Al-Quds Al-Arabi

هل اللغة العادية دقيقة؟

-

■ ينبغــي أن يكون اللســانيو­ن مدينين في كثير مــن نظرياتهم لأفكار الفلاسفة، ولاسيما التحليليون الذين كان لهم الفضل في توضيح كثير من المفاهيم التي تُتداول اليوم في اللســانيا­ت، ولا يعرف كثيرون مصادرها الفلســفية، فعبارات مثل الصدق والكذب والإحالة وغيرها، لم تتبلور أو تتضح إلا من خلال مصفاة هؤلاء الفلاسفة.

في هذا المقال ســوف نتحدث عن موقف الفلســفة التحليلية من اللغة العاديــة، أو اليومية التي تكتفي اللســانيا­ت بأن تصف مســتوياته­ا، أو تضبط المبادئ والقوانين الاشــتقاق­ية والتركيبية التــي لها، أو تنظر في قوتها الإنشائية، وغير ذلك من المسائل المبوبة في اللسانيات وعلومها. إلا أن الجدل الذي أثاره التحليليون حول اللغة اليومية، كان يتعلق بجدواها فــي أن تكون ســندا دقيقا لأفكار الفلاســفة والعلمــاء المعروفة بالضبط والصرامــة، خصوصا أن اللغة اليومية فيها من التســامح و»الســقم» ما يجعلها تفرط في كثير من المحتويات العلمية والأفكار الفلسفية.

كان مــن بين الذين أيــدوا أن تكون اللغة اليومية ناقــا لأفكار العلماء والفلاسفة فلاســفة من أمثال جلبرت رايل ‪-1976( )1900‬وجورج إدوار مور ) 1873ـ 1958( ولودويغ فيتغنشــتا­ين ) 1889- 1951( في فلســفته الثانية التي عبر عنها في كتابه «التحقيقات الفلسفية.»

ينبغي أن نشير إلى أن الالتفات إلى اللغة العادية لم يكن حركة منفصلة عن مواقف الفلســفة التحليلية من مناهج الفلسفة الريبية أو الشكوكية، التي عبر عنها الفيلسوف البريطاني جون لوك ‪-1704( )1632‬ في رسالته حول التفاهم البشــري، والتي اعتبر فيها أن الغموض هو أمر شــائع في كلام الناس العاديين، وأن البشــر حين يتواصلون يُغمضون ولا يُبينون، وأن الفلسفة إن استعملت كلام الناس العادي سقطت في اللبس والخطأ، بالإضافة إلى ذلــك فإن قبول التحليليين باللغــة العادية جاء نتيجة نقد للنظريــات الميتافيزي­قية التــي كانت لا تؤمن بأن المعتقــدا­ت التي يبنيها الناس العاديون بالحس المشــترك لها قيمــة. يضاف إلى ذلك أن ما يعرف بالذرية المنطقية، التي كان رمزاها برتراند راســل وفتغانشتاي­ن نفسه في فلسفته الأولى، اهتمت في سياق طرحها بعلاقة اللغة بالكون، ففي اعتقاد راســل أن أي جزء من القضية المنطقية يمكــن أن يمثل أي جزء من الكون، والإشــكال أن اللغة في المسألة أن اللغة العادية لا يمكن أن تكون وفية لهذا التمثيل، لذلك لا بد من لغة مثالية مصطنعة بدقة.

القبول باللغة العادية كان بعد نقاش مســتفيض متعدد الأبعاد، أبرزوا فيه الصعوبــات الكامنة أمام الفيلســوف وهو يتعامــل باللغة العادية وتصوروا الكيفيات التي يمكن أن تذلل بها تلك الصعوبات. سوف نكتفي في هذا المقــال ولضيق المجال بإبراز الصعوبات كما صورها الفيلســوف فتغنشــتاي­ن في التحقيقات الفلسفية، مشــيرين إلى أننا نحن من ترجم المقاطع عن النسخة الإنكليزية.

كان فتغنشتاين يرى في اللغة العادية من الحدود ما يحول دون التعبير بيسر وبأريحية عن أفكاره، أو عن « تحقيقاته الفلسفية» فالمشكلة الأولى فــي اللغة العادية أنها تحمــل المعاني التي نتصور أننــا نعرفها، بل إننا نجدها مألوفة. هذه الألفــة نابعة من أننا نعتقد أن العبارات وهي تتنقل بين استعمالاتن­ا المتعددة، تحافظ على «جوها» الدلالي، وكأنه قدر عالق بها أبدا. والحق أن على المتكلم أن يعرف - وهو فعلا يعرف، لكنه يكسل عن أن يســتحضر هذه المعرفة - أن لكل قــول ظروفا خاصة قيلت فيه. يقول فتغنشتاين: تقول لي: أنت تفهم هذا التعبير، ألست تفعل ذلك؟ حسنًا -أنا أستخدمه بالمعنى الذي تعرفه - وكأن المعنى كان جوًا مصاحبًا للكلمة التي عليها حمله معها في كل نوع من الإنجازات. إذا قال شــخص ما، على سبيل المثال، إن الجملة «هذا هنا» ( التي تعبر عما يشير إليه من شيء ماثل أمامه( هي دالة عنده، فعليه أن يســأل نفسه في أي ظروف خاصة قيل هذا القول؛ فذاك هو الذي يعطيها معناها.

ويستعمل فتغنشتاين كثيرا من الاســتعار­ات للغة من بينها، استعارة اللغة منازل أو بنايــات: يرى المتكلم العادي اللغــة العادية بمثابة منازل متينــة الحجارة صلدة الحيطان، لكن الفيســلوف يراهــا منازل قدت من كرتون؛ لذلك عليه أن يحطمها لكي يعيد على أرضها نفســها إنشاء منازل جديدة هي التي ســتكون قوية الأعمدة متينة الأسقف. يقول فتغنشتاين: «من أين سيكتســب تحقيقنا أهميته مادام في الأمر كمــا يبدو تدميرا لكل شــيء مثير للاهتمام، أي نقض لكل ما هو عظيم ومهم؟ )حتى لكأن جميع المباني، لم تترك وراءها ســوى أجزاء صغيرة مــن الحجارة والأنقاض(. ما ندمره ليس ســوى منازل من ورق ثم ننظف أرضيــة اللغة التي عليها يجب أن تقف.. وفي هذه اللغة العادية ذات المباني الضيقة قدرُ الفيلسوف أن يجاهــد وقد حاصرته جدرانها، التي ليســت إلا «حــدود اللغة»؛ ولن يكون له من خلاص وهــو يعبر هذه الحدود الجدارية، ألا يعرض رأســه للكدمات والنتوءات لكن ذلك «الصراع» ســيمكنه من لذة الاكتشــاف: إن خلف هراءات اللغة العادية وهي تتحــدث في اليومي قدرة على أن تصاغ خطابات فلسفية. ففي إنتاج الفلسفة خطاباتها باللغة اليومية من الصراع والمجاهدة، ما ينسي الفيلسوف تعب اللغة اليومية وصراعه مع حدودها. يقول فتغنشتاين: «إن نتائج الفلسفة هي هذه القطعة أو تلك المنكشفة من هــذا العادي، الذي لا معنى له، ومن الهراء البســيط والأورام التي حدثت للفهم وهو يضرب رأسه على حدود اللغة. تمكننا هذه النتوءات من أن نرى قيمة الاكتشاف .»

إن مهمة الفيلســوف الذي يريد أن يبني بناء فلســفيا شامخا، ويصل إلى اكتشافات فلسفية مهمة تبدو عسيرة المنال مع اللغة العادية عسر من يريد أن يُريَ الذبابةَ أو البعوضة العالقة في زجاجات الصيد كيف السبيل إلى خروجها؛ فمحاولاتها اليائسة للخروج من الحيطان البلورية لا تنفع؛ ليس هناك غير منفذ وحيد لذلك يقول فتغنشــتاي­ن مجيبا من يسأله: «ما هو هدفك في الفلســفة؟ أن أُري الطائر الحشرة طريقها الذي يخرجها من زجاجة صيد الحشــرات» لكن المشــكل الذي لهذه الحشــرة العالقة التي تنتظر فيلســوفا يريها مسلك النجاة، هو نفسه مشــكل الفيلسوف يقول صاحب التحقيقات: «مشكلة الفيلسوف يكون شكلها كالتالي: أنا لا أعرف شيئا عن طريقي .»

هناك صورة مبسطة جدا للكيفية التي يرى بها الفيلسوف لغة العامة، وعليه أن يســتعملها فــي قوله التالي: «حين نشــتغل بالفلســفة نكون مثل المتوحشــن، البدائيين، الذين يســتمعون إلى تعابيــر المتحضرين، ويضعون لها تفسيرًا خاطئاً. فهم يستخلصون منها الاستنتاجا­ت المفرطة في الغرابة». التحضر والوحشية في هذه الاستعارات المرتبطة باستعمال الفلســفة، ينبغي أن لا يحملا علــى معنى البدائية في هــذه والتطور في تلك؛ بــل على معنى الأصليــة الذي فــي التفكير الفلســفي، إذ هو أصل التفكير. لكن الإشكال في الأداة التي تستعمل في ذلك التفكير: لقد تغيرت وتطورت حتى لــم تعد صالحة لهذا التفكير الأصلي الأول. إن الفلاســفة حــن يتعاملون مع لغة عادية متحضرة لأغــراض فكرية أصلية هم يدون للغرباء كمن يبني بناء عكسيا غريبا، إذ يستعمل وسائل عصرية متطورة في أغراض هندســية بدائية: هو كمن يستعمل طائرة حديثة لبناء كهف، لكنه لن يكون أي كهف.

الانزعــاج من اللغة اليومية لا يعني عند الفلاســفة التحليلين أن تترك إلى لغة مثالية كغيرهم من الفلاســفة، المشــكلة في إعــادة الوعي بهذه اللغة وباستعمالا­تها وبنحوها وبمعجمها وبدلالاتها وبمطابقتها للوقائع والأحــوال. في اللغة مرضٌ جاءها من «التســامح» في اســتعماله­ا، وفي شــيء يســمى عدم التطابق بين البنية النحوية والبنية المنطقية، وهذا موضوع أطال فيه الفلاسفة لكن هذا الفضاء يضيق به.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

 ??  ?? توفيق قريرة *
توفيق قريرة *

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom