Al-Quds Al-Arabi

لعنة اغتيال الذاكرة

رواية «النسّاي» للعراقي يوسف المحسن

-

■ في روايته «النسّــاي» دار سطور بغداد 2021 يعيد يوسف المحسن تنقية الذاكــرة، هوية للفرد أو الجماعة، وكأن الرواية محكي يؤرشف أوجاع العراقي تحت مختبر المآســي والأحداث المؤلمة، التــي أفقدته الذاكــرة وأفقدتــه معرفة تاريخــه المأزوم رعباً وخوفــاً واقصاء. فالكاتــب أعــاد صــوغ الذاكــرة ســرداً جماليــاً وفنيــاً، نحو متاهــات مفتوحة فــي عوالمهــا، متخيلــة فــي أحداثهــا، تقصّــى فيهــا مناطق العتمة فــي الذات الإنســاني­ة، عبر مســارات متمايزة في فهمهــا ودلالاتهــ­ا، باســتنطاق تخييل يوهــم القــارئ بواقعيــة أحداثها، وهو ينســج أمكنة وأزمنة تستظهرها ذاكرة شــخصياته، في محكيات تضج بالمثير من الانتقــال­ات المعرفية، من التاريخ إلى الجغرافيــ­ة، ثم إلى النقــد والميثولوج­يا والديــن، لتعرج إلى الشــهوة والجنس، وصولاً إلى عادات الشعوب ومجاهلها وصفــات الحيوان، رحلــة فكرية تجعل القــارئ يتيه بين تصديقهــا حقيقة أو تحريفا.

النسّاي

تبــدأ الروايــة مــن لحظــة تــؤرخ ســيرة، تتمظهر مزجــاً متداخــاً ما بين وعي الســاردين وأحــداث عوالم «النسّاي» من خلال انتقالات متكررة عبــر الماضــي والحاضر والمســتقب­ل، تصاغ منها أحــداث القرية، خلطاً بين الوقائعية والمتخيلة، بما يحرك كوامن مجهولــة مــن تلــك الذاكــرة المفقودة، المتتبعــة مــن الســاردين الرئيســيي­ن ملاحقة فــي وصفها، عبر مســارات لا يمكن التنبؤ بهــا، كأنها أحجية ملغزة. ونتســاءل من هو النسّاي؟ فهو عنوان يحمل حقيقة ذات معان تحتمل دلالات مختلفــة، إذ إن الاتيان بــه لم يكن وليد صدفــة، إنما قصــد ثقافي اســتنطقته مخيلة الكاتــب من رصيدهــا المعرفي، نحو تخليق متن مستفز عن حقبة زمنية تخبرنــا عن تأريخ مظلــم، كأنه حاضر فــي ذواتنا وما يحيط بنــا، قد لا يكون ظاهــراً لكنه مخبوء فينــا، في متاهات مصيرنــا، فــي صراعنــا ومذابحنــا وأســفارنا ولغتنا. بإمــكان القارئ أن يعــي حقائــق عالمنــا المعــاش، أو ربما رحلة تذكر مرتبطة بالزمن الذي صاغه بروســت في روايته «البحث عن الزمن المفقود» ذلك الزمــن الذي أعاد صوغه المحســن، هماً إنســانياً واغتراباً فكرياً

يمكــن أن نلمحــه في «أعلــى تصوراته للأســباب الحقيقيــة التي تقــف وراء تفشــي مــرض النسّــاي، حيــث بدوا متشــبثين بمــا أطلقــوا عليــه فرضيــة الكبت، التي تدعي أن النســيان عكسي للرغبات والأمنيات المكظومة».

قــد يكــون «النسّــاي» ذلــك الإدراج التاريخي الذي أرشــف حقبــات زمنية مظلمــة، ربمــا زمــن مــا بعــد 2003، أو زمن ما قبلــه، في حقبة ما، ثم اخترعها متخيلاً عبــر عالــم ابتكــره الكاتب عن مجتمــع )القرية التي كبــرت( مفتقا ما حصل فيها من أوجاع.

وقــد يكــون «النسّــاي» تعبيــراً عــن فكــرة المؤامــرة التــي واجــه بها إخفاقاتنا، حين تسلعنا السلطة كأي بضاعة، لنبحث عن انهزامنا وفشلنا، لننسج خيوط النســيان حولنا كأنها إرادة كونيــة تشــابه عقيــدة الانتظار للغائــب، التــي صاغتهــا مخيلــة الأجيــال، وبســببها نخضــع

لنمطيــة الاستبعاد المزدرى من قبل السلطة التــي تمتهن ذاكرتنــا بلعبة مثيرة، تجســدها وحشــية «النسّــاي» وغريزتــه المتحققــة بنشــوة محو الذاكــرة، وأخذ ضحايــاه واحداً تلــو الآخــر إلى المــوت الجماعي. «النسّــاي محــا ذاكرة الفريســة والصيــاد، والآكل والمأكــول، والهارب والمطارد فــي المدينة... الأهالي وبفعل النساي أصيبت أعداد منهم بالعمى، لأنهم نسوا خطورة البحلقة طويلاً في الشــمس.. الأهالــي باتوا يخشــون الشــفاء من النسّــاي، لا يجــدّون أو يجتهــدون للبحث عن طريق الخلاص منه.»

وقــد نزعــم أن «النسّــاي» محمــول تأريخي، يغوينا للبحث عن هويتنا التي أضاعتها الســلطات بجميع مسمياتها، السياســية والدينيــة والبطريكيـ­ـة والخرافية، بــدءاً من تأريــخ مغفَل إلى يومنا هذا، المتناســل مــن قمع وحروب وقتلــة، وفــق صــوغ لغــوي تخييلــي يرمي إلى الكشــف عما هــو قابع تحت الســطح، إن ســكان قريــة «النسّــاي» نحن المقموعين والمهمشــن والتائهين، الســائرين إلى المــوت بإرادة ســلطتنا وفقيهنــا، أهــل القريــة نحــن حائــط الحــدود والجغرافيـ­ـا، التــي ســورتها الأرامل، «النسّــاي» هو الكشّاف الذي أرغم ذاكرتنا على فقدان هويتها الذاتية بفعل ما حيك ضدها من قساوة.

ثيمة الذاكرة

أمــا متخيــل الذاكــرة فلــه اســتدعاءا­ت مع فضــاءات أخرى، فمن المعلوم أنــه لا يمكن لأي كاتب أن ينتــج نصــاً دون مرجعيــات يتلاقــى معهــا تنصيصــاً ثقافياً، مســتقطباً منهــا زاده المعرفــي. وليــس بدعاً أن يكــون الكاتب قد قــرأ متوناً ســردية فتنتــه بنيات محكياتها وصياغتها وطقوسها السحرية، ونحو ذلك مما يعرفه صائغ حكاية «النسّــاي» وهو مما يحســب له قــدرة فــي استشــفاف متخيــل الآخر. لذلــك كان عنــوان الروايــة «النسّــاي» ثيمــة تســتدعي تماهيــاً فــي اختراعها لعبة الذاكرة مع نتاجات روائية سابقة، قــد تلمحهــا ذاكرة القــارئ فــي رواية «مئــة عام مــن العزلــة» مشــخصة في قريــة )ماكوندو( التــي أصابها الوباء المشــابه لفعــل «النسّــاي» بما يســتفز ذاكــرة أفرادها، حين فقــدت نحو بديل آخــر للتذكر، كأنهــا قريــة )ماكوندو( ذاتها، التي مرّت بمراحــل ثلاث، مكاناً للأحداث، لتكبر أرضاً ومتخيلاً، بعد أن كانــت بضعة بيوت مــن الطين «تذكروا دائمــاً أن الماضي مــا هــو إلا كذبة، أنه ليــس للذاكــرة دروب للعــودة.» هــذا التوصيــف في تشــابه فقــدان الذاكرة والقــوى الغيبيــة والســحر والخوارق والمــوت، تشــعرنا بربــاط وشــيج بين الروايتــن، وأن علاقتهمــا تتحــدد في كونيــة خطابهما تصنيفــاً مفهومياً في إنتــاج معرفة سوســيولوج­ية، تتقصد تنقيــة ذاكرة الشــعوب، «وجعــل ما لا يمكن الاستدلال عليه مرئياً وإنتاج ما لا يبلغه أي تصور آخر سواه.» وقد تبــدو ثيمــة الذاكــرة منبعاً في أعمــال روائية أخرى، لكن دون تشــابه مــع روايــة «النسّــاي» فــي أشــكالها الســردية أو وقائعهــا أو متخيلها، إنما بتســليط الضوء على ثيمة التذكّر التي تنفتح على اشــتغالات أخرى، تتشارك مفهوميــاً في إعادة صوغهــا عبر نافذة التخييل، كمــا في رواية «الشعلة الخفيفة للملكة لوانا » لأمبرتو إيكو » حين يفقد بطل الرواية )يامبو( ذاكرته نتيجة حادث، لكن ذاكرته تســتدعي خزينها المؤرشف صوراً وعلامات للأشــياء ومســيماته­ا، كأنهــا ولادة قســرية تريد ولــوج الحيــاة مــن جديد، حياة تعيد تســمية الأشياء باســتنطاق خبــرة الذاكرة البســيطة، علــى مســتوى الحــوادث والمعلومــ­ات والأزمنة، تلك المرتبطة بهوية مؤقتــة، كأنهــا إفاقــة مــن غيبوبــة لا وضوح فيهــا، إنما تريــد الحفــاظ على جــزء من حضورها. وفــي اســتدعاء آخــر مــن

وليد النعاس *

محكيات «النسّاي».. «بعد ما يقارب من الســاعة على شــروعه في البكاء، التي تبعت عشــيات ومســاءات عدة، مســح دمعه بكم الــرداء، وألقى نظــرة متأملة طويلة إلــى الحصــان، عانقــه ثانية ثم قبله وابتعد خطوات إلى الخلف مصوباً فوهة البندقية إلى رأســه». «كره المرايا شــعور ترعرع معه منــذ أن كان صغيراً، يستشيط غضباً كلما لاحت شظية مرآة أمام وجهه».

إذ يذكرنــا النصــان أعــاه بروايــة «طبــل الصفيح» لجونتر غــراس، وهي تصف لنــا إنســاناً تباطأ نموه بســبب حادث عارض أصابه زمن طفولته، كان مــن تأثيره أنــه يســتطيع تحطيم زجاج الأبواب والنوافــذ، إذا ضرب على طبلة معلقــة على صــدره، مع صــراخ وعويل يرافق هذا الفعل.

وقــد نلمــح في وقائــع بطــل روايته )النسّــاي( المنعوت بـ)ن - ح( تشاركاً مع بطل روايــة «المحاكمــة» لكافكا، من حيــث عبثيــة الحيــاة التي تقــوده نحو متاهــات لم تكــن مــن اختيــاره، أو من تصميــم ســابق لهــا، ذلك حين يســرد بطــل رواية «النسّــاي( أوجاعــه وتيهه المنفلــت عــن واقعــة، فيقــول: «ربمــا ســيكون فــي مقدورنا أن نتقاســم هذا العالم مع كائنات لا يســايرنا شــك في أنهــا تقترف الأخطــاء والجرائم». وفي نص آخر يقول: «لقد تعلمت أن الأشــرار يتــم استنســاخه­م والديكتاتو­ريين يتم نســخهم، والطغــاة يتشــبثون بأمزجة الكراسي».

وحين يحتج فلسفياً يقول: «تقولون الأسد هو خراف مهضومة، لكن الكائن الــذي يشــبهكم هــو الشــكل النهائــي لحيوانــات دقــت أعناقهــا، وســلخت وطهيــت وقطعت إلى شــظايا ومضغت ومن ثم دفعت إلى الغائط».

فاســتدعاء­ات ثيمــة التذكــر كانــت حاضــرة فــي متــون ســردية أخــرى، لكنهــا فــي روايــة «النسّــاي» بقيــت دلالاتها مســكونة بفراغــات ذات أبعاد مفتوحة التأويل، كأنها لعبة من الكاتب إلــى القــارئ، مقصــود منهــا ســحبه إلــى وقائعهــا، مقنعــاً إيــاه بحوادثها، ومستســيغاً لســردها، ليــزداد جريــاً وراءه وشوقاً لمعرفة غرائب عوالمه. ٭ كاتب عراقي

 ??  ??
 ??  ?? يوسفالمحسن
يوسفالمحسن

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom