Al-Quds Al-Arabi

قريبا مع بيزوس: كوكب الأرض «راحت عليه»

نعيمة عبد الجواد

-

■ «بشــرية مثالية» هــي حلم يُراوِد البشــر منذ بــدء الخليقة على كوكــب الأرض، التــي أعطت الكثير لسُــكَّانها ، ولم تجنِ منهم ســوى الخــراب والدمار. ومع تناقص مــوارد الأرض، وتقلب مناخها لدرجة جعلت ســكان كندا يموت منهم المئات، جــراء ارتفاع درجات الحرارة إلى ما يربو على الأربعين، وكذلك حدوث فيضانات غير مســبوقة في دول أوروبية مثل، ألمانيا وبلجيكا وهولندا في ما يشــبه التســونام­ي يتأكد الإنســان يوما تلو الآخــر أن الأرض ضاقت بهمجية ســكانها، وقررت أن تنتقم ممن يخربونها.

كوكب الأرض يقوم بتخريب نفســه، بــل إن ما يحدث هو مجرد رد فعل إزاء تصرفات ســكانه الذين لا ينفكون عن نهبه وتخريبه. لكن، لا يزال يدهشنا الإنسان بتصرفاته غير المبررة وصعبة الفهم.

مــع مســتهل التســعيني­ات وجدنــا دعــوات للحفاظ علــى الأرض ودرجــة حرارتها، ومــن ناحية أخرى هنــاك أطراف تُحــاول الدعوة للتعايــش الســلمي بين جميع أطياف البشــر؛ ســواء من خلال نشــر قيــم المحبة والإخــاء، أو من خلال فــرض قوانين تُلزم البشــر باتباع السلوك الحضاري. ومع كل هذا لا تزال الهمجية سمة البشر، لدرجة قيــام معركة طاحنة بين كوكب الأرض وســكانه، والدول بعضها مع بعض، وبين الأمراض والفيروسات والبشر، وجميعها مشكلات تُنذر بكوارث آدمية وبيئية.

وعلــى النقيــض الآخر، وعلــى هامش كل هــذه المعــارك الطاحنة، ظهــرت فئة تجعل من الترفيه غاية، وعشــق الجمــال والكمال غواية. فبينما يسكن أغلب البشــر في مناطق مُزدحمة، هناك من يعيش على أطراف المدن في بيوت فارهة شــديدة الرفاهية، يرتاد سكانها مراكز التجميل لدرجة جعلتهم شديدي الجمال يتمتعون بأجساد مثالية.

أما النشاط الأساسي لسكان تلك البقاع المرفهة فهو الاستمتاع، ثم الاســتمتا­ع لأن ثرواتهم تلد ثروات، كما يعتقدون. وقد فضلوا العيش علــى هامش الحياة فــي عالمهم الخاص لحين خلق عالــم ومناخ يليق بهــم وبتوجهاتهم. وفي ما يبدو أن تقســيم عالم اليــوم بتلك الطريقة لم يــأتِ من فراغ، فعند وجود طرف موبوء يجب عزله تماما حتى يتم الحصول على عالم مثالي يحاكي ما يحلم به الشعراء والفلاسفة.

وبعيدا عن المشاهد الدامية والحزينة والمتناقضة، فهناك مهندسو العالــم الجديــد الذين يخططــون له وفــق نظرية الانتخــاب الطبيعي للعالم داروين، ولا يزال مصير ســكان الأرض غير واضح، عدا بعض التغييــرا­ت الجوهرية التي تفاجئنــا بحدوثها كل يــوم، لتنقل العالم معها لأجواء غير مسبوقة من التقدم والحلم بعالم جديد سعيد. وبعد أن أدهش العالم سكانه بهبوط أمريكيين وروس على سطح القمر في نهاية ســتينيات القرن الماضي، ومع مستهل التسعينيات بدت أحلام الوصول للفضاء بعيدة مرة أخرى بســبب تكلفتها غير المسبوقة التي تثقل كاهل أغنى حكومات العالم وأخص بالذكر هنا الولايات المتحدة الأمريكية وأنه من الأحرى توجيه التمويل المخصص لأبحاث الفضاء إلى إغاثة البشرية التي تعاني. بيد أن اقتصاد عالمنا المعاصر علّمنا أن مــا لا تقدر الحكومــات على تنفيذه، يبرع القطــاع الخاص في تمويله، وبما أن البرمجيات هي ســمة العالم الجديد، فقد احترف مســاراتها اثنــان من أبرز رجــال الأعمال فــي العالم وأكثرهم تنافســا؛ لتحقيق اكتشافات وإنجازات لا تستطيع الحكومات مماراتها. ففي حين يمثل العالم والملياردي­ر الأمريكي إيلون ماســك قطب العلوم والاكتشــا­فات الحديثة، يمثل جيف بيزوس أغنى رجل في العالم قطب العالم الجديد الذي جعل مــن العلم صناعة تدر أموالا طائلــة، ويتصارع على زعامة العالــم الجديد الــذي قوامه الكيانــات وليس الحكومــات. وفي حين قام إيلون ماســك بتكوين شركة ســبايس إكس ‪Space X‬ لأبحاث الفضاء، التي تجد أســهم مشــروعاته­ا رواجا كبيرا فــي البورصات العالميــة، قــام جيف بيــزوس، من أجل توفير وســائل نجاح شــركة أمازون، بإنشــاء شــركة لتصنيع الطائــرات عــام 2000 وأطلق عليها اسم بلو أوريغين ‪Blue Origin‬ وهي شركة يقوم بتمويلها القطاع الخــاص. وحين وجد أن أبحاث الفضاء وأســهم مشــروعاته­ا تجني المليارات في البورصات العالمية، قام بافتتاح قســم كبير في الشــركة لأبحاث ومشــروعات الفضاء والتخطيط لنقل المشــروعا­ت العملاقة لكوكب المشترى القريب، في حين يسعى إيلون ماسك للمريخ البعيد. ولحــن تنفيذ ما يرمي له، قــام جيف بيزوس بخطوة غير مســبوقة، ألا وهي افتتاح قســم لســياحة الفضاء، حيث يوجد بالشــركة قسم لرحلات الفضاء شبه المدارية.

وفــي إطــار التميُّز وخلق عالم آخــر للصفوة المرفهــة، قام بيزوس يــوم الثلاثــاء الموافــق 20 يوليو/تمــوز 2021 بإطــاق أول صــاروخ سياحي المســمي بـ»الراعي الجديد» ‪New Shepherd‬ في رحلة شــبه مدارية للفضاء. والرحلة التي اســتغرقت عشــر دقائق وعشــر ثوان تمامــا، كانت في مركبة ســياحية مريحة، لها نوافــذ بانورامية تتيــح للراكب رؤيــة الفضاء من جميــع الاتجاهات. وتخطــت الرحلة خــط كارامــان ‪Karaman Line‬ الــذي يفصــل الأرض عــن المدار الفضائــي، وهو يقع على بُعد 62 ميلاً فوق مســتوى الأرض، في حين وصلت الرحلة إلى بُعد 66 ميلاً. وروَّاد الرحلة جماعة فريدة تشــكلت من جيف بيزوس وأخيه مارك بيزوس، وكذلك أكبر رائدة فضاء والي فانك البالغة من العمــر 82 عاما، التي قامت في الماضي بإجراء جميع اختبــارات الفضاء، لكن لم يختاروها للســفر للفضاء، وكذلك الطالب الهولنــدي أوليفر دايمن البالغ من العمــر 18 عاما، الذي اختير للرحلة بعد أن رســى على تذكرته المزاد وبلغت قيمتها 28 مليون دولار. وكان أول ما أدلى به بيزوس بعد الرجوع: «أنا ســعيد، سعيد، سعيد... ولم أكــن أبدا ســعيدا لهذه الدرجة». وقــد تلقى بيزوس بعــد هذه الرحلة عروضا بمليارات الدولارات من أثرياء العالم للقيام برحلات مماثلة.

وعلــى الرغم من الاحتفاء العالمي بالرحلة، واجِه بيزوس انتقادات واســعة أهمهــا أن النقود التــي تم اســتخدامه­ا لتمويل تلــك الرحلة الترفيهية لربمــا كان من الأحرى توجيهها لمشــروعات تخدم المجتمع والبيئــة وأبحاث المناخ، وليس لزيادة الفجــوة بين الأغنياء والفقراء، لكن دافع بيزوس عن نفســه بالتأكيد أن هدفه نبيل ويســعى إلى نقل الصناعــات الكبرى للفضاء. وبالفعل، ذلك هــو الهدف الُمعلن من قبل بيزوس منذ بداية تكريس تمويله لأبحاث الفضاء.

ما يثيــر الحفيظة هو أن نقــل الحياة والصناعــا­ت ومعهم الأثرياء لكواكب أخرى، لا يبشــر بالخير لأهل الأرض المنكوبين الذين تطحنهم الصراعات والأمراض وغضب البيئــة ونفاد الموارد، وما خفيَ أعظم. المســتقبل محتوم، وتم التخطيط له منذ أمــد بعيد. فهل مصير الأرض التحوُّل لكوكب مريخ جديد على الأمد البعيد؟ ٭ كاتبة مصرية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom