Al-Quds Al-Arabi

الأنظمة الرأسمالية زمن الجائحة: تحدّي الانسجام الاجتماعي للمجموعة الدولية

- *

التكنولوجي­ا وثــورة الاتصالات الحديثــة تجعلنــا من ناحيــة أكثر استقلالية عن الطبيعة، ومن ناحية أخرى أكثر تبعيّة لتقلّباتها. ومبادئ الحريــة الاقتصاديـ­ـة، والتجــارة الحرّة، والاستراتي­جيات الاندماجية وفتح الأســواق، لم يكن من شــأنها أن تحقّق السلام، تماما مثلما أثبتت الحرب العالمية الأولى والثانية، ومخاض الحرب الباردة استحالة تحقيق تعاون سلمي بين دول متنافسة.

والليبرالي­ة الجديدة السائدة على نطاق العالم لا يمكن أن تنتج ســوى ما نراه حاليا، وهو اســتقطاب الثروة، والتدهــور في أحوال شــعوب بأكملهــا، وتنامي النزعة العســكرية والاحتلال، واضطهاد أمم بأســرها، وتدهور أحوال العمال والفئات الوســطى والســكان الأصليين، وتفكيك الخصائص الثقافية للجماعات المختلفة، وتدمير البيئة، وتســليع الحاجات الإنســاني­ة، وتنميط الثقافة وتهديد بقاء البشر زمن الأوبئة.

والجائحــة العالمية كشــفت مــن جديد عجــز الدولة الوطنية عــن التجاوب مــع معطى العولمــة ورهاناتها، وتحدّيات السوق والتقنية وتشجيع رأس المال، بما يؤكد ما وصلت إليــه المجتمعات الإقليمية بفعــل تأثير العولمة الثقافية والسياسية والاقتصادي­ة، التي أصبحت معرّضة لموجــات مُتقلّبة، ولقوى لا تســتطيع التحكّــم فيها، ولا سلطة لها عليها. فالتنافس الاقتصادي والمصالح النفطية والمناورات الجيوسياسـ­ـية ألغت الإقليمية، بصفتها مبدأ تنظيم المجتمع ونوازعه الثقافية.

وخلْــف مقولة العولمــة والقرية الكونيــة، أفرز عصر مــا بعد التحرر الوطني علاقات تبعيــة أخرى غابت فيها الســيطرة العسكرية المباشــرة، مقابل ســيطرة ثقافية واقتصادية، فأوقعت دولا فــي تبعية دول، وصارت دول في موقع المركــز وأخرى في موقع المحيــط. وهي صورة للرأسمالية الشــاملة وأيديولوجي­ا الليبرالية الجديدة، يُعاد من خلالها إخراج مشــهد الاســتعما­ر التقليدي بين المرشــدين الدّوليــن والزبائن. وضمن هــذه الدينامية المتســارع­ة، ظلت الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث في تبعية للدول الاستعماري­ة، تتحرّك في محيطها سياسة واقتصادا وثقافة ومعرفة. ولم يكن ممكنا في ظل انعدام التوازن بــن الدول القوية والأخــرى الضعيفة، إقامة علاقــات تكامل وحــوار في ما بينهــا، لأنّ الحوار الثقافي والسياسي لا يتمّ في ظل غياب التوازن والتكافل ومنطــق الندية. تطورات الاقتصاد الرأســمال­ي هي التي خلقت المشــاكل الكبرى التي يواجهها الكوكب الآن، مثل تدمير البيئــة والأزمة العامة في الأنظمــة الديمقراطي­ة، وتزايــد التفاوت الطبقــي وغياب العدالة بــن الناس، والتســابق نحو التسلح وصعود الأحزاب والشخصيات الاســتبدا­دية والديماغوج­ية. وقد أظهرت الحرب العالمية الثانية أنه مع المؤسســات القائمة، كان من الممكن حشــد الموارد على نطــاق يتجاوز بكثير ما هــو مطلوب اليوم، وبشــكل فعال للغاية. وبتعبير تشومسكي، إذا كنت تريد أن تســأل عما يحــدث الآن «أعتقد أننــا تعرضنا لهجوم الاعتداء النيوليبرا­لي الذي كان مدمرا» ويؤدي تصميمه الأساســي إلى تركيزات عالية للثروة والقوة في أيد غير خاضعة للمســاءلة، ونمو هائل للمؤسســات المفترســة أساسا، ومعظمها مالية. وقد أدى ذلك إلى مشاعر الغضب والاستياء، وعدم الثقة في المؤسسات في كثير من أنحاء العالم. وهو أمر له بعض المبررات، وهذه مساحة خصبة للغوغائيين. فطفرة الاقتصاد والمال والبضائع كان يُعتقد أنهــا وحّدت العالم، ولكنها في الواقع خلقت فقط ســوقا ضخمة، مــن دون روح أو وعي أو معرفة. ونحن أصبحنا مجرد زبائن، ولســنا أفرادا في العائلة الإنسانية. والأمر لم يقتصر على ذلك، بل إن هذه الرأســمال­ية المتوحشــة دمرت البيئــة والديمقراط­يــة والمســاوا­ة الاجتماعية. فإشارات الســوق كانت واضحة على الدوام، ليس هناك ربح في منع وقوع كارثة مســتقبلية. كان يمكن أن تتدخل الحكومات بشكل أكثر فعالية منذ بداية الجائحة العالمية، ولكن هذا ممنوع في ما يبدو، بســبب العقيدة الرأسمالية الحاكمــة التي تقول إن «تدخل الحكومة هو المشــكلة» ما يعني أنه يجب تسليم عملية صنع القرار بشكل كامل إلى عالم الأعمال، وهو مكرس للقطاع الخاص والربح الخاص بطبيعــة الحــال، وليس فيــه أولئك الذين قــد يهتمون بالصالح العام.

العولمة حوّلــت العالم إلى ســوق كبيــرة، من خلال التكنولوجي­ا المتطورة التي قربت المســافات بين القارات، ولكن في الوقت نفســه، فإن تجاوز عائق المســافات لم يؤد لإرســاء الحوار بين الشــعوب. وفي الواقع أدى هذا الوضــع إلى تعزيز فكرة الانغلاق علــى الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، وبتأكيد ادغار موران، فإن هذه الســوق العالمية التي نعيش فيها، لم تتمكن من خلق مشــاعر الأخوة بين الشــعوب، بل على العكس من ذلك خلقت حالة من الخوف من المستقبل. واليوم جاء فيروس كورونا ليســلّط الضوء على هذه المفارقة، ويجعلها أكثر وضوحا للجميع. هذا الوضع يذكرنا بالأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما اتجهت دول أوروبية، وبشــكل خاص ألمانيا، نحــو القومية المتطرفــة. وخلافاً لتدفق رأس المال، يسعى هذا الفيروس للانتشار، وليس الربــح. وبالتالي فإنه «عكَس إلى حــد ما اتّجاه التدفق» مثلما عبّــرت الكاتبة الهنديــة أرونداتــي روي عن هذا الوضع الاســتثنا­ئي الذي يعيشه العالم. الذي سخِر فيه هذا الفيروس من ضوابط الهجرة، والقياسات الحيوية، والمراقبــ­ة الرقمية، وجميــع أنواع تحليــات البيانات. وضرب بشــدة حتى الآن في أغنى وأقــوى دول العالم. ومازال يتحوّر ويقاوم التطعيمــا­ت، الأمر الذي أدى إلى توقّف محرك الرأسمالية، ربما مؤقتاً، لكن على الأقل لفترة طويلة بما يكفي لفحص أجزائه، وإجراء تقييم وتحديد ما إذا كنّا نريد المســاعدة في إصلاحه، أو البحث عن محرك أفضل.

وبالمحصلة، كشــفت هشاشــة النظم الاجتماعية في معظــم الدول عن الحاجــة إلى تعميــم الرعاية الصحية للجميع، إذ أن بلــدا يقتصر فيه الدخول للمستشــفي­ات والحصول على الأدوية على الأثريــاء، لا يمكنه الوقوف في وجه الوباء. وترك غالبية الشعب ليواجهوا مصيرهم لوحدهم، يعني زيادة انتشار الفيروس من دون أي قدرة على احتوائه. ولا يمكن، حســب موران القبول بمواصلة إدارة المستشــفي­ات والمدارس والجامعات على أســاس الربح المالي، بل يجب التفكير في إنشاء مواطنين أصحاب عقول، وذلك مــن خلال العودة للاعتمــاد على الخدمات الحكوميــة­ن التي تراجعــت كثيرا في العقــود الأخيرة، في الدول الرأســمال­ية الغنية كما في الدول النامية. ومن الضروري اليوم العمل على خلق نوع من الوعي المشترك بين سكان العالم، بناء على أسس إنسانية، وذلك من أجل تشــجيع التعاون بشــكل ثابت ومبدئي، وخاصة زمن الأزمات والجوائح. كاتب تونسي

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom