Al-Quds Al-Arabi

حول تكتيك المغرب باستعمال ورقة حق القبايل في تقرير المصير

- ٭ كاتب وباحث مغربي

■ فوجئــت الجزائر قبل أيام بموقــف جديد للمغرب، عبرت عنه مذكرة تقدم بها الســيد عمر هلال سفير المغرب الدائــم بالأمم المتحدة وتم توزيعها بشــكل رســمي على ممثلي الــدول، تتبنى مقولــة حق الشــعب القبايلي في تقرير المصير. والحقيقة أن المفاجأة لم تكن فقط جزائرية، بل كانت مغاربية، وربما مغربية أيضا، فجزء مهم من النخب السياســية المغربية، لم تكن تتوقع أن يســتعمل المغرب هذه الورقــة لإقامة التوازن مع الجزائر التي ظلت تســتعمل الورقــة ذاتها لحوالي نصف قرن فــي صراعها مع المغرب. هذا الموقف أغضب الجزائــر، ودفعها إلى طلب توضيح حول دعم الرباط لانفصال القبايل، بل دفعها إلى سحب سفيرها في الرباط وأدخلها في حملة إعلامية هيستيرية كثيفة وجهت كل نيرانها إلى الرباط.

هذا الموقف أثار جدلا واســعا داخل الجزائر وخارجها، بــل حتى داخل المغرب ونخبه الحية، إذ لم يستسغ البعض أن يركب المغرب نفس أطروحة الجزائر، ويستعمل ورقة دعم الانفصــال في مواجهتها. النخب العروبية والوحدوية لم تستســغ الموقف المغربي، ورأت فيه إضعافا لمصداقيتــ­ه التي بناها في التعامل مع الجزائــر حوالي نصف قرن من الزمن، فالمغرب كان دائمــا وحدويا، ضد أي نزعــة انفصالية تهدد وحدة الكيانــات العربية أو المغاربية، ويتحفظ دائما على اللعب بالورقة التي تستعملها الجزائر ضده، ولذلك، رأت في موقف ممثل المغرب نكوصا عن موقفه الثابت، وارتدادا لأسلوب الجزائر في دعم الانفصال وتمزيق الكيان المغاربي.

جزء مهم من الداخل المغربي، رفض التحول في الموقف، واعتبره انزياحا خطيرا يتطلب تصحيحا عاجلا، وأن الاستثمار في ورقة الانفصال، لا تضعف فقط الموقف لمغربي، بل تهدد حتى وحدة التراب المغربي، على اعتبار أن هناك مخططات أجنبية تحاول اســتعمال ورقة توحيد الشعب الأمازيغي في شــمال إفريقيا من أجل خلق دول تجزئة بالمنطقة. فثمة عدد من الدراســات والتقارير الإســرائي­لية، تدفع دفعا نحو الاشــتغال على التوترات الإثنية واللغوية شمال إفريقيا، وعلى انفصال الهويات الأمازيغية شمال إفريقيا وتقويض أسس الوحدة الترابية في بالبلدان المغاربية، بل تحاول اســتثمار هذه الورقة من أجل توســيع عملية التطبيع مع إســرائيل بحجة أن الصراع العربي الإسرائيلي لا يعني الأمازيغ، وإنما هو مخصوص بالعرب.

والواقع أن النقاش في هذه القضية، يتطلب التمييز بين مســتويين: مستوى المثال، أي مســتوى المبادئ والقيم، الذي اعتمده المغرب حوالي نصف قرن من الزمن، دون أن تنجح النخب التي ترفع شــعار الوحــدة أن تجعل الجزائر في دائرة المســاءلة، فالجزائر كانت السباقة إلى استعمال ورقة دعم الانفصال، واستثمرت رصدا ماليا وسياسيا ودبلوماسيا ضخما لتقويض الوحدة الترابية للمغرب، دون أن تتحرك النخب العروبية والإســامي­ة، سواء داخل الجزائر أو خارجها لإدانة هذا الســلوك، بل تعاملت مع المغرب والجزائر، كما ولو كانا في صراع سياسي لا علاقة له بقضية الوحدة والتجزئة، وفضلت دائما البقاء في مربع الحياد. أما المســتوى الثاني، فهو المســتوى الواقعي، أي مستوى الصراع السياسي على الأرض والعمل الدبلوماسي الواقعي الذي يحتكم إلى ديناميات السياسة.

المغرب جرب طويلا خطاب المبادئ والقيم، وكان بالإمكان أن يكون له دور حاســم في أحداث كبيرة عرفتها الجزائر، وفضل أن يبقى في مربع الحياد، بل قام بأدوار مهمة خدمت استقرار الجزائر في اللحظة التي كانت فيها كل الشروط تدفع نحو عدم الاستقرار. وحتى في لحظات الحراك الجزائري الذي لا يزال ممتدا لليوم، انضبط المغرب لخط الحياد، وبقي بعيدا عن الانخراط في أي تكتيك يغلب خيارا ما يعود إلى مصلحته. ربما نضج لدى صناع القرار في المغــرب رأي يقول بأن خيار القيم والمبادئ، لم ينتج شــيئا، بل لم يدفع النخب المبدئية إلــى محاكمة الجزائر، فالنخب العربية الوحدوية ظلت دائما في منطقة الوســط والحياد، دون محاكمة الجزائــر، والنخب الجزائرية الداخلية، بما فــي ذلك الناقمة على الســلطة، والأشــد تمســكا بخيار الوحدة، لم تدعم الموقف المغربي إلا في حدود جزئية، وظلت تناصر أطروحة الســلطة، بما في ذلك نخب الإســاميي­ن الأشــد مناصرة للخطاب الوحدوي )حركة مجتمع الســلم وحركة النهضة وغيرها( فقد ناصرت أطروحة الســلطة الداعمة للانفصال ولم تناصر خطــاب المبادئ والقيم. وهي اليوم، تقف على خط المفارقة، إذ تنخرط في حملة النظام الجزائري ضد المغرب دفاعا على الوحدة الترابية للجزائر، ولا ترى في مناصرتها الســابقة لنظام العسكر الذي يســتهدف الوحدة الترابية المغربية، أي مس بمبدأ الوحدة، أو تدخل في الشــأن الداخلي المغربي. إسلاميو الجزائرـ خاصة حركة مجتمع الســلم ـ كانوا يعيشون ازدواجية خطيرة، فيعلنون في الرباط أن موقف الجزائر تجاه الصحراء لا يعنيهم وأنه يعني فقط السلطة، وأنهم مع الوحدة الترابية للمغرب ومع وحدة الشعوب المغاربية وأن مشكلة الصحراء ستجد حلها بتغير نظام الحكم في الجزائر، لكنهم حين يعودون للجزائر، ينتجون نفس خطاب السلطة تجاه هذه القضية. ربما نضج هذا الرأي لدى صناع القرار في المغرب، بعد اســتقراء كل هذه التطورات، وبدا وكأنه صار يمثل خطا رادعا، يمكن اللجوء إليه في هذه المرحلــة، لإقامة نوع من التوازن. والواقع أن التلويح بدعم الانفصال في الجزائر )حق الشــعب القبايلي فــي تقرير المصير( هي ورقة قوية ومؤثرة، وليس هناك أدنى شك أن نخب الحكم في الجزائر تنظر إليها بجدية كبيرة، فهي تقدر بأن هذه الورقة متداولة ضمن خيارات إرادات دولية، وتتحســس في أي لحظة أن تدخل الجزائر ضمن مربع هذه الإرادات، بحكــم مقدراتها في موارد الطاقة، وتعتبر أن الاتفاق الثلاثي الذي أبرم في الرباط يمثل تهديدا أساسيا للجزائر.

من هذه الجهة، ســيكون المغرب مســتفيدا من طرح هذه الورقة، كخيار ردعي، لإقامة التوازن، ولدفع الجزائر إلــى مراجعة أوراقها، لكن في المقابل، ثمة محاذير ينبغي الانتباه إليها جيدا. منها أن هذه الورقة مفتوحة على كل الاحتمالات، وغير مضمونة، أي أنها ليست للاســتعما­ل من جانب واحــد، وليس متحكما في نتائجها، فيمكن أن تســتعمل من جهات أخرى، ويمكــن أن تكون مخرجاتها مضرة بمصالح المغرب، ووحدته واســتقرار­ه، ما دام أن هناك إرادات دولية تحمل مخططات أكبــر من مجرد اللجوء للردع لإحقاق حق أو لرفع مظلمة. في التوتر مع إســبانيا، أنتج المغرب لغة راقية في التعاطي مع إســبانيا، وتحدث بخطاب ردعي قوي، كان من بين مفرداته الموقف من انفصال كاتالونيا، فكان الخطاب أشبه ما يكون بتهديد بدعم الانفصال، إذا استمرت إسبانيا في الموقف ذاته، لكن دون تورط من جهة الخطاب في دعم الانفصال.

يحتــاج المغرب في تعاملــه مع الجزائر لتبنــي مقاربة ردعية قوية تقــوم على منطق التعامل بالمثل، وهو أمر تفرضه ديناميات السياسة لا منطق خط القيم والمبادئ، فالتهديد بورقة دعم «حق الشــعب القبايلي في تقرير المصير » في ظل السياسة الجزائرية العدائية تجاه المغرب، تظل ورقة مشروعة، يمكن استعمالها للتهديد لإقامة التوازن، ودفع الجزائر إلــى مراجعة سياســاتها، لكن، دون أن يصل ذلك إلى المدى الــذي يمكن أن يضر بصورة المغرب ومصداقيته كبلد يسعى دائما إلى دعم وحدة الدول واستقرارها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom