Al-Quds Al-Arabi

فضيحة «بيغاسوس»: المداواة بالتي كانت هي الداء

-

■ للأنظمــة والــدول والأجهزة الاســتخبا­راتية التي لا تملك رفاه التجســس، على الدول والساســة والأفراد، عبر الأقمــار الصناعية والتكنولوج­يا ذات الكلفة العالية؛ تطوعتالشرك­ةالإســرائ­يلية لاقتراحتكن­ولوجيا تجسس متواضعة القيمة، ولكن ليست محدودة الجدوى بأية حال، هي تطبيق «بيغاســوس» نسبة إلى الحصان المجنح الشهير الذي خلّدته الميثولوجي­ا الإغريقية. أكثر من 50.000 رقــم هاتف، في 50 بلداً على الأقلّ، تمّ اختراقها في صيغة تنصّت مباشر أو سرقة معطيات أو تفريغ محتويات أو زرع وسائل تجســس طويلة الأمد؛ والتكنولوج­يا التي يســتخدمها التطبيق تقوم على مبدأ «صفر ضغط» أي أنّ صاحب الجهاز لن يضغط على رابط أو يفتح صفحة، الأمر الــذي لا يثير أدنى ارتياب؛ كما أنــه يتفادى تماماً طرائق القرصنة أو «التهكير» التي اعتبر مطوّرو «بيغاسوس» أنّ الزمان عفا عليها.

وفضائح «بيغاسوس» التي تكشــفت مؤخراً، وتولّت إماطــة اللثام عنهــا منظمة العفــو الدوليــة ومجموعة

و15 وســيلة إعلاميــة عالمية، قد لا تعادل ما كشــفه إدوارد ســنودن في ســنة 2013 حول برنامج التجســس «بريــزم» الذي أنشــأته وكالة الأمن القومي الأمريكية للتجسس على الدول والأفراد. إذْ يصحّ أن يبدو «بيغاســوس» أشــدّ خطورة، لسبب أوّل هو أن» «بريزم» لم يكن تطبيقاً تجارياً يُباع لأيّ جهاز تجسســي يدفع ويشتري، بل جرى اســتخدامه )ضمن إطار تعاون مذهل بين أجهزة استخبارات وتنصّت أمريكية وأوروبية وأسترالية( لاختراق خوادم غوغل وياهو وميكروسوفت وفيسبوك وتويتر ويوتيوب وســواها. الفارق الآخر هو أنّ الشــركة الإسرائيلي­ة، بعلم حكومات الاحتلال المختلفة بالطبــع، كانت تبيــع التطبيــق إلى أجهــزة ودول رغم علمها، مســبقاً، بأنه يمكن أن يُســتخدم للتجســس على هاتف رئيس دولة صديقة للاحتلال، أو لأفراد لا يُشكّ في ولائهم للسياسات الإسرائيلي­ة الاستيطاني­ة والعنصرية والإجرامية.

وبلد منشأ «بيغاســوس» دولة الاحتلال الإسرائيلي، يفســر الكثير من الصمت المطبق الذي خيّم على الساسة ورجال المــال والصناعة والإعــام، في بلد مثل فرنســا تردد أنّ هاتف رئيســه تعرّض للاختــراق؛ إذْ أنّ التطرّق إلــى الحكاية يســتوجب التوقــف عند الدولــة الراعية للتكنولوجي­ــا، وليســت بخافية عواقب الــزجّ بالخلفية الإســرائي­لية في ملفّ انفجاري مثل هذا. الذريعة الأولى التي يلجأ إليها الصامتون هــي أنّ التحقيقات لا تزال في البدايات ولا يجوز التسرّع في إصدار الأحكام، والذريعة الثانيــة هي المســاجلة بأنه لا جديد في الأمــر لأنّ الدول الحليفة والديمقراط­ية تتجســس على بعضها، والذريعة الثالثة هي الأكثر ابتذالاً وخسّة لأنها تهرب من ملامة دولة الاحتلال إلى تسجيل نقاط سياسية/ حزبية ضدّ الحكومة أو ضدّ ماكرون شخصياً بتهمة التقصير في تأمين الحماية الأمنية للهواتف. ولو لم يكن التطبيق صناعة إسرائيلية، وكان أمريكياً أو بريطانياً أو ألمانياً أو روســياً أو صينياً أو حتى فرنسياً، فللمرء أن يتخيل بسهولة الصامتين أنفسهم وقد انفتحت أشداقهم وضجّت زعيقاً وندباً وشتماً...

وحول طبيعة «الضحايا» إذا جاز التعبير هكذا، يتردد أنها تبدأ من رؤساء جمهوريات وملوك ورؤساء حكومات، ولا تنتهــي عنــد وزراء ومســؤولين كبــار فــي مختلف القطاعات السياســية والاقتصادي­ة والصناعية والأمنية، ولا يصحّ أن تُختتــم من دون إدراج مئــات الصحافيين، المعارضين غالباً ونقّاد الأنظمة عموماً؛ شــرقاً وغرباً، في مختلف نُظُــم الحكم الملكية والجمهورية والاســتبد­ادية، كمــا يتوجــب التذكير. ومــن طرائف الكشــوفات، التي أخــذت تتوارد تباعاً يوماً بعد يــوم، أن يكون هذا الجهاز التجسســي أو ذاك مهتمــاً بالتنصّت علــى رأس الدولة أو كبار المقربــن منه أو حاشــيته، أو أن يكون رأس ذلك الجهاز التجسســي ربيب الدولة الاستعماري­ة ذاتها التي يجري التجســس على رئيســها )كما في مثال فرنســا، والرئيس الفرنســي إيمانويل ماكــرون(. ولا يدخل هذا في بــاب الطرائف إلا لأنه غير مســتغرب البتة، فالتاريخ

يســجّل آلاف النماذج على «المخبر المحلّي» الذي تربى في أحضان الجهاز الاســتعما­ري لينكّل بأبناء وطنه، ثم صار بعدئذ خادماً أميناً لأجهزة «ما بعد الاستقلال» فجاز له أن يستهدف سادته الأوائل.

ليس طريفاً البتة، في المقابل، أن تســارع بعض الدول المتهَمة باســتخدام «بيغاســوس» إلى نفي تورطها، جملة وتفصيلاً والحقّ يُقال؛ وذلك بالرغم من أنّ سجلات بعضها، في انتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات العامة والدوس على كرامات الناس وحرمات الحياة الشــخصية، لا يُعلى عليه ولا يُجارى. وهذا ســلوك يتجاوز بكثير دبلوماسية غســيل الأيدي القذرة وتجميل الوجــوه القبيحة، كما أنه لا يرقى حتى إلى مســتوى ذرّ الرماد في العيون، ليس لأنّ المريب يقول خذونــي بأعلى الصوت، فحســب؛ بل كذلك لأنّ الشــركة الإســرائي­لية لن تلتزم الصمت طويلاً حول عقودها ومبيعاتها، فهي باتت تحت مجهر الرصد والتعقّب والتحليل، ولم يعــد ينفع كثيراً أن تضحــك على العقول بالقول إنّ تطبيقها يســتهدف محاربة الإرهاب والجريمة وتســهيل عمل الأجهزة المعنية بإنفاذ القانون. الدول التي اشــترت التطبيق واســتخدمت­ه هي في المرجــل ذاته مع الشركة الإسرائيلي­ة، وللمتباكين على تهذيب صورة الكيان الصهيوني )بوصفــه «واحة الديمقراطي­ــة» الوحيدة في الشرق الأوســط( أن يعثروا على أكثر من وصفة سحرية واحدة لبلوغ بعض ذلك الغرض.

غير بعيد في الزمان تعليق وزيــر الخارجية الأمريكي الأســبق جون كيري على فضيحــة ســنودن بالقول إنّ تجسس الحكومة الأمريكية على بعض حلفائها الأوروبيين ليس أنشــطة «غير اعتياديــة» خاصــة وأنّ ردود أفعال الدول ضحايا التجسس لم تتجاوز الإعراب عن استيائها الشديد، من عمليات «غير مقبولة بين الأصدقاء». ولم يكن أقلّ نفاقاً أنّ معظم تلك الدول استجابت للرغبة الأمريكية، أو تطوّع بعضهــا من دون تكليف، في تضييق الخناق على أســفار ســنودن، فعثرنا على عجيبة الرئيس الفرنســي الســابق فرنســوا هولاند: رفض «هذا النوع من السلوك

بــن الشــركاء والحلفــاء» من جهة؛ والمســارع­ة إلى اعتراض طائرة الرئيــس البوليفي إيفو موراليس، خشــية وجود ســنودن على متنهــا، من جهة أخرى!

كذلك يحدث أن تُــداوى ملفات التجســس بين الدول والأجهــزة، بعضها على البعض الآخــر، بالتي كانت هي الــداء؛ كما في مثــال تمكّن المخابرات المركزيــة الأمريكية من اختــراق الأجهــزة الاســتخبا­راتية الإيرانية، ليس من البوّابة المحلية أو الشــرق ـ أوســطية أو الإقليمية كما للمرء أن يتخيّل، بل من جهة قصيّــة بعيدة غير منتظرة، هي... أمريكا الجنوبية! تنبّهت الوكالة إلى ازدياد أنشطة الاستخبارا­ت الإيرانية في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، فعملت على اختراقها عن طريق عملاء زعموا الاهتداء إلى الإســام، بل وأفلحوا في الوصول إلى طهران عن طريق بعثــات خاصة نظمتهــا الحكومة الإيرانيــ­ة ذاتها لتلقين المهتدين تعاليم الدين في العلــن، وتدريبهم على الأعمال الاستخبارا­تية في السرّ، حسب الرواية الأمريكية بالطبع.

ويبقى أن» «انتهاك حقوق المستوطنين في الآيس كريم» بعد قرار شــركة بن آند جيري وقــف توزيع منتجاتها في المســتوطن­ات، هو العنوان الأبرز للمناقشات الإسرائيلي­ة الراهنــة حول حقوق الإنســان والديمقراط­يــة والعداء للســامية عن طريــق المثلجــات. ويندر أن تجــد تغطية لفضيحة «بيغاســوس» تذهب، أيضاً، إلى جذور وجودها الصناعي على أرض الاحتــال؛ أو، وهو النادر أكثر، ربط الماضيبالح­اضروالإشــ­ارةإلىتورّطشــركة في حملات التنصت والمراقبة والقمع التي شــهدتها المكسيك سنة 2017. كذلك يبقى أن توجيه اتهام العداء للسامية ضدّ وسائل الإعلام التي نشرت تفاصيل فضيحة «بيغاسوس» يصعب أن ينطبق على صحيفة مثل «واشــنطن بوســت» فحتــى التي كانت هــي الداء يصعب أن تصلــح هنا على سبيل الدواء!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom