Al-Quds Al-Arabi

نشتقّ أشخاصا منا لحمايتنا أو لخدمتنا

-

■ أتســاءل، وأنا أقــرأ القصيدة الأولــى من مجموعة عبــاس بيضون الجديدة، ما الذي كان يفعل هو، أقصد جسمه، أو رأسه، أو كليهما معا، حين يتكرّر الزمن «على طول هذا اليوم». أو ربما كان الشاعر هو الذي يسأل أولا، إذ يقول إنه أحيانا، «وأحيانا فقط» ســنحصل على عطلة أمام التلفزيون.» ما الذي كان قبل هذه العطلة إذن، وما الذي ســيكون من بعدها. إنها «حياة مُعارة» تلك التي تتكرّر. ربما ما نفعله هو العدّ، عدّ أشــباه الأمس، أشــياء الأمس. الحيــاة «عدد يكبر ببطء». عدد نســجّله فقط، لأننــا نعدّ، وها أن العدّ وصل إلى عشرين نفثَها القرنُ «عشرين عاما نافقا». هذه، أعوام العمر الأخيرة، «عجزت عن أن تكون ماضيا» حتى إنها لا شــيء. سنوات سقطت منا، أو «عقود سنين/ كوجبة أسنان بصقناها.»

نعيش في زمن لم نعد موجوديــن فيه. كان علينا، في منافي الغرف التي توزّعنا فيها، أن نقاوم العزلة، بأن نشــتقّ أشــياء منا لترافقنا، لتؤنســنا أو لتخدمنا؛ شــخصا واحدا، شبحا، شــيئا مثل هذه )...( الثلاث نقاط، لا ضــرورة لأن نعرف ما هو أو مــا هي، يعبر أو تعبر من شــقّ الباب، ويترك «على المقبض/ نظرته الماحية» أو نشــتقّ شــخصا «اتكلمّ معه/ ليفسح لي جنبه» على السرير، إذ اللاشيء، حتى اللاشيء، مسكون بالخطر. والرعب كذلك، وهو حين يأتي غالبا ما لا يحتاج موضوعاً.

أتســاءل وأنا أقرأ قصائد عباس بيضون العشــرين كيف أمكن لإحداها، بللكلمنها،أنتســتقلّعنالأخريات، لشــدة ما هــو صعب تفتيتهــا مــن كتلتها الواحــدة، أقصد ذلــك الاختناق الواحــد الذي يصعب أن يســمّى قبل أن نقول إنه يصعب أن يوصــف، كما يصعــب أن يُكتب، ذلك العيش الــذي لا يمكــن أن نفعل فيه غير ملاحظة التشــابه، وغير عودة التكــرار، كيــف يمكــن أن نخلق له عالمه، بــل أن نوزّعه على عشــرين قصيدة. النفي في الغرف ذاك ظننَا، مع انحباســنا وتوارينــا، إنه لن يكون إلا مرحلة سبات علينا انتظار وقت انقضائها. فقط عند انتهائها، أو الإعــان عــن انتهائهــا، نعود إلى ارتــداء ثياب الخــروج التي أودعناها الخزائن، واســتئناف الحياة التي كانت قد انقطعت.

ثم كيف يمكن وصــف المنفى، أو المرض، أو العدوى، أو كل هذه معــا، في ما كل منها ما يزال في أوج نشــاطه. ربما كنــا نظن، بل ربما ما زلنــا نظن أن علينا أن ننتظر انتهاء ذلك «الشــيء» حتى نتمكن من وصفه. أما عباس بيضون فيســتطيع أن يســتخرج من قطعة الألم، من ذلك النيزك الغامض المتجمعة كتلته، كلاما يقال في فهمه. إنه يفتّته، ساعيا على الدوام إلى بلوغ نواته. يخطر لمن يقرأ هذا الشــعر أن يقول إن ما يســوقه إلى ذلك الفهم حاسّــةُ الألم، اليقِظة على الدوام، أو ربما هي حواس أخرى تقوم على إيجاد شبه بين شيئين، أو أشياء لم يُنْتَبه إلى أنهما تلاقيا أو تماسّا من قبل.

أو ربما هي الأشياء نفسها تنتقل )له( من مكان إلى مكان لم تعتدْه، مثلما حين يقول «ألُمكِ ينتقل إليّ/ إنها أيضا عدوى» أو «لم نعد الآن/ ســوى نسخ لهذا النهار الأعــزل» أو «نهار واحد ينحني علينا/ عائــد من المختبر/ حيث رقّ كثيرا تحت الغســل». كل ما يُقال في وصف هذا النيزك يجيء من مادّته نفســها، إذ لا شــيء مما قيل أو كُتب، أو اســتُعمل من قبل يمكن أن يفيد في وصف ألم إبان حدوثه الأوّل، لذلك، في ما نقرأ شــعر عباس بيضون علينا أن نجدّده، أي أن نجدّد قراءتنا له، لأنه يحرص على أن يأخذ اللغة من حيث تتألّف عنده، من دون تلك الطلقة الممغنطة التي تدفع بالكلمة إلى أن تلتصق بالكلمة، من غير انتظار أن تُستدعى إليها.

قرأنــا قصائد هذه المجموعة قبل صدورها في كتــاب، دونا في ذلك كأننا نطّلع على ما يشــبه أجندة شــعرية لوقائع الوباء وتحولاته فينا. ليســت قطعا من شــكاوى أو من معاناة تكتب في جمل ســريعة على «فيسبوك» بل راية انكسار تُرفع من ذلك الشق في باب الغرفة، لتشاهَد رفرفتها من شقوق أبواب كثيرة أخرى.

مجموعــة عباس بيضون «الحياة تحت الصفــر» صدرت عن دار نوفل في 108 صفحات، لسنة 2021.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom