الدرس التونسي الجديد
■ حين يســتقر، يمكن التنظيم الديمقراطي للدولة وللمجتمع المواطنات والمواطنين من المشاركة في الشأن العام فيظــل ضمانــات للحريات ولحقوق الإنســان ولكرامته ولتكافؤ الفرص وبحث مشروع عن المبادرة الفردية.
بالقطع وبالتحــرر من المقاربة المثالية للديمقراطية، تتفــاوت حظوظ الناس وتؤثر الأوضــاع الاقتصادية والاجتماعيــة والمعيشــية فــي درجــات شــعورهم بالحريــات وحقوق الإنســان وممارســتهم للمبادرة الفرديــة. إلا أن تمكــن قطاعات تتســع باطراد يمثل قاعدة أســاس للديمقراطية، ويقترن بها دوما التحرر من الخوف النابــع إن من قمع الحــكام للمحكومين أو من تراكم المظالم المجتمعية. وفــي الكثير من الحالات، توفر الحريات والحقوق والكرامة الإنسانية والمبادرة الفرديــة والتحرر من الخــوف بيئة مســاعدة تدفع بالدولــة والمجتمــع المعنيين إلــى التنمية المســتدامة والتقدم.
علــى الرغم مــن ذلك، يجافــي الصــواب الاعتقاد بأن القبــول الشــعبي للتنظيم الديمقراطــي للدولة وللمجتمــع يســتند فقــط إلــى ضمانــات الحقوق والحريــات الشــخصية والعامة التي تقر دســتوريا وقانونيــا وتفعل سياســيا واجتماعيــا واقتصاديا. فبجانب ضمانات الحقــوق والحريات، تدلل الخبرات التاريخيــة والمعاصرة للديمقراطيــات على أن قبولها الشــعبي يرتبط بأفضليتها مقارنــة بالأنماط الأخرى للحكم ولإدارة الشأن العام فيما خص تحقيق التنمية المستدامة والتقدم والســلم الأهلي. وعد الديمقراطية هــو اقتران الحقــوق والحريــات بتحســن الأحوال المعيشــية للمواطنات وللمواطنين وارتفاع مســتوى الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية التي يحصلون عليها وتمكينهم بتمايزاتهم من المشاركة في النشــاط الاقتصادي على أساس من تكافؤ الفرص والمنافسة وضمان مشــاركتهم في الحياة الاجتماعية وكذلك ممارستهم للشعائر الدينية في إطار من الحرية والمساواة والأمن.
وعد الديمقراطيــة والتحول الديمقراطي هو اقتران الإقــرار الدســتوري والقانوني للحقــوق والحريات بتنامي التزام الدولة ومؤسســاتها وأجهزتها والتزام الكيانــات الجماعية غير الحكومية بســيادة القانون والسلمية ومحاربة الفساد واستغلال المنصب العام.
أما حين تخفق الديمقراطيات والمجتمعات الســاعية إلى التحول الديمقراطي في تحقيق التنمية المســتدامة والتقدم والسلم الأهلي، فإن حضور ضمانات الحقوق والحريات الشخصية والعامة لا يحول بين الناس وبين الاندفاع الجماعي نحو تأييد أنماط أخرى للحكم تبني قبولها الشعبي على وعد مضاد، إن باستعادة التنمية والتقدم كما فعلت الفاشــيات الأوروبية والآســيوية فــي النصف الأول مــن القرن العشــرين والحكومات الفاشــية والعســكرية في أمريكا اللاتينية في نصفه الثاني أو بإنقاذ الســلم الأهلي وبنــاء الدولة القوية وتحقيــق التحرر الوطني كما فعلت نخب الاســتقلال )عســكرية ومدنية( فــي العديد من الــدول العربية والإفريقية في النصف الثاني من القرن العشــرين أو بخليــط من كل هذا ومعه الحنين إلــى الحد الأدنى من الاستقرار الذي تذهب به دوما التحولات الديمقراطية في بداياتهــا والتخلص مــن قوى سياســية تختزل الحرية في صراعــات حزبية لا تنتهي وفي تأجيج غير مســؤول للاســتقطاب المجتمعي كما تدلــل خيرات ما
بعد الربيع العربــي 2011. وفي حالات أخرى، كالصين التي لم يتطور بها أبدا التنظيم الديمقراطي، تستجيب أغلبية مستقرة من الناس لمســاومة جماعية جوهرها قضاء الدولة على الفقر وضمانهــا للتقدم الاقتصادي والاجتماعــي وللتنمية المســتدامة وتخلــي المجتمع، باســتثناء مجموعات صغيرة مــن المفكرين والكتاب والصحافيــن والحقوقيين وأســاتذة الجامعات، عن المطالبة بالحقوق والحريات الشخصية والسياسية.
غيــر أن الإشــكالية الكبــرى هنا هــي أن الخبرة التاريخية والمعاصــرة لأنماط الحكم غير الديمقراطية تثبت عجزهــا عن تحقيق التنمية المســتدامة والتقدم والســلم الأهلي والحفــاظ على الاســتقلال الوطني على نحو مســتقر وتدلل أيضا على تواتر زجها بدولها ومجتمعاتهــا إلى أتون أزمــات اقتصادية واجتماعية وسياســية لا تنتهــي. وقد يســتفيق النــاس، وبعد اندفاعهم لتأييد التخلي عن الديمقراطية أو استبعادها من قاموس المرغــوب به جماعيا على خســارتهم لكل شــيء بغيــاب التنمية المســتدامة والتقــدم وانهيار ضمانات الحقوق والحريات. هكذا انتهت الفاشــيات الأوروبية والآسيوية والحكومات العسكرية في أمريكا اللاتينية، وهكذا كان الســجل التاريخــي للعديد من نخب الاستقلال في الدول العربية والإفريقية.
ولم يبتعــد عن خبــرة فشــل أنماط الحكــم غير الديمقراطيــة في تحقيــق التنمية المســتدامة إلا دول كالصــن لهــا خصوصيــة جليــة ترتبــط بالتاريخ والجغرافيــا والمســاحة والكثافة الســكانية والموارد الطبيعيــة الهائلة، ودول مثل ســنغافورة التي تبنت نموذجا تنمويــا ناجحا عمــاده قيــادة نخبة الحكم للقضاء على الفقر ونشــر التعليم ومحاربة الفســاد،
ودول ذات ثــروات طبيعيــة هائلــة كالــدول النفطيــة في الخليج.
يعنــي هذا، وأســجله اليــوم والأزمــة المجتمعية والسياسية الراهنة في تونس تدلل بجلاء على فقدان الناس للثقة في الآليات والإجراءات الديمقراطية بعد أن أمعنــت قوى حزبية عديدة فــي اختزال الحرية في مماحكات واســتقطاب وأهدرت بسوء إدارة بالغ حق المواطنــات والمواطنين في النجاة صحيــا واقتصاديا مــن جائحة كورونا التــي تعصف بالبــاد، يعني أن الأمل في ضمانات فعالة ومســتقرة لحقوقنا وحرياتنا يظل معقــودا على اســتعادة القبول الشــعبي لبناء الديمقراطيــة كحل وتمكــن آلياتهــا وإجراءاتها من إحداث مفاعيلها في المجتمع باتجاه التنمية المســتدامة والتقدم والســلم الأهلي والدولة القوية العادلة دون انقطاعات.
يعني هــذا أيضا ضــرورة وجود نخب سياســية واقتصادية ومجتمعية قادرة على التفكير بواقعية في مســارات بناء الديمقراطية والحفاظ عليها وفي سبل حقيقية للحد مــن المماحكات والاســتقطاب وتجنيب البــاد أخطــار الأزمــات الاقتصاديــة والاجتماعية والسياسية والأمنية، يعني هذا، أخيرا، حتمية الربط بين التحولات الديمقراطية المأمولة وبين الوعد بتحقيق التنمية المستدامة والتقدم والسلم الأهلي والربط دون استعلاء زائف بين المكتسبات الديمقراطية على أصعدة ضمانــات الحقوق والحريــات وبين مطالــب الناس الحياتية ومحورها في بلادنــا الفقيرة الخبز والدواء والأمن.