وقعها المدنيون والعسكريون، واحتجوا على الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الـدولـي والتي زادت من التضخم والمصاعب الاقتصادية. ونـادوا بالعدالة لقتلى 3 حزيران/يونيو .2019 وكانت صحيفة «نيويورك تـايمـز»2021/6/26() قالت فيه إنه وبعد عامين على مقتل أكثر من 100 شاب سوداني في الثورة التي أطاحت بالبشير لا تزال جثثهم منسية في زاوية من العاصمة. وتنبعث الرائحة الكريهة من المشرحة التي وضعت فيها الجثث، فانقطاع التيار الكهربائي منتظم وحر الصيف شديد. وأشارت إلى أن الأصدقاء وأفـــراد العائلة تجمعوا خــارج المشرحة احتجاجا وغضبا على فشل السلطات بتشريح الجثث. ويعتقدون أن الحكومة تحاول إخفاء الأدلة التي قد تؤدي لمحاسبة من قتلوا أحبائهم. ولا يتوقع الكثيرون تحقيق العدالة لعائلات الضحايا، لأن المتهم بها قـوات الدعم السريع. مع أن العدالة الانتقالية مهمة للشراكة السياسية الغربية، لكن دبلوماسيين تحـدثـوا عـن توتر في العلاقة بين البرهان وحميدتي منذ وقت، ورفـض حميدتي دمج قواته في القوات السودانية المسلحة التي يقودها البرهان، رغم أن هذا جزء من العملية الانتقالية. وقال في أثناء حفل تأبين جندي بالخرطوم «الحديث عن دمج قوات الدعم السريع في الجيش قد يؤدي إلى تفكيك البلاد» ولم يقل ان هذا الدمج سيفقده جزءا من سلطته. ونقلت مجلة «إيكونوميست» عن حميدتي قوله إن دمج قواته سيحدث «في الوقت المناسب» ولكنه يصر على أن هذا قد حدث بالفعل. لكن هذا التناغم السطحي يمكن أن يتبخر بسرعة. وكاد الخلاف يتحول إلى مواجهة في حزيران/ يونيو، حيث بدأت قـوات الدعم السريع والجيش بتحصين مقراتهما في الخرطوم بأكياس الرمل. وعلق شداد حامد معوض، وهو أكاديمي في جامعة الخرطوم: «لقد وصل الأمر إلى نقطة كان من الممكن أن يقتلوا فيها بعضهم البعض في الشوارع». وأدت المحادثات بين الجنرال البرهان وحميدتي إلى تخفيف التوتر. ويعتقد البعض أن الجنرال ربما يكون قد وافق على تأجيل الدمج إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فإن هذا من شأنه أن يضعه على خلاف مع حمدوك، الذي يشعر أن السودان يجب أن يكون لديه «جيشا وطنيا واحدا .»

خلافات المدنيين

وتحدي العلاقة بين البرهان وحميدتي جزء من الأزمة السياسية التي يتحدث عنها حمدوك، وهي مركبة مدنية- عسكرية. فمن الجانب المدني الـذي اتحد للإطاحة بالحكم بــدأ التحالف يشهد تصدعات وانقسامات وانسحب العديد من القادة المدنيين وتركوا التحالف مع الجيش وعادوا إلى الشارع ومن تبقى فهم يتنازعون على الوظائف والمراكز الحكومية. ويرى نقاد حمدوك من المدنيين أنـه المـسـؤول، فهو منعزل ومتردد وفشل في الحفاظ على الـوحـدة. مما يجعل من الصعوبة بمكان على التيار المـدنـي التعامل مـع الجيش والحــد مـن سلطاته المـتـزايـ­دة، فصورة النظام الحالي في السودان هي البرهان وحميدتي اللذان يقومان بزيارات خارجية ويـحـددان مسارها مع أن الملف هـذا من مسؤولية حكومة حمدوك. وقال حمدوك إنه أجرى «مناقشات صريحة للغاية» مع الجنرالات حول تأثيرهم على الاقتصاد. ويقول الجنرال البرهان إن هذا التأثير قد انتهى، ومن الصعب تصديق هذا فالعديد من الشركات التي كانت مملوكة لعائلة البشير، على سبيل المثال، أصبحت الآن ملكا للجيش. يضاف إلى هذا الدور الذي يمارسه البرهان في السياسة الخارجية، فقد عزز علاقة السودان بمصر ولم يأبه بالاعتراضا­ت المدنية ومضى بالتطبيع مع إسرائيل في 2020 وكان قد التقى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في يوغندا دون إطــاع الشريك المدني. وأضاف لرصيد الجيش باستعادة الفشقة قرب الحدود الإثيوبية. وتظل المنطقة من أكثر المناطق تفجرا في القرن الأفريقي، ففي ظل الصراع الحالي في إقليم تيغراي، وتدفق آلاف اللاجئين الإثيوبيين، تحرك الجيش السوداني إلى هذه المنطقة المتنازع عليها، وعــزز قـواتـه بشكل كبير. وقـام الجنود بطرد المزارعين الإثيوبيين من هذه المنطقة، منهيا بذلك مقايضة تمت بين نظام البشير ورئيس الـــوزراء السابق ميليس زيـنـاوي الــذي سمح للإثيوبيين بزراعة الأراضي طالما اعترفوا بملكية السودان لها. ويرى البعض أن الجنرالات في السودان

بمـن فيهم الرئيس الفعلي يستخدمون التهديد بالحرب لتقوية موقعهم في داخل حكومة الشراكة مع المدنيين. ويملك عدد من الجـنـرالا­ت أراض في الفشقة. ولكن الحكومة المدنية والجنرالات غاضبين من الخطاب الإثيوبي، وقال حمدوك «نستغرب الخطاب الإثيوبي» و «لا أحد يحتل أرضا يملكها». وفــي الـوقـت الــذي يرتبط فيه الخــاف الــذي ظل منسيا بسد النهضة العظيم التي تصر حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد على مواصلة ملئه دون اتفاق مكتوب ورسمي مع دول المصب، السودان ومصر، إلا أن هذه المنطقة قد تصبح النقطة الأسخن في القرن الأفريقي، فبعد خروج قوات أحمد من إقليم تيغراي أرسل بعضهم إلى الحدود مع السودان لتأكيد الحصار على المتمردين الذين استعادوا أجزاء واسعة من المنطقة التي دخلها الجيش الإثيوبي. وسيحاول المتمردون البحث عن منفذ لهم للسودان مما يعني أن الحرب قد تشتعل لأي سبب.

ثنائية جيش- ميليشيا

مـن الصعب تخيل تخلي الجيش عن مكتسباته التي تعززت أكثر بعد ثورة 2019. فالبرهان قام كما يقول ياسر عرمان المتمرد السابق، ويعمل مستشارا لحمدوك، هو «جنرال ماهر اشترى الوقت لتعزيز موقع الجـيـش. وهــو الآن أقــوى مـن أي وقت مضى». وربما تغلب في هذا السياق على الطرف المدني إلا أن المشكلة الحقيقية التي ستظل تخيم على العملية الانتقالية هي العلاقة بين الجيش والميليشيا­ت التي يقودها حميدتي، الـطـرف فـي العملية السياسية الحالية. فلدى قواته هيكلها وقيادتها وتمويلها. ومـن هنا فترضية الجيش لحميدتي وقواته ستجعل البرهان في مواجهة مع حمدوك الذي يريد أن يكون في السودان جيش وطني موحد. يضاف إلى هذا أن لحميدتي طموحات سياسية. وفي شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات الخارجية فمن الصعب أن يتخلى حميدتي

مثل الجيش عن مكتسباته. لكن موقف حميدتي في الوقت الحالي يبدو مرتبكا بعد توقف الإمـارات والسعودية عن طلب المرتزقة للقتال في اليمن وما كانت تدفعه من ملايين له. يضاف إلى هذا فقد خسر حميدتي حليفا مهما له في تشاد، وهو إدريس ديبي. وكانت زيارته لتركيا وقطر محاولة منه للبحث عن أصدقاء. وصرخ في الفترة الأخيرة محذرا من انقلاب جماعة النظام السابق، وهو سيناريو غير مرجح في الوقت الحالي. لكن الباحث الفرنسي جان بابتيست جالوبين لا يستبعد تحالف الإسلاميين مع الجيش لإخراج حميدتي من المشهد. وقد يؤدي هذا إلى اندلاع القتال في جميع أنحاء السودان. ومع ذلك، يعتقد مراقبون آخرون أن حميدتي نفسه سيشكل تهديدا أكبر على عملية الانتقال السياسي، إذا خشي على مصالحه الاقتصادية-أو حريته. فالتحقيق في مذبحة أكثر من 100 متظاهر في عام 2019 قد يشير بأصابع الاتهام إلى مسلحيه. وحـذر حمدوك في حزيران/يونيو من حرب أهلية إذا لم تتوحد الفصائل المسلحة في جيش واحـد. وقد حدد موعدا نهائيا لتشكيل مجلس تشريعي يتولى المسؤولية فيه المدنيون، ودعا إلى مؤتمر دستوري لتوضيح مكان الجيش في السياسة. وقال «طوال السنوات التي تلت الاستقلال وحتى اليوم، ظل الجيش يهيمن علينا» مضيفا أن لدى المدنيين فرصة لعكس هذا الواقع ولكن فرصة عابرة فقط. وبعيدا عـن تنافس وخــافــات شـركـاء العملية السياسية فسيظل الوضع السوداني قابلا للانفجار، وبدون حل الخلافات السياسية والأزمـــة الاقتصادية فالتململ الشعبي سيظل قائما. ذلــك أن الــســودا­ن محاط بصراعات ساكنة أو متفجرة ودولة فاشلة اقتطعت من أراضيه، دولة جنوب السودان التي احتفلت بمرور عقد على إعلانها، ولم يكن الاحتفال بميلادها سعيدا، فهي لا تزال فاشلة سياسيا تحكمها نخبة لم تعبر عن رغبة في التقاعد وسط أزمات من المجاعات والنزاعات الأهلية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom