Al-Quds Al-Arabi

سهى جرار... رحيل مفجع في زمن «الشر العادي»

- *

كان لا بد للأسيرة خالدة جرار أن تحكّ ذراع الشرّ مرّة أخرى، لا كي تمتحنه، بعد خمســن عاماً من القهر والوجع، بل لتؤكد لنفســها أنها مــا زالت قادرة على الســفر فــي دروب الملح؛ ولكــي تثبت، للعالم أيضاً، أن التاريــخ قد يكتبه الغاصبون والأقوياء، لكنّ مداده كان وسيكون دوماً من دماء ضحاياهم، وصفحاته ستبقى هي أرواحهم المعذبة الخالدة.

لقد ســمعت خالدة نبأ وفاة ابنتها ســهى حــن كانت مع رفيقاتها الأســيرات فــي غرفتها في ســجن الدامون، الذي يقع علــى قمة جبل الكرمــل؛ فأمضت ليلتها، هكــذا أتخيّل، وهي تعصر قلبها قطرات من أســى ولوعة وحنين لا يداوى. وحين زارها المحامــون في صباح اليوم التالي وجدوها قويّة وصابرة؛ فأوصتهم أن ينقلوا باسمها، لأهلها ولشعبها، دعاء الأســيرات الأمهات اللواتي يتحرّقن حسرة ولوعةً وشوقاً، وينتظرن، بعناد وبشــموخ موعدهن مع الحرية في أحضان الوطن وعلى ترابه، مع أحبابهن.

أعرف أن خالــدة لم تراهن على موقف مصلحة ســجون الاحتــال الإســرائي­لي إزاء مطالبة محاميها بالســماح لها بحضور جنــازة ابنتها؛ فهي وزوجها غســان، أبناء لأجيال فلسطينية خبرت، منذ عقود، كيف يكون «الشر عادياً» وكيف يكون التاريخ أسودَ، وتكون «تاؤه» مربوطة على قرني محتل ظالم وشرير؛ فعندها، هكذا تعلّما، لا يصح التنبؤ والانتظار؛ فالشــر لا يعــرف إلا أن يتمظهر بطبيعتــه العادية الواحدة البسيطة والواضحة، ونتائجه دائما متوقعة وبديهية.

ترددت كثيرا قبل اتصالي بغســان كي أعزيه بوفاة سهى؛ وتمرّنت على عدة ســيناريوه­ات ممكنة لبداية مكالمتي معه، لكننــي لم أعرف أيها ســيكون الأهون علــيّ وعليه. طلبته، فرد عليّ مباشــرة بصوته المألوف، وبلكنته المميزة التي كان يصاحبهــا القلق. صمتُّ لوهلة، ثم بدأتُ معتذرا أنني لســت إلى جانبه في هذه الأوقات الصعبة. حاولت أن استرسل في شرح أعذاري، فقاطعني بدماثة صديق عتيق وقال: «من قال أنك لست موجوداً فأنت معنا الآن ومنذ أكثر من ثلاثين عاما، ألا تذكر ؟».

أتذكر بالطبــع كيف تعرّفت إلى غســان جــرار وخالدة رطــرورط/ جرار، حين كانا طالبين يســاريين ناشــطين في جامعة بير- زيت، وحــن أحبّا بعضهما، ومضيا يربيان معا قلبين أحمرين ويسيران على دروب مقاومة الاحتلال، وبناء عائلة تباركت أولاً «بيافا» وبعدها «بســهى»؛ فكبرتا طفلتين طموحتين فــي دفء خيمتين وارفتين وعلــى الوعد والعهد نفسه. لم أعرف، وأنا أحدّثه، إذا كان المقام يتيح لي دق أبواب ذلك الماضي، عندما اعتقلت قوات الاحتلال الاســرائي­لي، في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1992، غســان من بيته في رام اللــه، واقتادوه إلى معتقل الظاهريــة، ليجد أن رفيقيه، حســن عبد الله وعلي فارس، قد سيقا قبله إلى هناك؛ وكيف في غداة تلــك الليلة أخبروهم بأن قائــد جيش الاحتلال قد أصدر أوامر إبعادهم عن الوطن لأنهم، كناشــطين في الجبهة الشــعبية لتحرير فلســطين، يخطّرون أمن المنطقة وسلامة الســكان. اســتأنفت محادثتي مؤكدا على أنني أعرف كيف يتقطع قلبه على فقدان حبيبته ســهى؛ لكنني، هكذا أضفت، أعرف أيضا صلابته وقوة تحمّلــه ورجاحة عقله وحكمته، وتمنيت عليه أن ينجح في تخطي الأزمة، لتصبح ذكرياته مع سهى مشــاعل تنير فضاءاتهم بالبسمة، التي ستبقى كسيرة وحزينــة، وبالأمل. ثم انتقلت، محــاولا حجب غصة داهمت حلقي، وســألته: هل تذكــر عندما زرتك فــي معتقل الخليل لأرتب معك تدابيــر معركتنا في الدفاع ضــد أوامر إبعادكم، أنت وحســن وعلي. أجابني: طبعا أتذكر، ثم أردف، وكأنني أشــعلت في صدره شــرارا: كان الثلج يغطي مدينة رام الله وجبال فلسطين، وكنا نجلس في بيتنا أنا وخالدة ويافا ابنة الخامســة. انقطع صوته لهنيهة، وكأنه كان يبعد عن عينيه الندف، ثم أضاف: «كان عمر سهى أربعة عشر شهراً». سمعت في صوته نبرة حنين دفين فأكمل مضيفا: «عســاك لا تتذكر، يا جواد، فسهى كانت قد ولدت في يوم ‪9//11 1990‬وأنا كنت في ذلك الوقت سجينا في زنازين سجن رام الله، وأنت كنت المحامي عني. جئتني إلى ســاحة بجانب الزنازين لتخبرني بأن القاضي العســكري، أمهل المحققين مدة اثنتين وســبعين

ســاعة، وبعدها، هكذا طمأنتني، فإما أن يقدّموا بحقي لائحة اتهام، وإمــا أن يحيلوني إلــى الاعتقــال الإداري، وإما أن يفرجوا عني. كنــتُ منهكاً من التعذيب فســمعتك بطمأنينة وحفظت وصيتك التي جعلتني بعــد أن غادرت مثل الرخام أصم، فأفرجوا عنــي بعد أربعة أيام». كان يخاطبني وكأنني زرته قبل أيام قليلة؛ شــأنه، في هذه التجربة شــأن جميع الفلســطين­يين الذين يبنون قصور آمالهم من تراكم أفراحهم الصغيرة؛ فيفرحون بســقوط الثلج علــى لياليهم المزعجة، ويحســبونه رســائل حب من الســماء، وينتصرون قليلا، ويصمدون كثيراً، وينامون خفافاً ولا يحلمون بالمستحيل.

مدهش كيف تحفــظ الضحية تفاصيل معذبيها وتعذيبها، وكيف يتذكر جسدها تقاســيم السياط واختلاف موسيقاها فــي كل ضربة هاويــة على لحمها ومع كل أنــة. ومفرح كيف يواجه الفلســطين­ي تلك الذكريات، فهــي، وإن بقيت ندوباً على ذاكرته، ســرعان مــا تتحول إلى صور مــن هزائم مُنيَ بها الظالم، وتفاصيل ترســم فسيفساء صمود شعب ما زال، رغم ظلم الاحتلال وبطشه، ورغم خيانات الاشقاء والأقارب «يحلم بالزنابق البيضاء» وبالثلج، ويطارد حبيبات الندى ليحيا أبناؤه عزيزين رغم طغيان العهر والعطش والسراب. لقــد ازعجتهم حريّة غســان؛ فعــادوا في مطلــع عام 1992 واعتقلوه مع مجموعة من رفاقه، بنية إبعادهم خارج الوطن. أوكلت للدفاع عنهم أمام لجنة الاعتراضات العســكرية، ومن ثم فــي الالتماس الــذي قدمناه إلى «محكمة العــدل العليا» الإســرائي­لية. زرتهم مرارا في ســجن الخليــل وأعددنا معاً نصوص مرافعاتهم بعد أن اتفقنا، هكذا ذكرني غســان، على ضرورة المماطلة في الإجراءات القانونية، فإسرائيل في تلك الأيــام كانت على عتبة خوض انتخابات برلمانية لا تســاعد أجواؤها على إدارة معركة سياســية شــعبية ضد سياســة الإبعادات، ولا المضي فــي معركة قانونيــة مجدية بالطبع. قدم غســان ورفاقــه مرافعاتهم الطويلة التــي كانت عبارة عن لوائــح اتهام بحق الاحتلال وموبقاتــه؛ أما أنا فتحدثت وأطلت، ثم أجملت مرافعتي، كما أوردها الأســير حسن عبد الله، الذي أصبــح روائياً وقاصــاً فلســطينياً معروفاً، في مجموعته القصصية «رام الله تصطاد الغيم» فقلت للقضاة: «مرافعتي الإجمالية ســتكون قصيرة وموجزة، فهذه رغبة من أوكلوني عنهم، حيث طلبــوا مني أن اعترف أمام المحكمة نيابــة عنهم بما يلي: الرجال الذين يجلســون فيما تطلقون عليه اســم - القفص- يعترفون بأنهم يعشــقون الزيتون ويفتنون بنــوار اللوز، ويطربــون للحن الشــبابة.. إنهم يعترفون بحســهم المرهف الشــفاف عندما يستمعون لبكاء طفل ويهتزون مــن أعماقهم لزغرودة أم شــهيد، وهي تزف ابنها في عرس مهيب؛ فهل تســتحق هذه التهم عقوبة الطرد من الوطن». لن اسهب في تفاصيل الحكاية؛ ففي شهر تموز/ يوليو عام 1992 انتخبت في إســرائيل حكومة جديدة، فقام وزير عدلها بإلغاء أوامر الأبعاد بحق غســان ورفاقه، مؤكدا عمليا بقراره، ما أعلناه دوما على أنها كانت قرارات سياسية باطلة وكيدية وتســتهدف إلحاق أبشع العقوبات الوحشية بحق الفلسطينيي­ن. ولكنهم، لم يفرجوا عن غسان جرار، بل حوّلوه إلى الاعتقــال الإداري، ليمضي، وراء قضبان القهر، مدة خمسة عشر شهرا إضافياً.

«تعرف كم نحن أقويــاء» هكذا أجابني حــن رجوته أن يصمد كي يســعد «يافا» ويبقى إلى جانب خالدة، لكنه تابع وقال بصوت الأب الحنون: «لكننا، في النهاية، نبقى بشــرا، نحب حتى آخر الأنفاس، ونعشــق الفجر وهو يراقص محيّا بناتنا، ونذوب حــن يغرقوننا بالرقــة وبالغنج. لقد قصم ظهري هذا الرحيل». ثم اســتعاد تفاصيل تلــك الليلة، قبل ثلاثين عاما، عندما كانت ســهى طفلة صغيرة، ويافا عروسا تحب الثلج، وحين «لبســت رام الله، مدينته الحبيبة، ثوب زفافها ونامت ترتعــش من الانفعال تحت أنفاس عريســها القادم من الســماء» كما كتب صديقنا حســن عبــد الله في قصته الجميلة «عروسان في الثلج» ووصف فيها كيف قضى غســان ليلته الأخيرة مع عائلته وكيف سألته يافا «ألا يلعب الناس في بلادنا بكــرات الثلج؟» فأجابهــا «بعد أن تنامي، فإذا نمت ســنخرج جميعنــا من البيت فــي الصباح ونلعب بالثلج، ونقيــم تمثالا جميلا، وســأصورك بجانبه ثم نعمل كرات ثلجية ونقذف بها أمك». فرفضــت يافا فكرة قذف أمها لأنها تحبها، فأجابها غسان بأنه هو أيضاً يحب أمها، فقالت: «إذن سنقذفك أنا وأمي بالثلج». ثم أغمضت يافا عينيها وهي تحلم، فحملها غسان إلى ســريرها وغطّاها جيدا وطبع على جبينها قبلة. ســمعته يتنفس بصعوبة ثم قال: ما زلنا نحلم بذلك التمثال الأبيض، وبالعروســ­ن وهمــا تلعبان بكرات الثلج.

أصغيت له بخشــوع مضطرب، وحاولت أن أحيط صدري بكواتم أصوات، وخفت أن يشعر بأنني ضعفت حتى البكاء؛ وددت لو كان في مقدوري أن أســمعه زفرة «الدرويش» حين قال: «للحقيقة وجهان، والثلج أســود فوق مدينتنا، لم نعد قادريــن على اليأس أكثر مما يئســنا» لكنه ســألني فجأة، متى ســتزور خالدة، فقد تكون هي بحاجة لمثل هذه الزيارة؟ وعدته قريبا.

التاريخ قد يكتبه الغاصبون والأقوياء، لكنّ مداده سيكون دوماً من دماء ضحاياهم، وصفحاته ستبقى أرواحهم المعذبة الخالدة

كاتب فلسطيني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom