هل الأنكلوساكسونيون أفضل نموذج للتعايش؟
■ خاضت إنكلترا مباراة بطولية تاريخية أمام الدنمــارك يوم 7 يوليــو/ تمــوز 2021. الفوز فيها كان مصيريــا يحمل أكثر من دلالة، كيف لا وإنكلترا غائبة عن نهائي بطولة أوروبا للأمم منذ عام 1966!
ما إن اهتز الشباك بتســجيل هدف الانتصار، بعد أكثــر من مئة دقيقة مــن الانتظار والأعصاب المتأججة، حتى اهتزت مدرجات الملعب، وارتجت أحياء وشــوارع لندن. واهتز معها المبنى، القريب من نهر التايمز الذي نتقاسمه وعائلات من أصول إنكليزيــة وأجنبية مختلفــة، بالأهازيج والغناء والرقص.
مجتمع متعدد موحّد
إنكلترا التي تعاطفنا معهــا بقلوبنا وأرواحنا لم تســتطع التتويج بالكأس لاحقاً، وإذا بأجواء الحســرة والاكتئــاب والألم الممتزجــة بالأجواء المغيمــة والممطــرة - التــي تميّز أحــوال طقس بريطانيا هذه الأيــام - تخيّم على أحياء المدينة، والمبنى متعدد الأعراق الذي نســكن فيه، وقلوبنا جميعا. شــارك فرحة الفــوز البريطانــي ـ وفي وقت لاحــق مرارة الهزيمــة - المواطن الإنكليزي والافريقي والعربــي والفيتنامي والأمريكي اللاتيني، في أحد المجتمعات الأكثــر تنوعا ديموغرافيا وعرقيا، وأحــد أفضل نماذج التعايش والتســاهل والســام فــي العالم. اختلفت الأصول والجنســيات والألوان، واتحدت المشــاعر الموالية لمجتمع واحد مشترك، نحيا في كنفه في تآلــف ووئام. العجيب فــي الأمر أنّ هذا التعايــش المذهل الــذي يجمع الإنكليــز وأجانب من أصول عرقية وألوان وأوطــان وثقافات متعددة، من أنحــاء المعمورة، ليــس حديثا، كما يعتقــد كثيرون. فقــد أثب،تت دراســة جديــدة، أنه يرمــي بجذوره فــي أعمــاق التاريــخ وتعــود بداياته إلــى العهد الأنكلوساكســوني مطلع القرن الخامس للميلاد. فمن يكون الأنكلوساكســونيون؟ ما سرّ نجاحهم في جمع شــمل البريطانيين؟ وهل تســتطيع البشرية في يوم ما الاســتفادة من التجربة الأنكلوساكسونية لتعميم التجانــس والتآلف، وتحقيــق عالم واحــد متطور يعمُّ أرجاءَه التعايشُ والتســامح والأمن والســام والانســجام على منوال المجتمــع البريطاني، متعدد الأجناس والألوان والثقافات؟
الانسحاب الروماني
ظلــت بريطانيا راضخــة للحكــم الروماني حتى مطلع القــرن الخامــس الميلادي. وقــد لعب الجيش الروماني القــوي دورا عظيما في الدفــاع عن الجزر البريطانية. وفي عام 410، أعلن الإمبراطور الروماني هونوريوس أنه آن الأوان لأن تتكفل بريطانيا بالدفاع عن أقاليمها. ترك انســحاب الجيــش الروماني فراغا في الســلطة ســرعان ما ملأه وافدون جدد من بلدان الشمال، يحملون اســم «الأنكلوساكسونيين». وكان لهؤلاء الوافدين الجدد فضل في بروز وانتشار لغتهم الأنكلوساكسونية التي خلفت شــيئا فشيئا لغة أكبر إمبراطوريــة في تاريخ البشــرية، الدولة الرومانية، وأزاحت اللغة الفرنســية التي كانت أيضا لغة سيدة، لتكون نــواة أكبر لغــة في العالــم، بل لغــة العالم الإنكليزية. وكان لهم أيضا الفضل في توحيد شــعوب وقبائل مهاجرة ومحلية في بريطانيا.
الممالك الأنكلوساكسونية
حــل الأنكلوساكســونيون في الجــزر البريطانية وافدين من شمال ألمانيا وجنوب الدول الإسكندنافية، اســتوطنوا جنــوب بريطانيا بعد انســحاب الدولة الرومانية في مطلع القرن الخامس للميلاد، واســتمر حكمهم إلى عام 1066 عندما تعرضــت بريطانيا لغزو النورمان. لــم يكن الأنكلوساكســونيون أمة واحدة، وإنما كانوا شــعوبا وقبائل وأصــولا عرقية مختلفة. وبعــد حلولهــم فــي بريطانيــا، امتــزج المهاجرون بالمحليين، وشــكلوا ممالك أنكلوساكســونية متعددة على منوال نورثمبريا، ومرســيا، ووســكس، وكنت، وأنكليا الشرقية، وسوسكس، وإسكس. وكانت الممالك القوية تســيطر على الممالك الضعيفة. فكانت بريطانيا آنــذاك نموذجا مصغرا لعالمنا اليوم المقســم إلى دول، الذي تسيطر فيه قوى عظمى.
أشبه ببريطانيا الحالية
لقد ســاد الاعتقــاد طويلا أن الأنكلوساكســونيين شعوبا وقبائل همجية. صورتهم النصوص التاريخية على أنهــم غزاة همجيون، اســتولوا علــى بريطانيا ســاعة ضعفها بعد تخلــي الإمبراطوريــة الرومانية عنها، وأنهــم حلوا محل المواطنــن الأصليين في هذه الجزر. وإذ بدراســة جديدة اليوم تقلــب كل الموازين معيدة الاعتبار لمؤسسي لغة عالمنا الإنكليزية. الدراسة الجديدة التي نشــرتها مجلة «بلــوس واحد» العلمية الأمريكيــة الصادرة عن المكتبة العامــة للعلوم، أكدت أن الأنكلوساكســونيين في واقع الأمــر بوتقة انصهار لشــعوب وقبائل لها أصول عرقيــة وثقافات وتقاليد مختلفــة. فقــد تحولت بريطانيــا في أوائــل القرون الوســطى إلى بيئة يتعايش فيهــا مواطنون أصليون ومهاجــرون، ضمن تنوع عرقي وثقافــي لافت للنظر. الدراسة الجديدة مثيرةٌ، تكشف لنا أنّه لم يجمع شملَ السكان الأصليين والمهاجرين في بريطانيا أثناء العهد الأنكلوساكســوني عرقٌ، ولا ديــن، ولا قومية، وإنما لغة مشــتركة. وبذلك تكون بريطانيا في مطلع القرون الوسطى أشبه ببريطانيا الحالية، هذا المجتمع المنفتح والمتسامح الذي يتعايش في كنفه المواطنون الأصليون والمهاجرون، مهما اختلفت أصولهم وأقطارهم وألوانهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، في تآلف وانسجام، ضمن ثقافة مشــتركة ولغة واحــدة، الإنكليزية. وهو ما أكــده دوبني، أحد رواد هذه الدراســة، عندما قال: «كانت الممالك الأنكلوساكســونية فــي أوائل العصور الوسطى تشبه كثيرا بريطانيا المعاصرة. كانت ممتلئة ببشرٍ من مختلف الأصول العرقية، يشتركون كلهم في اللغة والثقافة .»
أدلة بيولوجية مثيرة
فعكس النصوص التاريخية تماما التي كانت تصور الأنكلوساكسونيين على أنهم غزاة استولوا على البلاد، ها هي الأدلة الأثرية تكشف لنا أن الأنكلوساكسونيين الأوائل كانوا في الواقع ســكانا محليين يتعايشون مع مهاجرين. أجرى الدراسة الجديدة فريق من الباحثين على رأســهم دوبني من جامعة ســيدني الأســترالية وكيمبرلــي بلومب ومارك كولارد من جامعة ســيمون فريزر في فانكوفر الكندية.
اســتخدمت الدراســة تحليل شــكل ثلاثي الأبعاد لمقارنة تشــريح الجمجمة لـ236 فردا من الفترة الأولى والوســطى للعهد الأنكلوساكســوني. قــال بلومب: «أظهــرت الدراســات الســابقة التي أجراهــا علماء الأنثروبولوجيا القديمة أن قاعدة الجمجمة البشــرية تحمل بصمة يمكن اســتخدامها لتتبع علاقات البشــر بصورة مماثلة للحمض النــووي القديم. وعليه، قمنا بجمــع بيانات ثلاثيــة الأبعاد من مجموعــات هياكل عظمية من بريطانيــا والدنمــارك، وتحليلها لتحديد أســاف الأنكلوساكســونيين الذين تضمهم العينة.» واســتخلصت الدراســة أنّ نســبة 25 إلى 33 من الأنكلوساكسونيين الأوائل، كانوا من أصل محلي. النسبة بدت مرتفعة بشكل لافت للنظر لدى سكان المرحلة الوســطى للعهد الأنكلوساكسوني، حيث تراوحت بين 50 و70.%
لقد حــاول الإنســان عبــر تاريخــه الطويل فرض معتقداته على البشــر من حوله «بالسيف» علــى منــوال الفتوحــات الإســامية والحروب الصليبيــة ولم يفلح. وإذا بالديــن إلى يومنا هذا أكبر مصدر لتشــدد البشر وانقســامهم وخلافهم. وما هذا الصراع اليوم بين أهل الســنة والشــيعة في وطننــا العربي، وبين الأشــقاء الأرثوذوكس والبروتســتانت في إيرلندا الشــمالية، وعصيان اليهود المتشددين إجراءات الحكومة الإسرائيلية الموجهــة إلى كل المواطنين، إلاّ نماذج بســيطة عن ذلك. وبعــد الدين، أثبــت المشــاعر القومية أنها من أعظم أســباب الانقســام والحرب والعنف في العالم. القومية بذلك شكل آخر من أشكال التطرف، ما فتئت تقسم البشر، وتؤجج العنف وتثير سفك الدماء في أنحاء الدنيا، وتغذي الطموحات الإقليمية، وتشعل فتيل الحرب، وتفضي إلى الإبادة الجماعية على منوال الحــرب العالمية الثانيــة، وألمانيا النازيــة، وما انجرّ عنها من هولوكوســت وهلاك ملايين البشــر. العرقية من جهتها ســاهمت في تفجير الحــروب الأهلية وقتل ملايين البشــر. الأمثلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى في سجل التاريخ، من جملتها الحرب الأهلية البوروندية بين قبائل الهوتو والتوتسي، وهلاك 300 ألف مواطن، وترحيل أكثر من 1.2 مليون آخرين.
الأنكلوساكسونية الحل؟
والســؤال الذي يطرح نفســه عندئذ هو، ما الذي يســتطيع جمع شمل البشــر على ســطح كوكبنا بعد فشــل الدين والعــرق والقومية؟ لعل الجــواب على ذلــك يكمن فــي هــذه الدراســة الجديــدة المناقضة للنصــوص التاريخية، التي أثبتــت اليوم ولأول مرة أن الأنكلوساكســونيين لم يكونوا غــزاة قتلة خلفوا الســكان الأصليين للجزر البريطانية من أصل روماني وبريطاني، ولــم يكونوا مجموعة واحدة متجانســة وإنمــا مجموعة متنوعة مــن الشــعوب والقبائل من أصول وثقافات مختلفة، جمعتهم لغة أنكلوساكسونية واحدة وثقافة بريطانية مشــتركة. ويبقى التســاؤل، هل تســتطيع اللغــة أن تحقق ما عجــزت عن تحقيقه الأديــان والعرقيــة والوطنية في عالمنــا؟ واليوم مع الانتشار الواسع والســريع للغة الإنكليزية في أنحاء الدنيا، وســهولة تعلمها والتواصل بها، وما حققته من نجاح في العلــوم والتكنولوجيا والطب، وكل مجالات الحياة، هل تســتطيع الإنكليزية أن توحِّد عالَمنا يوما، مثلما وحدت من قبل الأنكلوساكســونيين المؤلفين من شعوب وقبائل وأعراق مختلفة؟