Al-Quds Al-Arabi

الوصاية على الأدب

موسى إبراهيم أبو رياش

- ٭

■ نقرأ لبعض النقاد والأدباء والمثقفين بشــكل عام، ممن يولولون؛ خوفا على الأدب، خاصــة الرواية من الكم الكبير الذي يُنشــر بين غث وســمين، ورديء وجيد، ويطالبــون بحماية الأدب وإنقــاذه من هذا الطوفان غير المسبوق، حتى أصبح عدد الروائيين يفوق عدد القراء كما يزعمون.

وطالت الغيــرة والحميّة النقد باتهامه بالمجاملــ­ة وعدم الموضوعية والشللية، وأنه نقد ســطحي عبثي، لا يؤسس لحالة نقدية معتبرة، بل بلغ الشــطط بأحد الأكاديميي­ن، المطالبة بتقنين النقد وترخيص النقاد، وضــرورة حصولهم على إجازة للكتابة النقدية، إذا امتلكوا الشــروط المؤهلة لذلك.

الغيرة على الأدب والحرص على جودته أمــر محمود بالتأكيد، لكن الدعوة إلى حماية الأدب بمنع النشــر، أو وضع قيود عليه أمر مرفوض تمامــاً، ويناقض جوهر الإبــداع وحرية التعبيــر، لأن معايير الجودة والرداءة غير ثابتــة ولا يمكن أن يُتفق عليها، ورب رواية نالت حظاً من الشــهرة والتقريظ وهي تافهة، وغيرها بقيت علــى الرفوف لا يأبه بها أحد مع أنها جيدة ومختلفة، فالشــهرة ليســت حكراً للجودة والإبداع والأصالة فقط، بل قد تكون حصيلة إبداع في التسويق، وقوة العلاقات الشخصية، والشــللية والمصالح المشتركة في الغالب، وهذا لا يشمل كل الروايات المشهورة، بل قسماً معتبراً منها.

تتمرد الفنــون الإبداعية على النمذجة والأطــر الجاهزة الثابتة، فلا يمكن أن تخرج ضمن قوالب مصنعية متشابهة كأنها قطع غيار أو أصابع شوكولاتة أو حتى ســيارات مرســيدس فاخرة. صحيح أن هناك أطراً عامة تحكم كل فن إبداعي وقواعد معينــة، لكنها أطر وقواعد مرنة، ولا إبداع أو تجديد حقيقي إن لم ينجح في الخروج على بعض هذه القواعد، والتمــرد عليها بذكاء وفطنة وقصديــة، وإلا لكانت الفنون الأدبية على الوتيرة نفســها منذ بدأت إلى قيام الســاعة، وفي ذلــك يقول الروائي المصري محســن يونس: «ينبغي، أن يعمل الكاتــب انطلاقاً من المقولة الأمثولــة: «الإبداع هو ما يأتي على غير مثال». الخروج على المألوف في الكتابة والإبداع عموما، هو ما يعطي الكتابة ماهيتها وجوهرها، فلسنا نكتب من خلال «روشتة» نتبع أوامرها، وإلا أصيبت نصوصنا بالمرض! الحرية للكاتب هي رئتاه وعقله وضميره معاً، تمنحه اللياقة والنشــاط والقدرة على الابتكار .»

إن تفاوت الأعمــال الأدبيــة الإبداعية ظاهرة صحية فــي كل زمان ومكان، وهــي ملحوظة حتى في الدول العريقة فــي الأدب والإبداع؛ إذ أن معايير الجودة مختلــف عليها، وتتباين من ناقــد إلى آخر، فالعمل الواحــد يحتمل قراءات مختلفة، وكل قراءة لها حكمها ورأيها وتقييمها، ولا بد من وجود اختلافات بينها لصالــح العمل أو ضده، وهذا لا يضير العمل، فالعمل الجيد هو الذي يحتمل قراءات مختلفة ومتضاربة أحياناً، وهذا طبيعــي جداً، إذ يعتمد النقد ـ مهما ادعــى المنهجية - على الذوق وثقافة الناقد وفكره، وربما علاقاته مع الكاتب. وفي المقابل، فإن الرداءة نســبية، لا يمكن تعريفهــا أو تحديدها بإحكام أدبيــاً، فرداءة المحتوى والتعبير مثلا في بلد ما، قد تكون ميزة في بلد آخر؛ تبعاً لمعايير المجتمع وثقافتــه، وحتى في البلد الواحد تختلف هــذه المعايير من وقت لآخر، ومن طبقة لأخرى.

ولا شــك في أن الكاتب المشهور ليست أعماله كلها على سوية واحدة، فهي متفاوتــة الجودة بالضــرورة بفعل عوامل كثيــرة، منها: الخبرة والتمكن وســعة الاطلاع، والحالة النفسية ودافعية الكتابة، والظروف المحيطة وموضــوع الكتابة، وغيرها من العوامل، بــل إن العمل الواحد قــد يكون متذبذب الجودة والمســتوى، بين بدايته ووســطه ونهايته؛ بســبب التباعد الزمني بين كتابة كل جزء، أو تذبذب الحالة النفســية وتأثير الظروف، وربما ضغط الزمن لســرعة الإنجاز بطلب من ناشــر، أو للمشاركة في مســابقة أو معرض، أو حتى لغايات الإكثار من الأعمال المنشورة.

لا يعني ما ســبق أن تكون الكتابة الإبداعية بــا معايير أو قواعد أو حدود، لكن هذه الحدود والقواعد من مهمة الكاتب أولاً والناشــر ثانياً، أما الكاتب فعليــه أن يراجع ما يكتب بدقة، ويســتأنس بآراء أهل الفن المبدعين، والنقاد الموضوعيين، ولا يرضى لنفســه أن ينشــر إلا ما يظن أنه جيد ويستحق النشر، وينافس غيره من الأعمال المعروفة بجودتها ومقروئيتها. أما الناشــر فعليــه أن يحافظ على ســمعته ومصداقيته، فلا ينشــر إلا بعد غربلة الأعمال واختيار الأجــود منها، وفق معاييره، بالاســتعا­نة بمن يثق فيهم من النقاد والمحررين وأهل الصنعة، ولا يبرر حرصه على المردود المالي من الكتاب أن ينشــر لــكل من يدفع ممن هب ودب.

إن إقدام أي كاتب مهما كان مســتواه أو خبرته على النشــر مغامرة كبيرة، وشــجاعة تســتحق الإشــادة، فهي خطوة في الظلام، قد ترفع الكاتب أو تهوي به إلى الحضيض، وربما لن يســمع بــه أحد، فكأن لم يكتب ابتداءً، وهذا مما يؤلم الكاتب ويجرحه، وقد يؤدي به إلى التوقف والكف عــن الكتابة. أما الفنيات والأســلوب والتقنيات والموضوع فهي شأن آخر، وهي مهمة النقاد والمثقفين للحكم للكتاب أو عليه.

لا تبرر الغيرة على الأدب إطلاق عموميات وكلام مرســل لا يؤدي إلى نتيجة ولا يصلح حالا، ولا يغير شيئا، فالشجاعة تتطلب ممن يتخوفون علــى الأدب، وذائقة القــراء، ومســتقبل الإبداع أن يمتلكوا شــجاعة التصريــح والتأشــير بوضوح إلى الغــث والرديء، بأن هــذه رواية ضعيفة أو سيئة أو سخيفة، مع ذكر ما يؤكد ما يذهبون إليه، أما الاكتفاء بالعموميات والولولة فهي تهرب من تحمل المســؤولي­ة، وتكدير الصفو العام الأدبي، وإساءة إلى الإبداع، وفرض الوصاية عليه، من خلال أبوة زائفة، وتزكية للذات، واســتعلاء على الغير، وادعاء بأنهم كهنة الإبداع يمتلكون صكوكه ومفاتيح جنته.

والنقد كما الفنون الإبداعية، يتعرض للتجريح والوصاية من البعض بحجة ضعف ما ينشر من المقالات والدراسات النقدية، وأنها في معظمها نقد ســطحي، أو نقد انطباعي أو نقد صحافي، لا قيمــة له، والمطلوب ـ في رأيهم - نقــد يعتمد على مناهج النقد المعروفة، وهذا لا يحســنه إلا الأكاديميو­ن والمتخصصون في النقد علما ودراسة. لكن، في ظل إحجام معظم المتخصصين في النقد عن تناول الأعمال الأدبية إلا لغايات الترقية الأكاديمية، فإن أي عمل نقدي، ســواء أكان منهجيــا أو قراءة أو عرضا أو تنــاولا جزئيا، هو عمل يســتحق التقدير، وهو أفضل من لا شــيء، ومــا لا يعجب البعض يعجب الغير، أما النقــد الأكاديمي فهو نقد موجه للخاصة، إذ لا يفهمه إلا المتخصصون بما يحفل به من مصطلحات نقدية لا يستوعبها جميع القراء، وربّ دراســات نقدية منهجية لا يقرأها أحد لوعورتها وشقشقتها واتكائها على مقولات وآراء النقاد الغربيين بشكل مبالــغ فيه، فلا نقد عند البعــض إن لم يرتكز ويستشــهد بأعلام الفكر والنقد الغربيين.

وبعد؛ فإنه لا يحق لأحــد أن يفرض الوصاية علــى الكتابة، خاصة الفنــون الإبداعية، ومن نافلة القول إن الكاتب حــر في ما يكتب وكيف يكتب، وله حق النشــر، وليتحمل هو مســؤولية ما ينشــر، ولا خوف على الأدب من الأعمال الرديئة، فســنة الحياة التدافع؛ لتتمايز الأعمال، وتظهر الفروقات، ويرتقي من يســتحق، ويهبط من يستحق، والتاريخ القريب سيغربل كل شــيء، فالشهرة الزائفة آنية زائلة، وقد تسقط عن الكثيرين، وربما يشتهر في ما بعد بعض المجهولين بعد أن ينفض الغبار عن أعمالهم، وتتناولها دراســات منصفة، تجلوهــا وتظهر ما خبئ من جواهرها ودررها.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom