Al-Quds Al-Arabi

المحتلون والمقاومون: درس في الانتهازية

- ٭ كاتب عراقي

■ اضطــرت الولايــات المتحــدة الامريكية، في ســياق ســعيها المعلن لاحتواء نظام صدام حســن في تسعينات القرن الماضي، إلى التعامل مع الفاعلين السياســيي­ن الشيعة المدعومين إيرانيا، بعد أن اكتشــفت أن المعارضة الشــيعية «الليبرالية» التي تشكلت في المنفى بدعم إقليمي )كما حركة الوفاق الوطني العراقي بزعامة أياد علاوي التي تشــكلت بدعم سعودي( أو التي تشكلت بمبادرات ذاتية )مثل المؤتمر الوطنــي بزعامة أحمــد الجلبي( لا تملــك أي تأثير حقيقي على الأرض رغم الدعم الواســع الذي كانت تتلقاه! من هذا السياق يمكن لنا أن نفهم لماذا قررت إدارة الرئيس الأمريكي الأســبق بيل كلينتون التعاون مع قيــادة «المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق» (والذي تشكل بقرار من «آية الله الخميني» شــخصيا في إيران عام 1982 ليكون بمثابة المظلة للمعارضة الإســامية الشــيعية العراقية، وترأسه لحظة التأسيس آية الله محمود الهاشمي الشاهرودي الذي كان أحد أعمدة النظام الإيراني(!

وكانــت الولايات المتحدة مدركة تمامــا بأن هذا التنظيم كان قد ملتزما بمبــدأ ولاية الفقيه، ومدركة لما يعنيه ذلك من التزام عقائدي بطاعة الولي الفقيه «الإيراني»! ومدركة أيضا بأن الايمان بمقولتي «الشيطان الأكبر» و«الموت لأمريكا» هي مصداق لتلك الطاعــة، والمفارقة هنا أن الإدارة الأمريكية لم تلتفت إلــى التناقض بين أن تكون إيران طرفا في سياســة «الاحتواء المزدوج» التي اعتمدتها إدارة كلينتون بين عامي 1993 و 2001 ضــد العراق وإيران، وبــن التعاون مع أحد «وكلائها»!

ولم يقف الأمر عند حــدود «التعاون» بل قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتمويل المجلس الأعلى وذراعه العسكري «فيلق بدر» الذي يعمل تحت إمرة الحرس الثوري الإيراني؛ فوفقا للوثائــق الأمريكية، تحديدا الأمــر التنفيذي ‪P. D(‬ . 99.13( الذي أصدره الرئيس بيــل كلينتون عام 1999، فقد كان المجلس الأعلى واحدا من ســتة تنظيمــات تم تمويلها بموجب قانون تحريــر العراق الذي أصــدره كلنتون عام 1998 )المفارقة الأكبر هنــا أن هذا الأمر التنفيذي ضم تنظيم «الحركة الإسلامية في كردســتان/ العراق» السلفي، الذي كان الملا كريكار أحد مؤسســيها وأبرز قادتها قبل ان ينشق عنها في العام 2001 ليشكل «أنصار الإسلام».)!

وقد توج التعــاون بين أمريكا والمجلــس الأعلى بزيارة الســيد عبد العزيز الحكيم )الأخ الأصغر لمحمد باقر الحكيم والذي تولى رئاســة المجلــس الأعلى بعد الشــاهرود­ي( لواشــنطن عام 2002 وفيها التقى كلاّ من ديك تشيني نائب رئيس الجمهورية، ودونالد رامســفيلد وزير الدفاع آنذاك، وكانا أبرز شــخصيتين من شخصيات اليمين المحافظ اللتين دفعتا باتجاه الحرب على العراق!

بعد احتــال العراق عام 2003، اضطــر الأمريكيون إلى الاستمرار في ممارســة هذه اللعبة المزدوجة؛ فمع إدراكهم بــأن بعض الفاعلين السياســيي­ن الشــيعة لهــم علاقاتهم العقائدية مــع إيران، وهــي علاقات لا يمكــن زعزعتها او التدخل فيها بأي شــكل، اســتمر الأمريكيون في «التعاون» معهــم، لاســيما بعد ظهور مؤشــرات على وجــود مقاومة «ســنية» آخذة فــي التصاعد، فقــد وجدوا انــه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعل السياسي الشيعي بشــأن علاقته مع إيران والتي وصلت إلى الحد الذي جعل شــخصا ليبراليا مثل احمد الجلبي يدعــم علاقته بإيران، وينشــئ ما سمّاهُ «البيت الشيعي» عام 2004 لكي يضمن له موطئ قدم في المشهد السياسي العراقي.

وقد تجــاوز هذا «التعــاون» السياســة والتمويل، إلى التعاون العسكري والأمني؛ فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانيـ­ـة في 6 آذار - مــارس 2013 تقريرا بعنوان : «من الســلفادو­ر إلى العراق: رجل واشنطن خلف فرق الشرطة الوحشــية» أشــارت فيه إلى منع الولايات المتحدة أعضاء الميليشيات الشــيعية العنيفة مثل فيلق بدر وجيش المهدي مــن الانضمام إلى قــوات الأمن في بداية الاحتــال، لكنها بحلول صيــف 2004 رفعت ذلــك الحظر، وأشــار التقرير إلى وصول أعضاء الميليشــي­ات الشــيعية من جميع انحاء العــراق إلى بغداد، على متن شــاحنات، للانضمام إلى قوة الكوماندوس الجديدة، وان هؤلاء الرجال كانوا «متحمسين لمحاربة الســنة» وأنهم كانوا يســعون «للانتقام لعقود من حكم صدام الوحشي المدعوم سنيا» كما جاء في التقرير!

ما بين عامي 2003 و 2011 حدث مشهد سريالي بامتياز في سياق هذه اللعبة المزدوجة؛ ورأينا فاعلين سياسيين شيعة، مدعومين إيرانيا، يبنون علاقات استراتيجية مع الأمريكيين ويصــل بهم الأمر إلى تغيير «مراجــع تقليدهم » وفي الوقت

نفسه تتشكل «مقاومة شيعية» للوجود الأمريكي في العراق مدعومة إيرانيا! لتصل هذه العلاقة الســريالي­ة منتهاها مع التيار الصدري الذي كان جزءا فاعلا في السلطة، تشريعيا وتنفيذيــا، وجزءا من الحكومة التي كانت ترســل ســنويا خطابــا إلى مجلس الأمــن الدولي للمطالبــة بالإبقاء على الأمريكيين/ قــوات التحالف الدولي في العراق، وفي الوقت نفسه يقاتل جناحها المســلح «جيش المهدي» الأمريكيين في الشارع تحت عنوان «المقاومة»!

في مقابل هذا المشــهد، هناك واقع آخر يقول إنه بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1546 الصــادر في 8 حزيران/ يونيو 2004 انتهى الاحتــال، من الناحية القانونيــ­ة على الأقل، وأصبــح وجود القــوات الأمريكيــ­ة في العــراق جزءا من «القوة متعددة الجنسية» وهي قوة باقية بناء على طلب من الحكومة العراقية المؤقتة! وظلــت القوات الأمريكية/ القوة متعددة الجنســية تعمل في العراق بموجب تفويض رسمي من مجلس الأمن يتجدد ســنويا بناء على طلب «رســمي» يرسله رئيس مجلس الوزراء باســم الحكومة العراقية في الأعوام بين 2005 ـ 2010!

في أعقاب احتلال داعش للموصل 2014، عادت الولايات المتحــدة 2014 الى العراق في إطــار التحالف الدولي الذي أنشأته وقادته بنفســها. ومع حرصها على إبعاد إيران عن هــذا التحالف، فقد كانت تغض الطــرف عن الدور الإيراني في هذه المواجهة التي أخذت شــكلا تصاعديا عبر الوكلاء التابعين لها عقائديا، ومرة أخرى استمرت اللعبة المزدوجة التقليدية في ســياق هذه الحرب؛ حيــث رضي الأمريكيون بتسليح هذه المليشيات بالأســلحة الأمريكية، بل وفرو لها الدعم الجوي الحاســم وتغاضوا عن الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها، والتي وصفها تقرير لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، في مرحلة مبكرة، بأنها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى أن تكون جرائم حرب! فــي نشــرموقــ­ع مقــالاكتب­ه

و بعنــوان:«القــواتال­إيرانية والأمريكية تشــتركان في قاعدة واحدة» نقلا عن اثنين من كبار المســؤولي­ن في الإدارة الامريكية أن الجنود الأمريكيين والميليشــ­يات الشــيعية، تحديدا كتائب حزب الله، يقيمان جنبــا إلى جنب في قاعــدة «تقدم» العســكرية في الأنبار! كما نُقل عن مســؤول كبير آخر، ان قــادة بعــض الميليشــي­ات المتشــددة كانوا يجلســون في إحاطة أمريكية بشــأن العمليات العسكرية!

لكن ســرعان ما بدأت المواجهة الأمريكية مع المليشــيا­ت المدعومة إيرانيا في العراق 2019 مع أول رشــقة كاتيوشــا على المنطقة الخضراء، وهو منعطف ونقطة تحول ســببها العقوبات الامريكية على إيران نهاية عام 2018 والتي طالت لاحقا، بعض المليشــيا­ت مثل عصائب أهل الحق، والنجباء (2019( وكتائب حزب اللــه )2020( وبهذا انتهى، نوعا ما، الموقف الامريكي «العائم» تجاه هذه المليشــيا­ت، لاســيما بعد محاولة اقتحام الســفارة الأمريكية، ثــم مقتل متعاقد أمريكي في قاعدة كركوك بعد هذا بأسبوع، الأمر الذي عدته واشــنطن تجاوزا لحدود اللعبة واستوجب رد فعل أمريكي شديد، تمثل في عملية اغتيال الجنرال سليماني، وأبو مهدي المهندس في مطلع كانون الثاني 2020.

والملاحظــ­ة الجوهريــة هنا ان هــذه المواجهــة لاتزال «منضبطة» وتحت السيطرة، ولم تتحول الى حرب حقيقية مفتوحــة، ولن تتحول لعوامــل كثيرة أهمهــا أن المواجهة هنــا هي أقرب الى «البريد المســلح » التــي تصل من خلالها رسائل إيران للولايات المتحدة؛ فصواريخ الكاتيوشا التي يتم اســتخدامه­ا لا تشــكل تهديدا حقيقيا، حتى مع دخول الطائرات المســيرة على الخط في الشهرين الاخيرين، هذه الطائرات نفســها لا تتعدى كونها وسائل سياسية الغرض منهــا هو إيصال «الرســائل» إلى وجهاتها فــي قاعدة عين الأســد وقاعدة حرير، او حتى مدينة أربيل، وهي مواقع لا تصل إليها رسائل الكاتيوشا.

من هنــا تبــدو فكــرة المقاومة فــي العراق لــدى هذه الميليشيات فعلا سياســيا محض يخلو من المبدأ الأخلاقي، ولا يمثل هدفــا في حد ذاته إنما يرتبــط بتحقيق مصالح لا علاقة لها بالعراق من الأصــل، فالمقاومة، كأي مبدأ أخلاقي، غير قابل للتجزئة والانتهازي­ة والبروباغا­ندا، أو ممارســة الحرب بالوكالة!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom