Al-Quds Al-Arabi

رحيل إسماعيل ولي الدين... أشهر مَن تحولت أعماله إلى السينما

تجاوزت مطبوعات رواياته نجيب محفوظ

- القاهرة ـ «القدس العربي» من محمد عبد الرحيم:

«وفــي الشــوارع العديدة وفــي الليالي الطويلــة تعرفــت بأشــكال عــدة، تلميــذ، موظف، سائق تاكسي كنت أنام فى عربته أحيانــا، أغازل الشــرطي الــذي كان يقوم بحراســة المنطقة، حتى يقبل أن يرقد معي وينســى المخالفــة اللعينة. حتــى أصابني مــرض فى جســمي، مــرض يوقــف عملي تمامــا. رفضني ســائق التاكســي، التلميذ الــذي لا يدفــع شــيئا، الموظــف المخمــور، وعامــل الثلاجــات الــذى ســلفته يوما من مالي القليل. رفضني الناس جميعا. المرض ينتشر في جســمي. قصر العيني يعالجني بقــذارة، يســتقبلني بلعنــات ويودعنــي بقــرف. مــاذا فعلت؟ إنــه كان عملــي.. لقد ســقطت أثناء العمــل». ( من روايــة حمام الملاطيلي(

في صمت تام يرحل الروائي إســماعيل ولي الدين )1935 ــ 2021( الاســم الأشــهر خــال ســبعينيات وثمانينيــ­ات القــرن الفائــت، الــذي تحوّلــت أعماله إلــى أفلام ســينمائية، لاقت نجاحاً كبيراً وفي الوقت نفسه جدلاً أكبر، سواء على مستوى النقد أو الرقابــة. ويأتي فيلــم «حمام الملاطيلي» ــ كتب الرجــل الرواية عــام 1970 ـ ليصبح أشــهر الأعمــال إثــارة للجــدل والمنــع في تاريخ السينما المصرية، وصولاً إلى عرض نســخة تشــوّهت بفعل الرقابة. من ناحية أخــرى لم تلــق أعمال ولــي الديــن متابعة نقدية تليق بها، بــل تم تجاهلها عمداً، رغم أن يحيــى حقي احتفــى بكتاباتــه الأولى، خاصــة رواية «حمــام الملاطيلي» فالبعض يراه نســخة مشــوّهة من نجيــب محفوظ، والبعــض الآخر يضعه تحــت كُتاب الأدب الرخيــص، حتى أن الرجل اتُهــم بالترويج للإباحيــة. ورغم ذلك كان مــن أكثر الكتاب المصريــن قــراءة فــي تلــك الفتــرة، حيث تجــاوزت طبعــات رواياتــه أعمــال نجيب محفــوظ بكثيــر، وللمفارقة كانــت الأفلام المأخوذة عن رواياته هي الســبيل لشــهرة هذه الروايات، التي ســاهمت بشــكل كبير في الترويج لها والبحث عنها، حتى قيل إن هناك دور نشر قامت على أعمال إسماعيل ولــي الدين. ورغم دعاية الســينما للأدب في هذه الحالة، إلا أن السينما نفسها ظلمــت الرجــل كثيــراً كمــا فعــل النقــاد، وقــد غيّــرت الكثير من تفاصيــل وأجــواء الروايات، وجعلت من الطابع التجاري الســمة الأغلــب، فتــارة يتــم تغييــر زمــن الروايــة مــن الثمانينيـ­ـات إلــى الأربعينيـ­ـات، أو تغييــب الفكــرة الأصليــة للرواية والاكتفــا­ء بالحــدث والإثارة المرتبطة به، لجذب قطيع أكبر من الجمهور.

يُذكــر أن إســماعيل ولــي الدين خريج كلية الهندسة، قسم العمارة عام 1956، ثم عمل في القوات المســلحة حتى وصل لرتبة عقيد، وتفرغ بعدها للكتابة الأدبية. تحولت أغلب أعماله إلى أفلام سينمائية ناجحة، منها.. «حمام الملاطيلــ­ي، الأقمــر، حــارة برجــوان، درب الهوى، الباطنية، أبناء وقتلة، الســلخانة، درب الرهبة، بيت القاضي، أســوار المدابغ، رحلة الشقاء والحب، الوحوش الصغيرة، منــزل العائلة المســمومة، وآخرهــا جنون الحياة عام 2000» إضافة إلى تحويل بعض هذه الأعمال إلى مسلسلات. توقف الرجل عــن الكتابة، وقــرر الاعتزال فــي منتصف التسعينيات، حتى رحيله.

الهزيمة وعالمها

كتب ولي الدين روايته الأولى والأشــهر «حمــام الملاطيلــ­ي» نهايــة الســتينيا­ت ونشــرها عام 1970، وكانت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 هي المســيطرة على الأجواء، فجــاءت الروايــة كاشــفة عن فســاد كبير ضــرب المجتمــع المصــري والشــخصية المصرية. ومنخــالحم­ام شــعبي يتم ســرد حكاية عن ســلوكيات مضطربة وشــخصيات قلقة لا تعــرف مصيرها. في «حمــام الملاطيلي» تختلــط محنة المهجرين مــن مدن القنــاة مع لعنــة الفقــر والقطيعة مــع التاريــخ، ويهيمــن الســعار الجنســي والشــذوذ الــذي يعكــس الأزمتــن الذاتية والموضوعيـ­ـة في واقع مضطــرب، يتوافق إيقاعه غير الســوي مع المتغيــرا­ت الكارثية بعــد الهزيمــة. أحمــد، الشــاب المهجَّــر مع أسرته من الإســماعي­لية، يبحث عن وظيفة فــي القاهرة بعــد حصولــه علــى الثانوية العامــة، ويتطلــع أيضــا إلــى الالتحــاق بالجامعة وانتشــال أبيه وأمه وإخوته من هاويــة الحياة الخشــنة في المــكان الكئيب المزدحم، الذي يعيشــون فيه، لكن )خطاب التوصيــة( لا يحقــق الأحــام الورديــة المأمولة، وينخــرط الحالم الصغير مضطرا

في المنظومة العشــوائي­ة التــي تعيش قرب أطــال التاريــخ، وعبــر تجربتــه المثيــرة تتجســد شــهادة مهمة لا تكتمل بمعزل عن عالم الدعارة والعاهــرا­ت». (مصطفى بيومــي. شــخصية العاهــرة في الأدب المصــري الضــرورة والإدانــة. جريــدة البوابة 22 إبريل/نيســان .)2018 وقــام صــاح أبــو ســيف بإخــراج الروايــة إلــى الســينما، وحولهــا إلــى مســرح للحــواس والعلاقــا­ت المثلية، لتطغى على مساحة أعمــق مــن العمــل الروائــي، وليوصــم الرجــل بعدهــا، أنــه مــن مروجــي الإباحية. يقول ولي الدين في أحد حواراته الصحافية القليلة.. «الفيلم ســيئ جــدا، وهو ليس أفضل أعمال صلاح أبو ســيف، وأن الفيلم الكامــل كان أفضــل والحقيقــة أن مقــص الرقيب شــوّه الفيلم... لقد حاولت أن أعبّر عن فداحة النكســة التي شوهت أخلاقيات المجتمــع والعمــل ملــيء بالإســقاط­ات الرمزية». (جريدة «الأخبار» 13 ديســمبر/ كانون الأول 2015.)

السينما ومفارقاتها

علــى الرغم مــن الشــهرة التــي حققتها السينما لأعمال ولي الدين، الذي استعاض بجمهور الســينما عن نقاد وجمهور الأدب المعهودين، إلا أن الســينما في الوقت نفسه شــوّهت بدورهــا هــذه الأعمــال، واكتفت بتجاريــة الحكايــة واختــاق تفاصيــل تســاعد فــي ذلــك. وإمعانــاً فــي تشــويه الســينما لأعمال الرجل يقــول.. «جاء فيلم درب الهوى ـ إخراج حسام الدين مصطفى

العزلة

رغم الصخــب الدائم الــذي رافق أعمال ولــي الديــن، خاصــة التــي تحولــت إلــى الســينما، فــكان مصيرهــا المنــع أو مقص الرقيــب، إلا أن الرجــل انــزوى أو اختفــى منذ التســعيني­ات، ويعلل هو ذلك بأسباب شــخصية وأخــرى خارجــة عــن إرادتــه، فيقــول.. «طاقتي الإبداعيــ­ة نفدت، إضافة إلــى أننــي أُحلــت إلى المعــاش عــام 1998 وصــرت متقاعــداً، لا أحتــك بالواقــع ولا يفــور عقلي كما اعتــدت أثناء فتــرة العمل كمهنــدس معمــاري، التــي كانــت تتطلــب الحركــة الكثيــرة، وكان هــذا يــؤدي إلــى تنشيط العقل كي يفرز أفكاراً متدفقة.»

لكن هذا لم يكن الســبب الوحيد لاعتزال الرجل، بل رفض نشــر أحد أعماله، بحجة أنهــا ـ الروايــة ــــ تجاوزهــا الزمــن، ولــن تنجح. يقــول.. «روايتي «شــجرة العائلة» كانت من ضمن الأســباب التي دفعتني إلى الانســحاب، فقد كتبتها في أربع ســنوات وأحداثهــا تدور مــا بين عامــي 1952 حتى 1982 حيــث إنهــا رواية تســجيلية تختزل تاريــخ هــذه العقــود الطويلــة في خمســة أجــزاء، وكنــت أجمع الصحــف والمجلات الصــادرة في تلــك الفترة من أجــل توثيق الأحــداث، وبعــد كل هــذا الجهــد رفــض الناشر إصدارها معتذراً بأن هذه الفكرة لن تبيــع، ولأنني مُصر علــى أن يحتوي نصي علــى طين الواقــع، قررت ألا أمســك بالقلم لأنني غير قــادر على الغــوص كما تعودت دائماً .»

 ??  ?? إسماعيل ولي الدين
ـ ليحكــي عن البغاء فى فتــرة الأربعينيا­ت، بينمــا كان يحكي النص الأدبــي عن البغاء فى فترة الثمانينيا­ت، عن قوادات أعمارهن ثمانون عاماً يرســلن فتيــات صغيرات إلى الزبائــن المقيمــن فى بعض فنادق شــارع كلوت بك، لا أعرف لمــاذا قاموا بتغيير زمن أحــداث الفيلم، الذي أخذ عــن قصتي التي كنت أدين فيها الانفتاح الاقتصادي، الذى أعتبره كارثة قومية .»
إسماعيل ولي الدين ـ ليحكــي عن البغاء فى فتــرة الأربعينيا­ت، بينمــا كان يحكي النص الأدبــي عن البغاء فى فترة الثمانينيا­ت، عن قوادات أعمارهن ثمانون عاماً يرســلن فتيــات صغيرات إلى الزبائــن المقيمــن فى بعض فنادق شــارع كلوت بك، لا أعرف لمــاذا قاموا بتغيير زمن أحــداث الفيلم، الذي أخذ عــن قصتي التي كنت أدين فيها الانفتاح الاقتصادي، الذى أعتبره كارثة قومية .»

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom