Al-Quds Al-Arabi

جمالية السرد ووظيفته في رواية «غريب»

- ٭ كاتب جزائري

■ يبدو الســرد فــي رواية «غريــب» لمحمد جربوعة متقمصا شــكل قصيــدة تكتمل فقط في وعي الروائي، باعتباره مســتوليا على شــعلة الخيال من الشــعر، نافثــا إياها في إضبــارة الحكي، فهــو منحدر من الشعر إلى الرواية، متسلحا بالقصيدة التي منحها فضاء معتبرا، وهو ما يشــكل جمالية تنبثق من الســرد على أســاس انزياحه إلى شعرية تملأ عالم الكاتب.

جاء عنــوان «غريب» نكرة، ينســاح علــى كل ذات تتمثــل ذاتها في «غربة» ما، وهو ما يُنتج انســجام القارئ مع مسار السرد، فالتجاوب العاطفــي مــع الحكاية يخلــق تماثلا بــن الــذات القارئــة والمخيالات المهاجرة من الســرد، فالتنكير يعتبر تقنية سردية تنشد إنجاز جمالية تواطؤ بين القارئ والنص، في إطار منظومة أفكار تتسرب إليه انطلاقا مــن ثقافته وحجم خياله. تتوافق حركة القراءة مع الصفة في «غريب» على إطلاقهــا، إلى أن يقف القارئ عند: «غريــب، كُلْ يا حبيبي» فتثبت ســرديا إســمية «غريب» ، والتحــول قرائيا من «الصفة» إلى «الاســم» يرســم صــورة للهوية في إطار جمالية الســرد التتابعــي الخالص في وعي الكتابة الهادفة إلى ترميم التجريد الحكائي واستنباته في طراوة التخييل.

يطرح «غريب» سؤال الهوية الاسمية باعتبارها منطقة الحضور في العالم، وهي مثبتة وفق مســار الحكاية، «أمي لماذا سميتموني غريبا؟» يتفجر ســؤال الهوية ســرديا، ليؤجج مجموعة الارتجاجــ­ات الفكرية بكل طغواها الماثلة بين أزمة الهوية وواقع الاسم، مؤسسة رؤية الذات من سؤال الوجود، وهو ما يمنح بعدا جماليا في سؤال التسمية.

يتأســس المكان في وعي الســرد من واقعية متخيلــة، يتداخل فيها المكان/الــذات بالمكان/التخييــل، وهــو ما يحقق للقــارئ الحضور في بعديــن، بُعد الواقع وبُعــد المتخيل، «كان الليل ينزل علــى المدينة» إنها مدينة كل إنســان، كل المدن تســتقبل الليــل، لكن ســؤال هوية المدينة ينطرح ملحــا، إنها لحظة التداخل الجمالي بين الســرد ككلمات ناظمة لمعنى محــدد في طبيعة محــددة مع مكان بمعياريــة مزدوجة، واقعية باعتبــار لحظة حضور القارئ وغياب الكاتب، وتخييلية باعتبار النص منتَج الكاتب.

ينتــج الســرد تشــابها في طبيعــة الصمت بــن «غريــب» والمدينة، «هــذه المدينة صامتة مثلــه» يعتبر صمت المدينة ناجــزا فقط في وعي الشــخصية الرئيســية، إذ يمكــن أن ينتفي عنــد الشــخوص الثانوية، واحتمــال حضــور المدينة العاديــة بصخبها وضجيجهــا المرتجى في وعــي غير الوارد، هذا الانتقال بين البنيتين يمثل جمالية قابلية الســرد للمساءلة قرائيا.

يســتمر الســرد في اســتنطاق جوهر المكان كعنصــر وجودي مهم بعناصــره، وإلا فقــد جرســه في الوعــي والوجدان، «ومــن بعيد رمق المئذنــة التي تطيــره رائعا عبقا.. وقام ليتوضــأ ويصلي المغرب». رؤية المئذنة تحدث انفعالا في نفس «غريب» وكأنه يكتشــف البعد الحركي للمــكان، من خلال صوت الأذان، الذي يمثل في وجدان المســلم انتقالا مــن واقع التاريــخ إلى شــفاف الغيب، وهو مــا جعل «غريــب» «رائعا عبقا» والحركة تخرج عن نطاق المحســوس إلــى المجرد، تَحْدُثُ روحيةً وجدانيةً خارج مادية الجســد. يختزن الســرد هذه الشحنة التعبيرية التــي تمنح القارئ إحساســا بالمــكان والزمن الغيبيــن، وهو ما يفجر عنصر الانتقال بالمعنى في جمالية السرد.

تستمر الجمالية السردية في التأثير عبر رنين الدلالة في إبراز عنصر المكان باعتباره رديفا للذات وأساس هويتها، لأنه فضاء التاريخ، «روح الوطن لم تتغير، رغم لمســات جديدة في العمران والمقتنيات والمظاهر» انتقــال من المكان المقيد إلى المكان المطلــق في معنى «الوطن» بعناصره الماديــة، حيث ينبثــق الوطن في ذاكــرة أب «غريب» العائــد من المنفى في سويســرا، وإشــارة عميقــة إلى المقابلــة بين مكانين، «سويســرا» حاضنــة الحداثــة، و»الوطــن» روح الكينونــة الذي تغيرَ لكــن لم يفقد روحــه، فالوطن يمثل رمــز أمثل وأعمق للهوية، وهو ما صار بالســرد إلى جمالية هوياتية.

تُفتتح الرواية بمعنىً يعود بالشخصية الرئيسية من الماضي، «يتذكر وصية أبيه» إذ يقع الوعي بالراهن من خلال الماضي، باسترجاع صورة الأب. تمتحــن «الوصية» جدوى الثبات على مــا وضعه الأب ذات زمن في وعي البنوة. تضع هذه الحركة الســردية المعالم الأساسية لرسوخ قدم الطفــل في العالم، فالذاكرة لا تمثل فقط خــزان الذاكرات، بل هي معْلمــة لرؤية المســتقبل، جذرها الماضي ورهانهــا الحاضر وفضاءها المســتقبل، ولهذا جاء المعنى في النهاية: «قصيدة رائعة.. ابتدأها أبوه وأكملتهــا الأقدار» كتتمــة للبداية المفعمة بالذاكرة، فمفــردة «ابتدأها» تحيــل إلى الماضــي، لا بتجــاوزه لكــن باعتباره عتبــة لــكل البدايات، فمفردة «وأكملتها» تؤدي معنى الاســتمرا­ر فــي الذاكرة وفي الراهن، وفق منظومة قيمية أبوية، تبني الرؤية على الحوار وليس على الهيمنة، أو ما يســمى بــ»البطريركية» فالذاكرة تمثل البداية واستعادتها تعني الاستكمال.

يهب الســرد هذه الفرضية في بنية الاســتكما­ل أو التواصل حينما تأتــي الجملــة الإخباريــ­ة لتؤكــد الطبيعة المعتبــرة لمســاحة معينة من أيــام «غريــب»: «كانت أياما اتســع فيها باب غريب إلــى عالم ذكرياته وتأملاته» فالعودة إلى الذكريات سرديا، تكون مجرد التفاتة عابرة لو لم تتضمــن الجملة معنى «التأمل» فـ»ذكرياته وتأملاته» فتحت المعنى علــى العودة إلى الذاكرة لكــن بقصد، لأن تأمل الأشــياء يفرز التفكير، ومن ثمــة إنتاج الرؤية للمســار الوجودي، وهو ما يجعل الســرد أفقا جماليا منتجا لمعنى حركة الشخصية بين الراهن والماضي.

يمثــل الزمــن الإطــار الذي تتشــكل فيه الذاكــرة، تســتقي مــن أحداثــه مادتهــا، فيتأسســان كمحوريــن للوجوديــة فــي مســار حركة الإنسان الناســجة للتاريخ، والقلقــة والمتســار­عة في تحقيــق الرغبة في المستقبل «ويتمنى المرء لو يتاح له جر عقارب الســاعة إلى المســتقبل بالسرعة التي يتسنى له بها قتل وحش الانتظار.» تحكم وجودية الإنســان متواليتا الزمن والانتظار، ويتأســس، هــو، ضمن هذه الجدلية المناهضة لخلوده، فهو من جهة يساير تعاقب الزمن منتظرا، ومن جهة أخرى، تتملكه الرغبة في تعطيل حركة الزمــن، آملا في اســتدامة وجوده في الحياة، وبين هاتين الرغبتين يتشــكل التاريــخ، تنبثــق جماليــة الســرد في تشــريع التخييل على حركة الإنسان المبنيــة على التمنــي، «ويتمنى المرء»

وفي هــذه الحركة تتركز معانــي الأمل وعمل العقل مــن أجل تكريس وجود الإنسان في الحياة وتحقيقا للحركة في التاريخ.

يتأســس التاريخ مؤثثا لا بالمنجز الإيجابي وحده، لكن بتعثر المسار الإنســاني داخل بوتقة المأساة أيضا، فهو يتحرك من أجل بناء الواقع والمستقبل، «كانت المسافة بينهما تختزل أحقابا من الاغتراب والشوق والفراق والعذاب والظلم ». جاء هذا الإثبات للكشف عن واقع الحال في العلاقة بين وضعيتي الأب والابن، ضمن مسار زمني فرقت فيه بينهما أشياء الحياة غير المنتظرة، فصور السرد لحظة لقائهما بعد فرقة وهما يقتربان من بعضهما بعضــا وكأنها تختزن كل الوضع العاطفي الذي تداخلت فيه مشاعر «الاغتراب والشوق والفراق والعذاب والظلم» تلك هي مســافة الإنســان، وهو يبني حلم وجوديتــه الفاعلة والمؤثرة على وجه الأرض، لا تثنيه العوائق، ولا يستسلم للصعاب، أو ما يعكر صفو المشــاعر، يتخطــى بعزمه كل عثــرة ليعانق المســتقبل، أي تلك اللحظة التي كان يتمنى لو يجر الزمن استعجالا للوصول إليها كمحطة لإنجاز التفوق، وهو ما تختزنه شــحنة السرد في الجملة المذكورة من جمالية الحركة في التاريخ الموشومة بالفرح والمأساة. تتشــكل الوظائف السردية من خلال حركة الفواعل السردية لبناء الرؤيــة والمعنى، وجمالية الســرد فــي رواية «غريب» حققــت الرؤية للــذات، انطلاقا من ســؤال الوجود، الكامن في جملــة العنوان، حيث المفارقــة تتكــرس مــن خلال خــرق أفق توقــع الصفة وثبوت الاســم سرديا. التداخــل بــن المكان/الــذات والمكان/المتخيل، فالقــارئ حالة من التجربــة علــى حواف النــص، أي إنه يمــارس نوعا مــن التحايل على النص، باحثا عن نفسه في بعض مستويات القراءة، فيلتقي المخيالان، مخيــال النص ومخيال القــراءة، لتتقارب المواقع، فتصبــح عناصــر النــص المخيالية ذاتها عناصر القارئ الواقعية. الوعــي بالماضي كســند معنوي مكثــف بالحدث الدال الذي يســاعد على رؤية المســتقبل وترسيخ القدم علــى أرض الحاضــر، والوظيفــة الجمالية للســرد ارتكزت على صورة الأب وهــي تفجــر مخــزون الذاكــرة المســاعد على الاســتمرا­ر فــي الراهن واستبصار المستقبل. أسســت علاقة الزمــن بالذاكرة في الســرد لوظيفــة جماليــة ترتكــز علــى الانتظــار كمســافة لتكريــس الأثــر في الوجود، ومــا يتعلق بــه )الانتظار( من أمل واشــتغال عقلي ضمــن بؤرة التعب الوجــودي المكثف بالاغتــرا­ب والعذاب والظلــم، وهــي العناصــر المصاحبــة للإنسان وهو يبني واقعه على الأرض.

‪Volume 33- Issue 10332 Friday 23 July 2021‬

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom