Al-Quds Al-Arabi

مشكلات السرد في «دفاتر الوراق» للأردني جلال برجس

-

■ علــى الكاتب الروائي، ســواء فــاز بالبوكر العالمية أم لم يفز، أن يلتزم بقواعد الســرد، وأولى تلــك القواعــد أن لا تتضارب الوقائــع، وألا يذكر الحــدث إلا إذا كان ثمة ما يبرر ذكره، ولا ينســب للشــخوص من أفعال وأقوال إلا ما يتناســب مع طبيعتها من حيــث هي شــخوص، وألا يكون في موقع غرائبيــا عجائبيا، وفي آخــر واقعيا يلتزم بمنطق الســرد الــذي يقوم على محــاكاة الحياة اليوميــة لا علــى الفانتازيـ­ـا التي تبيــح للكاتب الانفــات من قيود هــذه المحــاكاة، وأن لا يعتمد فيها على المفاجآت ولاسيما تلك التي تترتب عليها تحولات سردية ذات أثر في ما تبقى من الحكاية؟

وقد فاجأنا الكاتب من مقدمة الرواية، بالخروج على هذه القواعد فذكر في فقرة من الاســتهلا­ل أن ســؤالا «ظل أمام عينيه معلقا منذ تلك السنة» وإذا أعاد القارئ قراءة الصفحة من الكلمة الأولى حتى نهايــة العبارة، فلن يجد أي ذكر لســنة ما قصدها بكلمة )تلك( فاسم الإشارة - ها هنا - يفترض أن يحيلنا إلى سنة محددة، ذكرت سابقا لكنه لم يذكر شــيئا كهذا، مما يوحي بغموض هذه الإشارة التي تحدد في الواقــع بداية حدثٍ مــا. فهي - في هذه الحال - يمكنها أن تعني الســنة الماضية أو السنة التي مضت منذ ألف عــام أو أكثر، وهذا ينم عن أن المؤلف - للأســف - لم يقم بمراجعة ما كتب، ففي أقل الاحتمالات توقعا يتوجب أن يسأل نفسه: أي سنة تلك التي أعنيها بهذه الإشارة؟

وهــذه الملاحظة التــي يقف عليهــا القارئ في مقدمة الرواية تسفر عن موقف، أو انطباع في غير صالح المؤلــف، إذ تؤكد أنه يتعجــل الكتابة، ولا يهتم بتنقيح، وضبط، ما يكتبه، وينشــره. وفي ما يكون الســرد منصبا على اكتساب الوراق لمهاراته الحاسوبية، وعلى إنشائه حسابا له على فيسبوك باسم مســتعار، وهو ديوجين، يظهر الجنين الذي في بطنه فجأة، وفي ما هو يعاني من هذا الشــريك الــذي يمثل ضربا من الازدواجية في شــخصيته،

ظهرت ليلى في ذكره لها للمرة الأولى،

ليتضح أنها من بنات الملجأ، وها هنا يبدأ التداخل الروائي وهو بالمناســب­ة شــائع جدا فــي «دفاتر الوراق» - مع روايــة ليلى الأطرش «أبناء الريح» (2013( وســوف ينســى المؤلف هذه الشخصية، ولــن يعود إلى ذكرها إلا فــي ص 57 وفي ص 137 يذكرها هي وأســماء وماجدة وهمــا تديران بيتا للدعارة.

وفي تناوله لشخصية الوراق، لم يقم بتعريفنا به تعريفا مباشراً، وإنما ذكر لنا رحيل الأسرة من القرية إلــى عمان، وأن الأحــداث التي تروى تقع بعد 35 عاما من الرحيل الذي جرى في ســنة 1980 ويقــول لنا: إن أخاه عاهداً اختفى بعد ســنين من ذلك لكونــه لا يريد أن يكون نســخة من أبيه. ولا يعرف القارئ هــل كان اختفاءُ عاهد قبل وفاة الأم بالسرطان، أم بعدها، ومن إشارته بعبارة )كلاجئ ســوري( يتضح أن ما يروى من أحداث وقعتْ بعد عــام 2011 لأن عبارة لاجئ ســوري لم تشــع في تركيا إلا بعد هذه الســنة. ومن الواضح أنّ الكاتب يبدو مرتبكاً في بداياته، وفي تحديده لزمن وقائع هذه الرواية، وهو معذور فــي ذلك، لأن الحوادث تســاق بطريقة غير محكمــة، ولا تخضع لمقاييس الأدب الروائــي بالمعنى الاصطلاحي. فهو يشــير مثــا- لانتحار الأب في المطبخ قائلا «ســِمعْت في اللحظات التي أنا متأرجح فيها بين النوم والصحو جلبة في المطبخ، فنهضت، وإذا بأبي أجده قد علق حبلا في ســقف الغرفة، ولفه حــول عنقه، ووقف على الكرسي». ونلاحظ أن الراوي عدل عن المطبخ للغرفة، فأين جــرى الانتحار، فــي الغرفة أم في المطبخ؟ وهذا قد لا يبدو مهما، لكن الأهم أن المسافة أقصر من أن تمنع تدخل الابن الشــاب لإنقاذ أبيه، ومنعه من الانتحــار، إلا إذا كان الابن لا فرق لديه بين انتحار أبيه وعدمه.

شخصية الوراق

وفي هذا يلفتُ الانتباه إلى أنَّ المؤلف لم يعرّفنا بأحد طبــاع الوراق النفســية، والاجتماعي­ة، فلو أنه هــب فوراً لينقــذ أباه، وقد ســمع الجلبة، لكان في ذلك ضوءٌ يسلطه الكاتب على الجانب السيكولوجي والاجتماعي من إبراهيم الوراق، لكنــه لا يبدو معنيــا بهذا، إنما الــذي يعنيه ما يذكره بعيد ذلك مــن ازدواجية فرضت عليه عن طريــق الجنين الذي يتكــرَّر ذكــرهُ، وهو يوجّه للوراق أوامــره، ونواهيه، وشــتائمه. ومن هنا تبدو لنا شــخصية الوراق، هو، والذي في بطنه، شخصيتين غرائبيتين، لكن تصرفاته تتناقض مع هذه الغرائبية، ولاسيما في توجهه للشرطة تارة، وللطبيــب تارة أخــرى. ففي المكتب رقــم 4 حوارٌ بين الوراق وضابط يجري بأســلوب كاريكاتيري لا يمكن تصــوره إلا في فيلم من الأفــام الهندية، علاوة على أنَّ العرض، يثير لدى القارئ تســاؤلا عمــا إذا كانت الشــرطة تصغي لمثل هــذا الهراء الذي يدعي فيه الــوراق أن في بطنه مجرما. وهذا يشــكك في الطابع الغرائبي للسرد وللتشخيص. والســؤال هو: هل ثمة علاقة بين كشــفه عن هذا الجنــن المحتمل، وانتحــار أبيه؟ ذلــك الانتحار الذي وقع فجأة دون تمهيد، وبلا أسباب تذكر، ولا دوافع، في بدء الرواية، ودونما ســعي لإنقاذه من أفراد الأسرة، لاســيما وأن الوقت الذي يفصل بين سماع الجلَبَة في المطبخ ووقوع الانتحار أقصر من أن يحول دون تدخُّل الوراق. وهذا ما لا تقره قواعد الاحتمال في الســرد القصصي والروائي المقبول. إذ كان يُفتــرض أن يقوم الأبُ بالانتحار اثناء خلو المنزل من الناس، أو في أســوأ الأحوال أن يتدخل الابن، وقد أقرَّ بوجوده، فيمنع أباه من دفع الكرسي بقدميه في مشهد يذكرنا ببعض المسلسلات. وهذا يســيرٌ عليه جداً. والوقت لا يحــول دون ذلك، ولا المســافة بين المطبخ وباقي الغــرف. وهذا الموقف الــذي يقع في بدايــة الرواية، كالموقف الســابق، يعطــي القارئ - بلا ريب - انطباعــا عن الرواية أقلّ ما فيه أنهــا غير جيدة، وعــن الروائي أقل ما فيه أنه متســرع، ولا يدقق في ما يتخيله ويرويه، وهل يمكن لهذا الموقــف أن ينْطلي على القارئ، أم أنّ القارئ ليس ســاذجا ليتقبل مثل هذه المحكيات المفتعلة.

تكرار الحوادث

والمعروف أن الســرد منه ما يعتمــد على تكرار بعــض الحوادث، فــي ما يعــرف باســم التواتر

frequency وهو أن يــروي الكاتب حدثا، وقع مرة واحــدة، مرارا، علــى أن المؤلف فــي «دفاتر الوراق» يأتي بهذا التواتــر بطريقة فجة، ومثيرة للســخرية، فما إن تذكر ليلى- ابنة الملجأ - حتى يعــاد ذكر التحرُّش حتى لو كانــت متنكرة في زي رجل شــاب، أما الفتاتان الأخريان ماجدة وأسماء فــا يذكرهما إلا وقد جعل منهمــا عاهرتين تديران بيتا للدعارة، فهل كان متوقعا ممن يغادرون ملجأ الأيتــام بعد هاتيك التربيــة والرعاية الاجتماعية أن يكونــوا كذلك رعاة للفســق والدعــارة؟ وهل ينبغي لكل من نشــأ هذه النشأة، ولقي مثل هاتيك التربيــة، أن يغدو على هذا اللــون من الانحراف؟ علــى أن التواتر - ها هنا - ليــس بمقنع، إذ كيف تأتــى للرجال الثلاثــة الذين تحرَّشــوا متفرقين، وبأوقــات متباعــدة، أن يتوقعــوا مــن ليلى أنها فريســة ســهلة، وأنها من بنات الملجأ، فاختاروها هي بالذات لممارســة ســفالاتهم، وهي صورة من السرد المفتعل الذي يوحي بأن أحياء عمان الراقية كالشميساني، وعدون، رجالها من الضِباع التي ما إنْ تقعُ أبصارها على الفتاة حتى تظنها حمَلا وديعاً سهْلا اصطيادُه، لا في أمكنة خفية متوارية، بل في الشارع العام.

وهذا ينمّ عن اختــاف مرعب بين رؤية الأطرش في روايتها «أبناء الريــح» والكاتب جلال برجس، فقد كانت الكاتبة مبتكرة فــي اختيارها للموضوع، فيما بــدا الكاتب مقلدا أفْسَــدَه بتقليــده. على أن الإشــكالي­ة الأكثر خطرا مما سبق إشكالية الانتحار الغريب. ففــي رواية «أنــا كارنينا» لتولســتوي، وكذلك في «مــدام بوفــاري» لغوســتاف فلوبير، وفي روايــة «بداية ونهاية» لنجيــب محفوظ، ثمة منتحرون، وهم من أبطــال الروايات الثلاث. وكان كل منهــم، وفقا لما جــاء في الروايــات يتخذ قراره

بالانتحــا­ر، ويبادر لذلك منفذا، وهو في أوج اليأس الذي يقوده لهذا الفعل غير المرغوب فيه أساساً. بيد أن الوراق على مذهب الكاتب برجس لم يفعل كغيره من المنتحرين، أو المقبلــن على الانتحار، فقد اختار الطريقة الغريبة التي يريد بها الانتحار، وهي السفر إلــى العقبة التي تذكرنا هنا بالروشــة في بيروت، وإلقاء نفســه في البحر ليكون الماءُ قبرا له لا تراب الوطن، وقد جمع ما لديه من )تحويشة( العمر ألفي دينار، وهاتفه المحمول. ومضى مســتقلا حافلة من الحافلات السياحية ليقضي في الطريق الصحراوي 6 ســاعات، لم يرفّ له جفن، وعندمــا وصل الثغر الأردني الباســم، قصد فندقا على الشاطئ، وحجز غرفة مطلة علــى الخليج، وقضى ليلــة نابغية مع زجاجة ويسكي، وهو الذي ذكر لنا أنه لم يسبق أن احتســى خمرا في حياته قط. فلــمَ طلب من النادلة الحســناء زجاجة ويســكي مع أنه ليس مدمنا ولا سِكيرا؟ الســبب بســيط في رأي المؤلف، فقد وجد بينه وبين فردريك هنري أحد شــخوص همنغواي في روايته «وداعا للســاح» شبهاً، فهنري هذا كان مجبرا علــى الذهاب للقتال في الحــرب، ولا يعرف ما إذا كان ســيكتب له الموت، أم النجــاة، فأراد أن يتســلى مع محبوبته كاترين بالسُكر، لكن الوراق لم تكن له محبوبة مثــل كاترين، وليس مجبرا على الذهاب للقتال في الحرب، فإذا كان يخشــى نتيجة الإقدام على الانتحار، فلمَ يفكر فيه أساســًا، وبدلا من التلهّي بالويسكي ليصرف النظر عن هذا القرار، ويعــود من حيث أتى، ولا يحتاج لا للويســكي، ولا ما يحزنــون. بيــد أن المؤلف يجد نفســه مضطراً لإقحام حكايــة فريدريك هذا من غيــر أن تكون لها ضرورة. ومثل هذا سائرُ الإقحامات التي لجأ إليها، ســواء تلك التي ذكر فيها روايــة «أحدب نوتردام» لهوغو، أو «طبل الصفيح» لغونترغراس أو «اللص والــكلاب» أو «الثلاثية» لنجيب محفوظ، وغيرها.. من روايات يريد فيها المؤلف التباهي بالاطلاع على الروايات العالمية، وهذا ينشــأ عنه ردّ فعلي عكسي لدى القارئ، لأن من ينحو هذا المنحى يشكك في دقة ادعائه، وفــي مصداقيته، وقد قرأنا لكتاب عالميين لا شك في عبقريتهم مثل دستويفسكي، أو تولستوي، أو ديكنــز، أو نجيب محفوظ، ولم نجد في رواياتهم مثل هذه الإشارات، ولا استخدموا فيها شخصياتٍ أخرى، ولا حكايــاتٍ أخرى، مقتبســة من روايات الآخريــن اقتباســاً ينم عــن خطأ في فهــم المؤلف لدلالاتها، وهذه الإقحامات لا تعدو كونها - في نهاية المطاف - إساءة لأولئك المؤلفين. وصفوة القول في هذه الإطلالة الموجزة على إشــكاليات الســرد في «دفاتــر الوراق » أنهــا تفتح الطريق أمــام الدارس لتناول مشــكلات أخرى يضيق عن اســتقصائه­ا، والإحاطة بها، هذا المقال القصير. ٭ ناقد وأكاديمي من الأردن

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom